الجذور الصوفية لفكرة ولاية الفقيه المطلقة

بسم الله الرحمن الرحيم
الجذور الصوفية لفكرة ولاية الفقيه المطلقة

نبيل الكرخي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الغنوصية Gnosis ووجهاها الآخران: التصوف والعرفان! مصطلحات تدور في فلك واحد وهدفها قضية واحدة محددة وهي الحصول على المعرفة بعيداً عن الوحي الالهي من اجل التحكم بالكائنات جميعها وفي مقدمتها الانسان1!
حاول بعض المسلمين اسلمة الغنوصية كما هو حال اسلمة بقية العلوم، فكان الناتج هو التصوف عند أهل السنة والعرفان عند الشيعة الامامية، حيث تم خلط الزهد والعبادة من جهة بالغنوصية الباطنية من جهة اخرى. لكن بقي الهدف نفسه وهو الحصول على المعرفة من اجل التحكم بالكون.
يتألف الجزء الغنوصي من التصوف من عنصر الكشف والشهود، وقد برع به اشخاص عديدون بصورة فردية في اول الامر ثم تطور الى اتخاذ شكل المدرسة الصوفية، فكان ذو النون المصري وابراهيم بن ادهم والبسطامي والحكيم الترمذي والسهروردي وابن عربي وغيرهم كثيرون. وبدأ التصوف في داخل المجتمع الذي يعتنق افراده مذاهب اهل السنة ثم تسلل في القرن الثامن الهجري الى التشيع وكان اول رواده هو السيد حيدر الاملي الذي تطرف في تصوفه حتى انه قال: (لانّ الشيعىّ و الصوفىّ اسمان متغايران (يدلّان) على حقيقة واحدة، و هي الشريعة المحمديّة)2، وقال وهو يتحدث عن المتصوفة: (فنريد أن نستدلّ على حقّيّتهم بالدلائل النقليّة و البراهين العقليّة اجمالا، قبل الشروع في المعارضة بينهم تفصيلا. و نثبت أنّ هؤلاء الجماعة (الذين) هم الصوفيّة، (هم) الموسومون بالشيعة الحقيقيّة و «المؤمن الممتحن» و غير ذلك، ليعرفوا (يعنى أصحابنا الشيعة) قدرهم، و يتركوا انكارهم، و يتحقّقوا أنّهم منهم)3.
يقول الدكتور شهرام بازوكي: (ويعتقد السيد حيدر الآملي أنّ التصوف الحقيقي هو التشيع بعينه، وغالباً ما يطرح التشيع مذهباً فقهياً إلى جانب المذاهب الفقهية الأخرى كالمذهب الحنبلي والحنفي والمالكي والشافعي، أو مدرسةً كلامية كالأشاعرة والمعتزلة)4.
وبدأت تنمو شجرة التصوف في داخل المجتمعات الشيعية، وكان المتصوفون الشيعة يفضلون اتخاذ لقب العرفاء ويستبدلون لفظ التصوف بلفظ العرفان لدفع شبهة التشبه بأهل السنة الذين لا يتبعون آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في قضاياهم العقائدية والفقهية والاخلاقية، ولكي يتجنبوا اثارة علماء الشيعة الذين يروون احاديث آل البيت الاطهار (عليهم السلام) في ذم المتصوفة.
وظهر الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) واتخذ من ابن عربي مرشداً اعلى ومن تعاليمه كتاباً مقدساً فتأسست مدرسة الحكمة المتعالية التي تجمع بين الكشف والفلسفة والشريعة، خلطة غريبة غير متجانسة سبق لابن عربي ان خلطها وبرع ملا صدرا بنشرها بين الشيعة!
بينما كان المتصوفون السنة يتحدثون عن القطب فقد كان المتصوفون الشيعة (العرفانيون) يفضلون التحدث عن الانسان الكامل الذي تلقفوا اساس فكرته من ابن عربي! والمؤدى واحد وهو وجود انسان غير معصوم وغير منصوب من قبل الله سبحانه وتعالى يقود البشرية بعد ارتقاءه الى مرتبة الانسان الكامل او الاقتراب منها من خلال جهاده النفسي وخلواته وتمسكه بالعمل بالشريعة ومزج كل ذلك مع القضايا الفلسفية المعقدة والافتراضية! ويميل العرفانيون (المتصوفون الشيعة) الى الاعتراف بأن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام) هم النموذج الاتم للانسان الكامل، غير انهم لا يمنعون من التحدث عن الانسان الكامل في اطار خارج المحيط المعصوم عبر ادعاء فناء العارف (الصوفي) في المعصوم (عليه السلام) بنفس طريقة مزاعم فناءالحلاج في الذات الالهية المقدسة! وبذلك فهم لا يتورعون عن التحدث عن امكانية وصول الانسان غير المعصوم الى مرتبة الانسان الكامل.
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)5.
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي: (فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله الى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض , اي وصوله الى كماله الاخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً , اي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه , وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي , وهو تمكنه من شهود ان لا ذات ولا وصف ولا فعل الا لله سبحانه على الوجه اللائق بقدس حضرته جلت عظمته من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك)6.
فهاتين المرتبتين لكمال الانسان (الانسان الكامل الاكمل) و(الانسان الكامل) يمثلان المعصوم (عليه السلام) والفقيه المندّك والفاني في المعصوم (عليه السلام)، فالانسان الكامل غير المعصوم هو الذي يتمكن من الوصول الى المرتبة القصوى ومن خلال ذلك يتمكن من الحصول على المعارف من غير طريق الوحي ومن ثم من التحكم بالكون. ولذلك ففي الغنوصية يمكن لاي انسان من السعي للوصول الى تلك المرتبة والتحكم بالكون. اما العرفانيون الشيعة فإن عقيدتهم تفرض عليهم ان يكون المعصوم فقط هو الانسان الكامل وهذا يقطع الطريق على الآخرين من العرفانيين من السعي الى تلك المرتبة، ولذلك فقد اضطر العرفانيون الى الالتفاف على فكرة العصمة والامامة فتحدثوا عن الانسان الكامل الذي يندك في الامام ويفنى فيه!
واما قول السيد محمد حسين الطباطبائي (من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك) فلا يشمل مزاعم الفناء في الله تعالى، فالفناء هو امر غير الاتحاد وغير الحلول. فتبرئتهم عن الحلول والاتحاد لا ينزههم عن مزاعم الفناء!
