تقرير: من الصعب التزام أي كتلة سياسية علنًا بتدابير الورقة البيضاء

وقع ما كان محذورًا، حيث طرقت الازمة الاقتصادية، باب رواتب الموظفين التي تعجز الحكومة للشهر الثاني على التوالي عن توفيرها. الأزمة التي سببها بالأساس الاعتماد الكلي على إيرادات النفط، وعمقتها سياسات الحكومات المتعاقبة، استفحلت اليوم لدرجة أن أصحاب القرار باتوا يفكرون بإجراءات قاسية لإيقاف تداعيات الازمة.

واستعرض تقرير، نشره معهد واشنطن، حمل عنوان “الورقة البيضاء: حين يطرق التكيف الهيكلي باب العراق”، النتائج المحتملة لبعض الإجراءات التي أوصت بها الورقة البيضاء، ومن بينها تخفيض رواتب الموظفين وخفض قيمة العملة الوطنية.

وصف التقرير الذي كتبه الباحث سردار عزيز، “الورقة البيضاء” بالخطوة الجديدة وغير الاعتيادية في تاريخ البلاد السياسي.

وفي ما يلي أبرز ما جاء في التقرير:

أصدرت الحكومة العراقية مؤخرًا ورقة بيضاء تفصّل فيها الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي ترمي إلى انتشال البلاد من مشاكلها الاقتصادية الحالية. وتقترح الورقة البيضاء للإصلاحات الاقتصادية – التي وضعتها خلية الطوارئ للإصلاحات المالية والاقتصادية، المشكّلة في أيار/مايو من أجل إدارة إصلاحات البلاد الاقتصادية – عمومًا إصلاحات تتماشى مع متطلبات “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” للدول النامية. وفي حين يوافق الخبراء على أن هذه التدابير القاسية ضرورية، سيكون من الصعب تطبيقها وستواجه على الأرجح اعتراضًا من الشعب العراقي.

ومن خلال إصدارها الورقة البيضاء، قامت الحكومة العراقية الحالية بخطوة جديدة وغير اعتيادية في تاريخ البلاد السياسي. فنصف المستند المفصل المؤلف من 96 صفحة هو تشخيص لمشاكل العراق الاقتصادية وجذورها.

ومن خلال تفصيل جذور هذه الأزمات الاقتصادية والمالية، تعيد الورقة البيضاء الأزمة الحالية التي تعصف بالبلاد إلى سبعينيات القرن الماضي. فيصف التقرير كيف عوّلت الدولة لنصف قرن من الزمن على إيرادات البلاد النفطية المتزايدة فقط من أجل “توسيع القطاع العام” و”السيطرة بشكل مباشر وغير مباشر على الاقتصاد”. وخلال هذه الفترة، شهد العراق بروز دولة ريعية. وقد استمرت هذه المشاكل خلال القرن 21 بسبب عدم تطبيق “سلطة الائتلاف المؤقتة” لبرامج “العلاج بالصدمة”، ما ترك البلاد عرضةً لأنظمة اقتصادية ومالية تتسم باقتصاد موجّه ودولة ريعية ونظام طائفي حاكم ودرجة عالية من تدخل الدولة في مفاصل البلاد.

واستجابة لماضي البلاد الاقتصادي المضطرب، تهدف الورقة البيضاء إلى إرساء التوازن في الاقتصاد العراقي من خلال السماح للدولة بتنويعه وسط استحداث فرص اقتصادية للمواطنين. وتبرر ضرورة التنوع هذا بالاستناد إلى تقرير “صندوق النقد الدولي” لعام 2019 الذي حذّر من أنه “في ظل عدم إدخال أي تغييرات على السياسة، سيؤدي عجز الموازنة المتزايد إلى تحييد الموارد عن الاستثمارات الأساسية لإعادة إعمار البلاد وتحسين الخدمات العامة، وسط تقويض الاحتياطات وطرح مخاطر تهدد الاستدامة على المدى المتوسط”. لكن لا يمكن بسهولة تحقيق الأهداف الواردة في الورقة بما أن تطبيق الإصلاحات سيتطلب تدابير قاسية.