ومن خلال حركة التاريخ وظهور دول واضمحلال اخرى، وتطور الحياة الاجتماعية للشيعة الى درجة ان تمكن علماؤهم من الوصول الى قمة الهرم القيادي السلطوي والتأثير عليه في زمن الدولة الصفوية ومن ثم في زمن الدولة القاجارية. فقد وجد بعض العرفانيون ان المهمة الحقيقية امامهم هي وضع فكرة الانسان الكامل غير المعصوم وغير المنصوص عليه من قبل الله سبحانه (في مقابل الائمة الاطهار (عليهم السلام) الذين هم منصوص عليهم من قبله تبارك وتعالى)، والذي يتحكم في الكون او على اقل تقدير يتحكم في مقدرات الدول والشعوب كخطوة اولى، وضعها في إطار شرعي ضمن نفس الخلطة الثلاثية التي تأسست عليها مدرسة الحكمة المتعالية: (الفلسفة والعرفان والشريعة). فكان اول ظهور شرعي لفكرة الانسان الكامل غير المعصوم الذي يقود الحياة على يد الشيخ احمد النراقي تحت اسم (ولاية الفقيه المطلقة) والتي وجدت لها اساس فقهي تستند اليه وجمعت معه خصائص الانسان الكامل الذي يقود الحياة والمختار من خارج اطار العصمة. فكان الفقيه العرفاني والفلسفي هو من لديه ولاية مطلقة على عباد الله ولديه كل ما للائمة الاطهار (عليهم السلام) من خصائص ولائية عدا ما انفرد الائمة به من خلال النص عليه!
اذن تكونت فكرة ولاية الفقيه المطلقة بعد جمع خصائص مصطلح الانسان الكامل الفلسفي والعرفاني الصوفي مع الادلة الفقهية على وجود ولاية للفقهاء ذات سعة معينة يراها اغلب الفقهاء – وعبر العصور – غير مطلقة. فالنصوص الشرعية تفيد بحسب الفقهاء وجود ولاية للفقيه على الفتاوى والقضاء، وربما قال آخرون بسعة اكبر من ذلك او اقل، فالقضية فقهية مرجعها هم العلماء المجتهدون فهم اهل الاختصاص في تحديد سعة الولاية التي يتمتع بها الفقيه، غير ان اياً منهم قبل ظهور الشيخ احمد النراقي (مولود سنة 1285هـ – 1771م) لم يقل بوجود ولاية مطلقة للفقيه كما هي مطلقة للامام (عليه السلام)!
اذن كان للمدرسة الغنوصية العرفانية (وهي من ثمار فكر وتراث ابن عربي) فضل السبق لايجاد فكرة (ولاية الفقيه المطلقة) عبر اسلوبها العجيب في خلط الشريعة مع الفلسفة والعرفان!!
قال ابن عربي: (فمن وقف على الحقائق كشفاً وتعريفاً إلهياً فهو الكامل الاكمل، ومن نزل عن هذه الرتبة فهو الكامل، وما عدا هذين فإما مؤمن أو صاحب نظر عقلي، لا دخول لهما في الكمال، فكيف في الاكملية؟!)7. ثم يضيف: (ولما لم يتمكن ان يكون كل انسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الانسانية – وان كان يفضل بعضهم بعضا – فأدناهم منزلة مَنْ هو إنسان حيواني، ويشارك الانسان الكامل بالصورة الانسانية، واعلاهم من هو ظل الله، وهو الانسان الكامل نائب الحق، الذي يكون الحق لسانه وجميع قواه، وما بين هذين المقامين مراتب، ففي زمان الرسل يكون الكامل رسولاً، وفيزمان انقطاع الرسالة يكون الكامل وارثاً، ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول، اذ الوارث لا يكون وارثاً إلا بعد موت من يرثه، فلم يتمكن للصاحب مع وجود الرسول ان تكون له هذه المرتبة، فلا تطمع في تخصيصك بشريعة ناسخة من عنده، ولا في إنزال كتاب، فقد اغلق ذلك الباب، فإن نهاية الولي ان يُشرِف على خطاب شريعة نبيه، وتزول القدم من قدامه، فتكون له درجة ميراث النبوة في اخذ الشريعة التي هو عليها، لا شريعة ناسخة لها، فتبقى الشريعة عليه محفوظة، ويعلو سنده فيها، اذ كان محمد (صلى الله عليه وسلم) لبنة الحائط، فكل دليل على مخالفته ساقط، فليست الصورة الالهية لكل نفس، وانما هي للنفس الكاملة، كنفوس الانبياء ومن كمل من الناس، والامر ينزل من الله على الدوام لا ينقطع، فلا يقبله إلا الرسل خاصة على الكمال، فإذا فقدوا، حينئذٍ أوجد ذلك الاستعداد في غير الرسل، فقبلوا ذلك التنزيل الالهي في قلوبهم، فسموا ورثة، ولم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتنزيل الالهي)8.
وقال ابن عربي: (ولما تعدد الكمًل من هذه النشأة، جعلهم الحق خلائف بعد ما كان خليفة، فكل كامل خليفة، وما يخلو زمان عن كامل اصلاً، فما يخلو عن خليفة وامام، فلا تخلو الارض عن ظهور صورة إلهية، يعرفها جميع خلق الله ما عدا الثقلين الانسوالجن، فإنها معروفة عند بعضها، فيوفون حقها من التعظيم والاجلال لها)9.
اذن ترسخت فكرة (الانسان الكامل) في الفكر الغنوصي الصوفي (العرفاني)، وهذه الفكرة لم تجد امامها عقبة في الفكر السني فعندهم يكون الانبياء والاولياء نموذج للانسان الكامل، واذا كان الانبياءمنصوص عليهم من قبل الله تبارك وتعالى، فان اي انسان يمكنه ان يتحول الى ولي من الاولياء بتمسكمه بالشريعة (العقيدة والفقه والاخلاق) واجباتها ومستحباتها ومن ثم يدخل في حوزة فكرة الانسان الكامل للحصول على المعرفة بصورة مباشرة من خلال الكشف والشهود.
اما في الفكر الشيعي فقد واجهت فكرة الانسان الكامل عقبة كبيرة ولكنها تمكنت اخيراً من الالتفاف عليها عبر منهجها الغنوصي الباطني المعتاد! فالاولياء في الفكر السني يقابلهم الائمة المعصومون (عليهم السلام) في الفكر الشيعي غير انهم عند الشيعة منصوبون من قبل الله سبحانه وتعالى كما هو حال الانبياء(عليهم السلام)، فلا يمكن لأي شخصان يرتقي الى مرتبة الامام المعصوم عندهم.نعم يمكن للانسان ان يبلغ الذروة في العبادة والتقوى والمنزلة العالية من العدالة (دون ان يبلغ مرتبة العصمة) وهؤلاء يمكن ان نطلق عليهم اسم (الصالحين). غير ان الفكر الغنوصي العرفاني تدخل ليقول بإمكانية تحويل الصالحين الى مرتبة الانسان الكامل عبر الفناء في الامام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يكون فهمهم وكلامهم ومواقفهم كي فهم وكلام ومواقف الامام المعصوم (عليه السلام)! وسنذكر فيمقالنا هذا نصوص غنوصية عرفانية تؤكد ما بيناه هنا.
فالصالحون الذين يصلون الى مرتبة الانسان الكامل ويفنون في الامام (عليه السلام) كيف لا تتحقق لهم الولاية المطلقة كما هي للامام (عليه السلام) غاية الامر ان هذه الولاية المطلقة تحتاج لغطاء شرعي يشرعها من الناحية الدينية فوجدوا ضالتهم في بعض النصوص المروية عن الائمة الاطهار (عليهم السلام) والتي فسروها بحسب مسبوقاتهم الفكرية الغنوصية العرفانية.

بداية فكرة الانسان الكامل:
يذهب هيثم مناع الى ان يحيى بن عدي هو اول من اظهر فكرة الانسان الكامل في التراث الاسلامي والذي سمًاه (الانسان التام)، وكتب مقالاً نقتطف منه التالي: (كتب يحيي بن عدي (893-974م) وهو فيلسوف من أسرة سريانية يعقوبية كتابا بعنوان “تهذيب الأخلاق” الذي نسبته بعض المخطوطات لابن عربي وابن الهيثم والجاحظ وطبع في دمشق في 1924 باعتباره للجاحظ، استدرك محققه محمد كرد علي هذا الخطأ في الطبعات اللاحقة منوها إلى أهمية أن يكون هذا النص فوق الملل والنحل والديانات بحيث ينسب لمن ذكر بآن معا. ويعتبر هذا الكتاب من أوائل ما كتب في فلسفة الأخلاق باللغة العربية. وفكرة الإنسان التام وحب الكمال فيه تقوم على اعتبار القيم الأخلاقية مقياس مركزي لمناهج الحياة على اختلافها، من العمل السياسي العام إلى العمل المهني، بل بكلمة، في مجمل العلاقات ما بين الإنسانية. وهو في طرحه هذا، لا يجنح لمثالية نظرية، بل يحاول باستمرار ربط الفضيلة بمفهوم التوازن الظرفي الذي يعتمد القسمة العادلة المتسامحة عند الضرورة مع إرضاء الرغبة. ولو أخذنا تعريفه للرحمة، لوجدنا فيه المنطق المعاصر الذي يربط بين المبدأ الأخلاقي للمحاسبة ورفض غياب المحاسبة impunity بنفس الوقت: “الرحمة هي محبة للمرحوم، مع جزع من الحال التي من أجلها رحم، وهذه الحالة مستحسنة ما لم تخرج بصاحبها عن العدل، ولم تنته به إلى الجور، وإلى فساد السياسة. فليس بمحمود رحمة القاتل عند القود، والجاني عند القصاص. ولا يختلف منهجه في ذلك عند تعريفه العدل: “هو التقسط اللازم للاستواء واستعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها، من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير”. ويعطي للجور تعريفا جامعا يستنكر الظلم والفساد وعدم احترام الحقوق يقول: “هو الخروج عن الاعتدال في جميع الأمور، والسرف والتقصير، وأخذ الأموال من غير وجهها والمطالبة بما لا يجب من الحقوق الواجبة، وفعل الأشياء في غير مواضعها، ولا أوقاتها، ولا على القدر الذي يجب، ولا على الوجه الذي يستحب.
يتحدث يحيي بن عدي عن الإنسان التام بالقول: هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنعه رذيلة، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان. فإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد، فهو بالملائكة أشبه منه بالناس”.
يؤكد ابن عدي على مجموعة من المسلكيات للإنسان التام منها صرف عنايته للنظر في العلوم وسعيه للإحاطة بماهيات الأمور وكشف عللها وأسبابها، وتفقد غاياتها ونهاياتها وتفقده الدائم لجميع أخلاقه معتدلا في الشهوة واللذة طالبا للعدل والإنصاف مشاركا الآخرين في ماله مؤاسيا للفقراء وأهل الحاجة متواضعا محبا لجميع الناس دون تمييز.وفي العلاقات الإنسانية لمحب الكمال يقول: “ينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعود نفسه محبة الناس أجمع، والتودد إليهم والتحنن عليهم، والرأفة والرحمة لهم.فإن الناس قبيل واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الإلهية التي هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا، وهي أشرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد. فالإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس، والناس كلهم بالحقيقة شئ واحد، وبالأشخاص كثيرون”.
يقوم التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية عند إخوان الصفا على رفض التعصب وضرورة الانفتاح على جميع المعارف وعلى الربط بين طموح الإنسان الكامل والدين الكامل. المشروع الإخواني في صورته هذه، يعتبر نفسه جامعا للمذاهب والعلوم أكثر منه طرفا مما يجعل شمولية معارفه هذه تؤهله للتسامح والانفتاح أكثر من غيره “ينبغي لإخواننا أن لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها”.
هذا التكامل بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية القائم على مبدأ “التشبه بالله حسب طاقة البشر” لا يسعى فقط لطموح “الإنسان الكامل” بل أيضا ما يمكن تسميته “الدين الكامل”. سعي يربط الكمال بالتفاوت بين الناس على أساس المعرفة والعقل.
كمال الإنسان في كمال العقل فكرة تناولها المعتزلة ونجدها بشكل مفصل في كتاب “التكليف” من “المغني” للقاضي عبد الجبار (مات في 415 للهجرة) الذي يعرف العقل بالقول هو “جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلف”، ومن كمال العقل عنده ” أن يعرف ما يختص هو به من الحال؛ نحو كونه مريدا وكارها ومعتقدا”، ومن كمال العقل ” أن يعرف من حال المدركات التي هي الأجسام ما تحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة”، ومن كمال العقل “أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والإنصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع”. و”من جملة كمال العقل العلم بكثير من الدواعي؛ لأن معرفة الألطاف لا تصح إلا معه”.
يشارك القاضي عبد الجبار في فكرة كمال العقل العديد من المعرفيين والفرق. ونجد عند الكرامية (أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام) اتفاق على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع، وتجب معرفة الله بالعقل. كذلك يؤكد الإمام الماتريدي على “أن الشرع يتبع في أوامره ونواهيه ما يصف به العقل الإنساني الأشياء من حسن وقبح. وإذا كان هذا العقل لا يستطيع التمييز بين هذين الأمرين، في جميع الحالات، فإن الوحي إنما جاء ليأخذ بيد الإنسان وينير أمامه الطريق”.
ورغم البعد منهجي بين كمال العقل والإنسان الكامل، ثمة تقاطعات مركزية بينهما أهمها التأكيد على مركزية دور الإنسان في الحياة والكون.