وفي العام 2003، صرّح علي علاوي، الذي كان آنذاك وزير التجارة في الحكومة المؤقتة، والذي يُعتبر مهندس الورقة البيضاء الحالية بأننا “عانينا بسبب النظريات الاقتصادية الاشتراكية والماركسية ومن ثم المحسوبية. والآن نواجه احتمال تطبيق أصولية السوق الحرة”. وهذا النوع من الأصولية يتجلى بشكل واضح في الورقة البيضاء. فتوصياتها تشبه إلى حدّ كبير برامج التكيّف الهيكلي التي يفرضها “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” على الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وغالبًا ما ترغم هذه البرامج الحكومات على تقليص النفقات الحكومية واقصارها على الحاجات الأساسية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والبيئة ودعم أسعار السلع الأساسية على غرار الحبوب الغذائية. فضلًا عن ذلك، تلزم هذه البرامج الحكومات بخفض قيمة عملاتها الوطنية وزيادة الصادرات، ما يؤدي إلى تراجع الأجور الفعلية ودعم الاستثمارات الأجنبية الموجهة نحو التصدير. ومن المفترض أن تحصل كل هذه التغييرات في سوق مالي حرّ ومفتوح.

غير أن تطبيق مثل هذه التغييرات في السياسة سيكون صعبًا على الأرجح في العراق. وفي هذه الحالة، يُعتبر تخفيض معدل مجموع الأجور إلى النصف ووقف الدعم وخفض قيمة العملة والاقتراض، الركائز الأساسية للورقة البيضاء. لكن أيًا من هذه المهمات لن يكون بسيطًا ولن يحظى الكثير منها بالتأييد الشعبي.

وفي ما يتعلق بالاقتراض، تسعى الحكومة العراقية إلى اقتراض 35 مليار دولار لتمويل عملياتها. لكن البرلمان العراقي لا يسمح للحكومة بالاقتراض من الخارج، لذا فإن الاقتراض المحلي هو الخيار الوحيد. إنما في دولة تمزقها الحرب، تُعتبر مصادر التمويل المحلي ضئيلة.

وعلى نحو مماثل، لن يكون تحسين الكفاءة والإنفاق في القطاعات العامة العراقية – وبخاصةٍ من خلال خفض قيمة العملة ووقف الدعم – سهلًا. على سبيل المثال، تُعتبر الكهرباء، أحد أبرز مجالات الإنفاق العام في العراق، مشكلة اقتصادية وفنية وجيوسياسية معقدة في البلاد. وكان تقرير “صندوق النقد الدولي” 248/19 قد “أوصى بأنه يجب أن تولي تدابير الإنفاق الأولوية لاحتواء النمو في مجموع الأجور وخفض الدعم الممنوح إلى قطاع الكهرباء”.

غير أن هذه التدابير تتعارض مع الممارسات القائمة. ففي العراق، ثمة فرضية بأن الدولة ستوفر موارد الطاقة وتدعمها.

ونظرًا إلى الطبيعة المعقدة لهذه المشاكل في العراق، من المرجح أن تواجه هذه الإصلاحات مقاومة سياسية. فقد صدرت الورقة البيضاء في وقت يناقش فيه العراقيون عملية ونتائج الانتخابات العامة المزمع إجراؤها العام المقبل في حزيران/يونيو 2021. في مثل هذا الوقت، من الصعب توقّع التزام أي كتلة سياسية علنًا بتدابير قاسية مماثلة اقترحتها الورقة البيضاء. كما يشير النقاد إلى أنه ليس من واجب حكومة تصريف أعمال وضع إصلاحات اقتصادية متوسطة الأمد ستستمر لغاية العام 2023، أي خلال سنوات من ولاية الحكومة المقبلة.