ابن عربي والإنسان الكامل: رغم أن نقطة الانطلاق في تعريف الإنسان عند المذاهب الفقهية الخمسة تكريم آدم وإثبات أفضليته على الملائكة، باعتبار سجود الأخيرة للإنسان تكرمة له وطاعة لله، لا يلبث هذا التعريف أن يتعرض لاختزالات أساسية شاركت بها بشكل أساسي المدرستان الحنبلية (مات ابن حنبل في 855م- 241 للهجرة) والأشعرية (الأولى على الصعيد الشعبي والثانية على الصعيد النخبوي). وأول هذه الاختزالات التأكيد على مفهوم الإنسان الطائع المكلف وثانيها التمييز بين المسلم وغير المسلم وثالثها اغتيال التوسع الأفقي والعامودي للاجتهاد.
لا يمكن للطاعة أن تشكل منهج حياة دون أن يكون موضوعها ترسيخ عبودية الإنسان للإنسان المغلفة بمفهوم الحاكمية الإلهية. والحديث عن الطاعة يقودنا دائما إلى “الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق سادتهم (عبودية بشر لبشر)، الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله (الطاعة الطقوسية والمعاشية)، الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة السلطان(الطاعة للمستبد العادل أو الجائر) والطاعة المفروضة في حق الزوجة لبعلها (الطاعة الاجتماعية داخل الهرم العائلي”. ولا شك بأن التمييز بين المسلم وغير المسلم لا يمكن أن يقفز فوق قضية من هو المسلم، التي شكلت أساس بدعة التكفير الشرعية. وقد أرخ الغزالي في هذا التراجع لانتصار فكرة الإنسان المطيع المذعن العاجز. فلم ينتظر المشرق العربي الإسلامي اجتياح المغول وسقوط بغداد (1258م/656 للهجرة) ليدخل مرحلة الهيمنة العقيدية التي حولت الإسلام إلى جثة مشرحة في مخابر الأئمة بإعطائه بعده كأيديولوجية بأسوأ ما للكلمة من معنى كنظام مغلق من “الحقائق” المطلقة الأبدية. “سيتكفل الماوردي (1056م/450هـ) بترتيب دستور الخلافة ومنح بركات الشرعية “التاريخية والدينية” للخليفة، ابن الجوزي (م1200م/597هـ) سيقوم بغسل شوائب الشيطان في كتابه “تلبيس ابليس”، بعد أن لخّص الغزالي (م 1111م/505هـ) الإسلام : “الدين شطران أحدهما ترك المناهي والآخر فعل الطاعات” (بداية الهداية) ونظم السنن في موت-إحياء علوم الدين ليعمد حجة للإسلام السني”.
في هذه الظروف المحملة بالانغلاق على الذات ومصادرة التعددية والاجتهاد وخوف المعرفة الحكمية علمية كانت أو فلسفية، واحتقار الإنسان باسم سمو الرحمن وازدراء المرأة في ظل إعادة إنتاج الاستبداد في المجتمع. وفي وسط محموم بالتطرف والمذهبيية وأمراض أفول الحضارة،، حمل محيي الدين بن عربي (560-638/1164-1240م) فكرة “الإنسان الكامل” في محاولة للوقوف في وجه تيار عات لم يعد يقبل من الإنسان إلا صورته المسخ. في محاولة غير عادية لإعادة الاعتبار لمن أفقده الحاكم والفقيه كل اعتبار ووقف نزيف قد أتى على الأساسي من المجتمع والأفراد والأفكار.
تعيدنا فكرة الإنسان الكامل إلى تلك القوة العالمية المتميزة لكل الأفكار والمبادئ التي تتجاوز بعظمتها القبيلة والمكان والزمان. لذا لا نستغرب أن يجد هانز هينرش شيدر روابطها العضوية مع نظرية الإنسان الأول في الديانات الإيرانية القديمة، وأن يعتبرها لوي ماسينيون ابنة الرؤى السامية التي نشأت عند أنبياء بني إسرائيل في فكرة “عبد يهوا” العادل المبتلي بالآلام واستمرت مع المسيحية في الإيمان بعودة المخلص وزرعت في عدد غير محدود من الملل والنحل التي انتظرت المهدي “ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا وظلما”. أو أن يبصر فيها الهادي العلوي مشاعيته البدائية الزاهدة: “من لا يملك شيئا ولا يملكه شئ، حيث الملك يجب أن لا يكون لأحد فرد بل لجميع الناس حتى لا يعلو أحد على أحد. “التاوي والمتصوف، يقول الهادي، ينظران كلاهما إلى مجتمع لا مالك فيه ولا محروم، ولا قامع ولا مقموع”. بالتأكيد، فقد استعاد المؤرخون الثلاثة في الإنسان الكامل صورة ذهنية عالمية حاولت التاوية من خلالها استقراء قوة الخير في البشر والثقافة الإيرانية استعادة الإنسان الأول عند مزدك والديانات السامية قراءة فكرة المسيح المخلص والمهدي. إلا أن طرح ابن عربي كان ضمن تصور فكري شامل واجه فيه معالم حقبة كاملة. فهو يميز بين قوانين الطبيعة ومنظِمات حركة الإنسان انتصارا لفكرة الإرادة البشرية والإنسان الفاعل والمنفعل في طبيعة لها قوانينها ونواميسها. ويؤكد على وحدة الوجود للتأكيد على فكرة الخير الأسمى والعدل الذي يتجاوز الملة والطائفة. وعبر هذه الوحدة حارب خطاب الفرقة الناجية وتكفير الآخر بحظوظ النفس المشركة التي لا تختلف عن حظوظ النفس المؤمنة مؤكدا “إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه”. ورفض أشكال التمييز بين البشر في المعتقد أو الجنس باعتبار الكمال الإنساني يقابل “الإنسان الحيوان” الذي يحمل فيما يحمل عاهات التفريق بين البشر: “خلق الله الإنسان، مختصرا شريفا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة جامعة لما في العالم الكبير، ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء وقال فيه رسول الله: إن الله خلق آدم على صورته، فلذلك قلنا خرج العالم على الصورة، وفي هذا الضمير الذي في صورته خلاف لمن يعود لأرباب العقول، وفي قولنا علم نفسه فعلم العالم غنية لمن تفطن وكان حديد القلب بصيرا، ولكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن الله تفي العالم، فلنبين في هذا المنزل نشأة هذا الخليفة ومنزلته وصورته على ما هي عليه، ولسنا نريد الإنسان بما هو إنسان حيوان فقط بل بما هو إنسان وخليفة وبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال، وما كل إنسان خليفة، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط، فكلامنا إذا في صورة الكامل من الرجال والنساء فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى والذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوان كلها في ذلك”.
يضع ابن عربي حدا في مفهومه للإنسان الكامل لأي فرق بين من هم أبناء دين واحد ومن هم خارجه، كذلك يعيد الاعتبار للمرأة كطرف أساسي كالرجل في هذا المفهوم.