ومن المرجح ألا تلقى معظم هذه التدابير تأييد الشعب العراقي. فالتركيز على خفض الأجور هو سيف ذو حدين، حيث أن رواتب القطاع العام هي الجزء الوحيد من نفقات الحكومة التي ينتهي بها المطاف في السوق المحلي ويتمّ تداولها في أوساط الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وبالتالي، تشكّل فائدة مهمة للشعب العادي. وعلى الحكومة العراقية المضي بخفض أجور القطاع العام بشكل تدريجي وحذر؛ فخفض الأجور بواقع النصف وخفض قيمة العملة العراقية سيكونان سببًا لاتساع رقعة الفقر، وهي مشكلة تشّل البلاد أساسًا.

علاوةً على ذلك، قد يكون خفض قيمة العملة العراقية صعبًا في ظل الاقتصاد العالمي الحالي. فمن وجهة نظر الدولة، من المنطقي اقتراح خفض قيمة الدينار العراقي. وكان علاوي ألمح إلى أن دينارًا أضعف قد يعزّز تنافسية السلع العراقية، فيوفر بالتالي دعمًا لقطاعات على غرار الزراعة والصناعة. وفي هذا السياق، أشار علاوي إلى أن “كافة الدول التي تصدّر إلى العراق، على غرار تركيا وإيران والصين والسعودية، خفضت قيمة عملاتها. ولا يمكننا المنافسة إن أبقينا قيمة الدينار ثابتة ومستقرة”.

غير أن خفض قيمة الدينار سيساعد على تحسين الصادرات العراقية فقط في حال تراجعه إلى مستوى أقل حتى من عملات الشركاء التجاريين، التي هي منخفضة أساسًا. فالريال الإيراني هوى مقابل الدولار، كما أن الليرة التركية تسلك مسارًا تنازليًا مماثلًا. ومن شأن خفض قيمة الدينار إلى مستوى أدنى من هذه العملات أن يكون سيئًا وخطيرًا ربما.

وعليه، فإن الاقتصاد العراقي يتخبط في مأزق فعلي: فقد حذّر الخبراء من أن العراق سيواجه الإفلاس في غياب أي خطوات صارمة، ولكن من المرجح أن تسفر خطوات مماثلة عن معاناة كبيرة لأغلبية الشعب العراقي. وشدّد النقاد على أن البلاد يجب أن تركّز على خفض موازنتها الكبيرة المخصصة للأمن والدفاع.

كما أن المشاكل الأمنية في العراق تمثل بدورها معضلة. ففي المناطق التي تشهد اضطرابات، توظف الحكومة العراقية الشباب في القطاعات الأمنية كوسيلة لتأمين الوظائف لهم، ما يضخّم الموازنة الأمنية بشكل أكبر. فالذين يعملون في قطاع الأمن لا يساهمون في الاقتصاد، في حين أن الوظائف الهائلة في هذا القطاع تشكّل بيئة حاضنة للفساد والموظفين “الأشباح” والأجور المزدوجة. وفي حالة قوات الحشد الشعبي، التي يُخصص لها مبلغ ملياريْ دولار في الموازنة السنوية، فتُعتبر مساهمتها الأمنية مشروطة.

أخيرًا، تعتبر الورقة البيضاء إشارة إلى أن العراق بحاجة إلى تغيير جذري ليس فقط في سياسته الاقتصادية بل أيضًا في مجالات أخرى من الحكم. وفي حين يوافق كافة العراقيين نظريًا على الحاجة إلى التغيير، يتفق عدد قليل للغاية على الطبيعة التطبيقية لما يجب أن يكون عليه التغيير. رغم ذلك، ما من خيار سهل أمام البلاد حتى إن تمكنت مختلف أطرافها من الاتفاق على سبيل لتحقيق ذلك. فمن المستبعد أن يرتفع سعر النفط قريبًا، وبالتالي لن تحلّ مشاكل الموازنة على الأرجح. وبما أن الآفاق القاتمة الحالية أقنعت الطبقة السياسية العراقية بضرورة دعم الورقة البيضاء، سيتوقّف الكثير على قرارات الحكومة في إدارة تطبيقها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here