جعل ابن عربي، كما يلاحظ هانس هينرش شيدر، من “الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية مظهران متماثلان لمذهب واحد في الوحدانية” وبذلك أصل ابن عربي فكرة الإنسان المساوي للعالم، الإنسان المشابه بل والمساوي لله في وجه الإنسان المهمش والذليل والطائع في المدارس الفقهية.
في مقابل عقائد الطاعات والواجبات، تقف فلسفة ابن عربي الصوفية لتذكر بأن الله إنما خلق العالم من أجل الإنسان “الإنسان هو المقصود من الوجود”، وأن هذا يعني أن الإنسان ليس فقط مركز الكون الواعي، بل أكمل مجالي الحق و “المختصر الشريف” و”الكون الجامع” الذي أعطى الروح لعالم شبحي لا روح فيه. إنه نقطة انطلاق الكون وآخر وأرقى تعبيراته: “أول ما خلق الله العقل فهو أول الأجناس. وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فاكتملت الدائرة. وما بين طرفي الدائرة، جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر”. الإنسان حسب ابن عربي بكلمة “قطب الفلك، وهو العمد، ألا تراه إذا انتقل من الدنيا خربت وزالت الجبال وانشقت السماء وانكدرت النجوم”).
ويضيف كاتب المقال: (يرتبط هاجس العدالة بمفهوم الكمال الإنساني، وبهذا المعنى احترام الحق قاعدة من قواعد الإيمان: “إياك وظلم العباد فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العباد أن تمنع حقوقهم التي أوجب الله عليك أداءها ولا تنهر السائل مطلقا، فإن الجائع يطلب الطعام والضال يطلب الهداية”. ومع يقينه الروحاني، أكد ابن عربي باستمرار على الحديث الذي يقول “أنتم أعلم بأمور دنياكم”. والحديث عن الدنيا يعني ارتباط الحياة بالزمان والمكان وتاريخية الوجود، يقول في رسائله: “اعلم أن الحكيم الكامل المحقق المتمكن هو الذي يعامل كل حال ووقت بما يليق به ولا يخلط”، ويؤكد على ذلك في فصوص الحكم:”ما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس “في خلق جديد” في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، “بل هم في لبس من خلق جديد”.
ما بعد ابن عربي: كيف تطورت فكرة الإنسان الكامل بعد ابن عربي، وهل وجدت أصداء لها في المجتمع العربي و/أو الإسلامي؟ لقد كان قدر ابن عربي، وذلك الحال بالنسبة لابن رشد أيضا، أن يقف في وجه تراجع عام سعى لإلباس عجزه ثوب التقى. فجرى اغتيال الاجتهاد ولأكثر من قرنين لم يتوقف السلفيون عن نقد كتابات ابن عربي. وفي عملية هدم الحضارة العربية الإسلامية والتجهيل العام باسم الدين وطاعة السلطان، لم يكن لأفكار ابن عربي أن تنتشر وبقيت في إطار الاتجاهات الصوفية والفلسفية والإصلاحية بشكل عام. وجملة هذه الاتجاهات كانت تعاني من حصار وتهميش. لذا فقد كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة. الأمر الذي لم يحل دون تناول موضوع الإنسان الكامل من قبل تلميذه الصدر القونوي في كتابه “مراتب الوجود” وابن قضيب البان في “المواقف الإلهية” وعبد الكريم الجيلي في “الإنسان الكامل” وعزيز الدين النسفي في كتابه المعنون أيضا “الإنسان الكامل” (بالفارسية). إضافة لشذرات عند التهانوي وغيره ومقاطع شعرية لجلال الدين الرومي ومحمود شبسري.
يعطي الصدر القنوي الإنسان الكامل المرتبة الأعلى من مراتب الوجود باعتبار أنه به تتم المراتب ويكمل العالم. “فالإنسان، يقول القنوي، أنزل الموجودات مرتبة في الظهور، وأعلاهم مرتبة في الكمالات، ليس لغيره ذلك. وقد بينا أنه الجامع للحقائق الحقية، والحقائق الخلقية، جملة وتفصيلا، حكما ووجودا، بالذات والصفات، لزوما وعرضا، حقيقة ومجازا، وكل ما رأيته أو سمعته في الخارج فهو عبارة عن رقيقة من رقائق الإنسان، واسم لحقيقة من حقائق الإنسان. فالإنسان هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح، وهو القلم، وهو الملك، وهو الجن، وهو السموات وكواكبها، وهو الأرضون وما فيها، وهو العالم الدنياوي، وهو العالم الأخراوي، وهو الوجود وما حواه، وهو الحق، وهو الخلق، وهو القديم، وهو الحادث”.
لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي، واستسلم من جاء بعده لربط هذه الفكرة بالنبي أو الولي أو الخضر أو المهدي. فنقرأ عند الجيلي قوله: “الإنسان الكامل هو محمد. وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين”. كذلك يعتبر النسفي (القرن الثالث عشر) أن للإنسان الكامل أربع خصائص هي الكلام الحسن والفعل الحسن والاستعداد الطبيعي للخير والمعارف. وبالنسبة له الإنسان الكامل هو العالم، الخليفة، المعلم الروحي، البالغ، مرآة العالم، المسيح… وهو يؤكد على أنه إنسان واحد في عصره فلا يوجد سوى جسد واحد يحمل قلب الإنسان الكامل. مع هذا التوجه في المدارس الصوفية المتأخرة، تراجع البعد الخلاق في فكرة الإنسان الكامل قبل أن يتجسد في الواقع في مفهوم للإنسان المواطن المتساوي مع غيره، الذي يدرك حق النفس وحق الآخر ويتعرف على الآخر في نفسه وعلى نفسه في كل كائن حي. هذا الإنسان الذي كلما اكتسب معرفة واعتبارا زاد كرما وتواضعا، والذي ينال اعتباره العام من قدرته على اكتساب المعارف وعطاء الآخرين)10.
ومن الواضحان كاتب المقال (هيثم مناع) قد اغفل امرين مرتبطين بعدم اطلاعه فيما يبدو على التصوف الشيعي المسمى (العرفان)، الامر الاول قوله (كان أكثر المستفيدين المباشرين من فكر ابن عربي رواد الإصلاح المسيحي في أوربة) حيث ان المستفيد الاكبر من فكر ابن عربي بعد المتصوفين السنة هم اتباع مدرسة الحكمة المتعالية الشيعية التي اسسها الشيخ صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) المستندة الى فكر وتراث ابن عربي.
اما الامر الثاني فهو قول كاتب المقال (لم يستمر فك الارتباط بين مفهوم الإنسان الكامل من جهة وتصور نخبوي وخلاصي للكمال الإنساني طويلا بعد ابن عربي) لان فك الارتباط المشار اليه استمر عند الشيعة العرفانيين بتحويل فكرة الانسان الكامل الى ولاية الفقيه المطلقة.

الانسان الكامل في كتاب (جامع السعادات) للنراقي الاب:
نطالع النصوص التالية في كتاب جامع السعادات وهي تؤكّد على ان النراقي الاب (الشيخ محمد مهدي النراقي) كان مستغرقاً في الفكر الصوفي وانَّ تلمذة ابنه على يديه نقلت فكره الصوفي إليه. والنصوص التالية تتحدث عن (الانسان التام الكامل)، وعن (الكاملين) الذين ذكرهم بعد الانبياء والمرسلين والاولياء، و(الانسان الكامل)، و(مراتب الكاملين) … حيث قال:
(فصل: بيان تلذذ النفس وتألمها … إذا عرفت تجرد النفس وبقاءها أبدا، فاعلم أنها إما ملتذة متنعمة دائما أو معذبة متألمة كذلك. والتذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، ولما كانت لها قوتان النظرية والعملية، فكمال القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بإدراك كلياتها. والترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي وغاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد ويتخلص عن وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان. وهذا الكمال هو الحكمة النظرية. وكما القوة العملية التخلي عن الصفات الردية والتحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر وتخليته عما سوى الله سبحانه. وهذا هو الحكمة العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها. وكمال القوة النظرية بمنزلة الصورة وكمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، ومن حصل له الكمالان صار بانفراده عالما صغيرا مشابها للعالم الكبير، وهو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود)11.
(ومن يقينه بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام، يكون دائما في مقام الشوق والوله والحب. وحكايات أصحاب اليقين من الأنبياء والمرسلين والأولياء والكاملين في الخوف والشوق وما يعتريهم من الاضطراب والتغير والتلون وأمثال ذلك في الصلاة وغيرها مشهورة، وفي كتب التواريخ والسير مسطورة، وكذا ما يأخذهم من الوله والاستغراق والابتهاج والانبساط بالله سبحانه)12.
(فالإنسان الكامل يشتاق إلى الموت، لاقتضائه تماميته وكماله، وخروجه عن ظلمة الطبيعة ومجاورة الأشرار إلى عالم الأنوار ومرافقة الأخيار من العقول القادسة والنفوس الطاهرة، وأي عاقل لا يرجح الحياة العقلية والابتهاجات الحقيقية على الحياة الموحشة الهيولانية، المشوبة بأنواع الآلام والمصائب وأصناف الأسقام والنوائب)13.
(وهذه المحبة نهاية درجات العشق، وغاية الكمال المتصورة لنوع الإنسان، وذروة مقامات الواصلين، وغاية مراتب الكاملين، فما بعدها مقام إلا وهو ثمرة من ثمراتها كالأنس والرضا والتوحيد، ولا قبلها مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، كالصبر والزهد وسائر المقامات. وهذا العشق هو الذي أفرط العرفاء وأرباب الذوق في مدحه، وبالغوا في الثناء عليه نثرا ونظما، وصرحوا بأنه غاية الاتحاد والكمال المطلق، ولا كمال إلا هو، ولا سعادة إلا به)14.
وفي جواب عن الانسان الكامل في كتاب جامع السعادات للشيخ محمد مهدي النراقي يقول مركز الابحاث العقائدية في شبكة الانترنيت العالمية: (الانسان الكامل الذي يتحدث عنه كتاب (جامع السعادات) يختلف عن الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الاثني عشري، فالانسان الكامل بحسب علم الاخلاق هو الانسان الذي يرتقي في سلم العلم والعمل إلى الرتبة القصوى في حصول ملكات الحكمتين المشار إليهما، فالانسان الكامل هو الفاضل الذي يتصف بخصال اهمها الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، فهذه الاربعة هي أصول الفضائل الاخلاقية التي لأجل الارشاد إليها تم تأليف كتاب (جامع السعادات) من قبل الفاضل النراقي رحمه الله. وهذا الكمال في الواقع هو الرتبة الاخيرة من التكامل المقدور للنوع الانساني، وهو مكتسب بواسطة الحكمتين المذكروتين (الحكمة النظرية والحكمة العملية). وأما الانسان الكامل بالمفهوم العقائدي الإمامي فهو رتبة الامام المعصوم، فالمعصوم سلام الله تعالى عليه هو الانسان الكامل على الاطلاق، ولا يمكن أن يصل الانسان العادي مهما ترقى في الكمال إلى هذه الرتبة. وذلك لان رتبة الانسان الكامل موهوبة وليست مكتسبة ومن لوازمها العصمة).

نبذة عن الشيخ احمد النراقي:
[في قرية نائية من قرى مدينة كاشان، ولد الشيخ أحمد النراقي سنة (1185هـ)، وتكفّل نشأته العلمية أولاً والده الملا مهدي النراقي ــ وكان من كبار العلماء وفحول الفقهاء ــ فقضى وطراً من دراسته على يد والده الماجد وردحاً آخر منها على يد علماء العراق، وقد تركت منهجية الوالد في البحث والتأليف بصماتها واضحةً على مؤلّفات الابن وطريقته في البحث والكتابة.
في المقابل، ساعدت الجهود العلمية التي بذلها النراقي الابن على انكشاف البعد العلمي بصورة أفضل وأنصع في النتاج العلمي للنراقي الأب.
وقد برع الشيخ أحمد النراقي مضافاً إلى علمي الفقه والأصول، وعلم الأخلاق، وسائر العلوم العقلية والنقلية، في مجالات عديدة أخرى كالشعر مثلاً، فهو شاعر مبدع، وكان يتخلّص في أشعاره بـ((الصفائي)).
وأمّا أساتذته فيأتي في طليعتهم الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الأعظم الأنصاري، أمّا مؤلفاته وتصانيفه فكثيرة، وهي كالتالي:
1 ــ شرح تجريد الأصول. 2 ــ مناهج الأحكام في الأصول. 3 ــ عين الاُصول. 4 ــ أساس الأحكام في الأصول. 5 ــ مفتاح الأحكام في الأصول.
6 ــ معراج السعادة. 7 ــ تذكرة الأحباب. 8 ــ خلاصة المسائل. 9 ــ شرح محصّل الهيئة. 10 ــ مستند الشيعة في الأحكام الشرعية. 11 ــ الخزائن. 12 ــ عوائد الأيام. 13 ــ سيف الاُمّة وبرهان الملّة. 14 ــ مثنوي طاقديس. 15 ــ وسيلة النجاة.
لقد اتّصفت شخصية النراقي ــ على لسان مترجميه ــ بالموسوعية والجامعية، سيما في الأصول والفقه والأخلاق والرياضيات والسياسة. أمّا الشعر باللغة الفارسية فقد كان في الصدارة من بين شعراء عصره.
وقد تميّز الفاضل النراقي عن باقي أقرانه بقلّة تلمّذه وحضوره في دروس العلماء، وإنما استقى أكثر علومه من بطون الكتب لا من محضر العلماء والأساتذة.
وافته المنية ــ متأثّراً بالوباء ــ عام (1245 هـ)، ووري جثمانه الثرى في النجف الأشرف]15.

النراقي الابن مؤسس نظرية ولاية الفقيه المطلقة:
يذكر الدكتور داود فيرحي السؤالين التاليين بخصوص نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي انتجها الشيخ احمد النراقي:
(السؤال الأول: عن دوافع النراقي في بحثه لهذه المسألة؟
والسؤال الثاني: كيف توصّل النراقي إلى نظريته في إثبات الولاية للفقيه؟)
ثم يقول: (والإجابة على السؤال الأول تبدو واضحة، فقد أشرنا في بدايات البحث إلى أن النراقي كان يعيش ــ من جهة تأريخية ــ أزمة سياسية دينية ضاغطة، ونضيف الآن بأن الظروف الاجتماعية الخاصّة تفرز أفكاراً ورؤىً خاصة أيضاً. وبالرغم من تعرّض الفقهاء السابقين لمسألة ولاية الفقيه ــ حتى أنّ النراقي ادّعى الإجماع على ذلك ــ إلاّ أنّ المسألة لم تكن لتجد مجالاً أو ضرورةً لطرحها، باستثناء فترة الحكم الصفوي، حيث تمتّع الفقهاء آنذاك بصلاحياتهم التقليدية في الحكم، بينما مثّلت البرهة التي عاشها النراقي أزمة التنظير لشرعيّة الحكم السياسي. ولانقصد بالعلاقة بين الفكر والبرهة التأريخية الرضوخ للحتمية التأريخية والوقوع في فخّ أصالة التأريخ، فالقبول بالعامل التأريخي لا يعني القبول بالحتمية التاريخية بالضرورة، بل يعني النظر من زاوية فكرية تميّز بين المراحل والفترات الزمانية المختلفة. وفي الحقيقة فإنّا قد أعرضنا عن منهجين فلسفيين:
المنهج الأول: المنهج التأريخي، الذي يعتبر الفكر أمراً عرضياً وإفرازاً للوقائع التأريخية، ويرفض هذا المنهج استقلالية الفكر عن الوقائع والأحداث المحيطة به.
المنهج الثاني: المنهج غير التأريخي، أي المنهج الرافض للعامل التأريخي وسيطرته على الفكر، فالفكر حسب هذا المنهج ظاهرة مستقلة عن العامل التأريخي، بل إنّه ينكر تأثّره بالوقائع والحوادث التي تتزامن مع الحقبة التي يعيشها المفكر. ومن الواضح التمايز الموجود بين هذين المنهجين في قيمة العلم وشأنه.
وفي الوقت الذي لا يجوز فيه الحطّ من قيمة العلم إلى الحدّ الذي نعتبره أمراً عرضياً غير قائم بنفسه، لا ننكر تأثير العامل التأريخي على الفكر، فكل مفكّر يضطرّ بالضرورة إلى التفكير في الحقبة التي يعاصرها وجميع لوازمها وما يرتبط بها. وفي الوقت عينه يمكن أن يكون ارتباطه سلبياً أو إيجابياً بالمرحلة التأريخية التي يعاصرها؛ وذلك لأنّ الفكر أمر يتّصف بالأصالة، ولذا لا يمكن ــ من الناحية المنطقية ــ أن يكون العامل التأريخي مبيّناً له؛ وعلى ذلك فإنّ دراسة تأريخ الفكر السياسي لمّا كانت تعنى بتحليل البحوث السياسية ــ من دون الاقتصار على توصيف الأثر التأريخي للفكر فقط ــ تأخذ بنظر الاعتبار نسبة الفكر إلى المرحلة التأريخية التي يعاصرها)16.

هذا بخصوص سؤاله الاول، اما سؤاله الثاني فيعود ليطرحه بالصيغة التالية (كيف أنتج النراقي نظرية سلطة الفقيه؟)، ويحاول الاجابة بإحتمالات ثلاثة هي:
1 ــ سلطة الفقيه نتاج الشخصية العلمية للنراقي.
2 ــ دور الفكر الكلامي في إنتاج نظرية سلطة الفقيه.
3 ــ ثلاثية اليوناني ــ الإشراقي ــ الديني ونظرية ولاية الفقيه.

ومن اهم ما قاله حول الاحتمال الثالث اعلاه نقرأ قوله: (لقد انتهل الفاضل النراقي معظم علومه من معين والده المولى مهدي النراقي، حيث كان فيلسوفاً كبيراً وحكيماً متبحّراً، تلمّذ مدّة ثلاثين عاماً على الحكيم الخواجوئي (1173 هـ ق) الذي يُعد من مشاهير القرن الثاني عشر الهجري في العلم والفلسفة. فكان المولى مهدي النراقي من أبرز تلامذته، كما يعدّ في زمرة حكماء الشيعة. وعلى أية حال، تأثّر النراقي الابن بالمسلك العلمي لوالده، فكان يقتفي أثره في أكثر آرائه ونظرياته، كما تشابه مؤلّفاتُه مؤلّفاتَ والده، حيث إنّ كلاً منهما يستمدّ أصوله من الفكر اليوناني).
ويتحدث الدكتور فيرحي فيقول: (يستقي النراقي رأيه حول الطبع البشري من نظرياته وأفكاره في علم الأخلاق، ويعتبر ((معراج السعادة)) أهمّ كتاب ألّفه في هذا العلم، وقد تضمّنت بعض بحوثه ترجمةً لمقاطع من كتاب جامع السعادات لوالده المولى مهدي النراقي. ويتطابق هذان الكتابان بشكل ملفت مع الفكر اليوناني، سيما عند أفلاطون وأرسطو، مع فارق أنّهما ــ النراقيان ــ يستقيان ما يؤيّدهما من الفكر الديني، علاوة على ما يتّصف به الفكر الأفلاطوني والأرسطي من الاعتدال. إنّ ثمة ترابط خاص بين الأخلاق والسياسة في التعاليم اليونانية، وبالرغم من عدم طرح المسائل السياسية في إيران وخاصة عند النراقيين، إلاّ أنّنا نجد في هذا الكتاب مزجاً بين السياسة والأخلاق بشكل لا يكاد يفصل القارئ معه بينهما، ومن هنا، يمكن عدّه أحد مصادر الفكر السياسي عند الفاضل النراقي. ويشبه النراقي في هذا المجال كلاًّ من أفلاطون وأرسطو، حيث يتعرّض في البدء إلى تحليل الطبيعة البشرية، ولا يحدّها بحدود العامل الواحد، فالإنسان ليس شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هو موجود مركّب من الروح والبدن، تتجاذبه نزعات وميول ينبغي عليه أن يعتدل في الاستجابة لها. وتبتني المفاهيم الأخلاقية جميعها لدى المسلمين وآراء النراقي في كتاب ((معراج السعادة)) على هذه النظرة من التحليل اليوناني).
ويقول: (مع الأخذ بالاعتبار عنصري ((لزوم العدالة في قوام المجتمع)) و((فقدان فيض حضور المعصوم في زمان الغيبة))، كيف يمكن بناء النظام السياسي عند النراقي؟ علماً أنّه يرى عدم تكامل أي نظام سياسي مع فقد المعصوم، إلاّ أنّ هذا لا يعني فساد ذلك النظام وعدم شرعيّته؛ إذ يمكن لعامل العدالة أن يلعب دوراً في إصلاح الأمور وسدّ الثغرات والنواقص، وبالتالي رقّي الإنسان وتعاليه. وقد أشرنا فيما سبق إلى دور العدالة في بناء الفرد والمجتمع معاً، وهذه القضية تمثّل الحجر الأساس في نظرية النراقي لإقامة النظام السياسي، فالنراقي يرى الدولة قريبة الشبه بالإنسان، فهي بالدقّة تشبه بدنه، فكلّ ما يلزم للروح الإنسانية يحتاجه النظام السياسي أيضاً، والعكس صحيح أيضاً، إنّ تشبيه الإنسان بالدولة وبالنظام السياسي أمر واضح لكلّ من راجع كتاب معراج السعادة).
ويقول الدكتور فيرحي: (وقد أسلفنا سابقاً أنّ النراقي ذكر ــ في معرض حديثه عن أهمية تأسيس النظام السياسي ــ ضرورة بعث الأنبياء وإرسال الرسل المنصوبين من قبل الله سبحانه وتعالى، مستدلاً لوجوب ذلك عليه سبحانه من ناحية عقلية بما سبق من البراهين عليه، ويمتاز الأنبياء ــ إضافةً لأفضليتهم وتقدّمهم على أفراد النوع الإنساني عموماً ــ بارتباطهم بمصدر الوحي الإلهي، وهم الحكّام على المجتمع. أمّا من هم ((الحكّام في زمن الغيبة))؟ فقد كتب النراقي عن هذا الموضوع قائلاً: ((… لمّا وقفتَ على شرف العدالة وفضلها، وعرفت أنّها التسوية بين الأمور المختلفة والاعتدال بين الإفراط والتفريط بالتزام الحدّ الوسط، فاعلم أنّ العدالة إمّا هي في الأخلاق والأفعال، أو في العطايا وقسمة الأموال ومعاملة الناس، أو في سياستهم وإدارة أمورهم، وفي كلّ هذه الموارد فإنّ العادل هو من يميل عن الإفراط والتفريط إلى الاعتدال، فيسعى إلى المساواة ووضع الأمور في الحدّ المتوسط لها، ولا شكّ أن هذا يتوقف على معرفة (المتوسّط) في هذه الأمور وطرفي الإفراط والتفريط فيها، ومعرفة كلّ ذلك أمر شاقّ وعسير ولا يقدر عليه كلّ أحد، فهو يتوقّف على معرفة ميزان العدل الذي تقاس به الأمور وتوزن زيادةً ونقيصة، كما أنّ معرفة الزيادة والنقيصة في كلّ أمر تتوقف على ميزان يوزن به ذلك الأمر، والميزان العدل الوسط في كل أمر ليس هو إلاّ ميزان الشريعة الحقّة الإلهية، وطريقة السنّة النبوية النابعة من مصدر الوحدة الحقيقية، فـ(ميزان العدل) هو النافذ في جميع الأمور والمتكفّل ببيان جميع مراتب الحكمة العملية، فيجب على (العادل الحقيقي) أن يكون حكيماً عالماً بقواعد الشريعة الإلهية، عارفاً بالنواميس النبوية)). ويعتبر هذا المقطع من كلامه غايةً في الأهمية، حيث يعتبر العدالة فضيلةً فوق الفضائل يتحلّى بها الفرد والمجتمع معاً، وتكون مصدراً لسعادة الجميع، والعدالة عند النراقي ــ كما سبق وأسلفناه ــ عبارة عن الطاعة المطلقة من قبل قوى النفس عمومها للعقل، وهي عبارة أيضاً عن انقياد الناس جميعهم والطبقات عمومها للحاكم العادل، ولكن ينبغي إضافة أمر جديد في ضوء النصّ المتقدّم، وهو عبارة عن أنّ تحديد المعيار للحدّ الوسط وملاك العدالة يتطلّب من الحاكم ومن الناس المعرفة بقانون الشريعة الربانية والسنّة النبوية، باعتبار أنّ الشريعة هي ميزان العدل الوحيد في الأمور جميعها، والمتكفّل لبيان مراتب الحكمة العملية كافّة، فإذاً التزام الحدّ الوسط والعدالة الحقيقية تستلزم ــ عند النراقي ــ معرفة الشريعة. ومن الجليّ أنّ تطبيق النظام الصحيح في المجتمع يتوقّف على تحلّي الطبقة الحاكمة بالعدالة الحقيقية، ليكونوا عدولاً حقيقيين، أو أن يتصـدّى لأمـر الحكومة من هو عادل واقعاً وحقيقة. والحاصل: إن أمر الحكومة في عصر الغيبة منحصر بالطبقة العادلة من المجتمع؛ وذلك لأنّ الأكثرية غير قادرةٍ على درك الشريعة بشكل كامل، فلا بد أن يكون ذوو الصلاحية والأهلية لأمر القيادة والحكومة معدودين بعدد الأنامل، وأهمّ ما يمتاز به العادل الحقيقي ــ في مفهوم النراقي ــ معرفته بقواعد الشريعة التي تمكّنه من تحصيل ميزان العدالة، فيكون بذلك الأجدر بإصلاح قواه وتهذيب صفاته وسجاياه، كما أنه هو المؤثر الوحيد القادر على إصلاح نفوس الآخرين، لأنّه قادر على إصلاح نفسه. يقول النراقي: ((إعلم أنّ من لم يتمكّن من إصلاح نفسه، ولم تظهر العدالة في مملكة بدنه، فهو عاجز عن إصلاح غيره وبسط العدالة بين الناس، وليس له أهلية إدارة منـزله كما ليس له القدرة على سياسة الناس وإدارتهم، فلا يليق لرئاسة بلد ولا سيادة مملكة، أجل كيف يقوى العاجز عن إصلاح نفسه على إصلاح غيره؟.. فإذاً كلّ من يتمكّن من إصلاح نفسه وقواه والتنـزّه عن الإفراط والتفريط.. والأخذ بالجادّة الوسطى، فإنّه قادر على إصلاح غيره، وخليق بالرئاسة والخلافة عن الله سبحانه وتعالى في الأرض، فإذا تولّى مثل هذا الشخص أمور الرعية وأمسك بزمام أمرها صلحت بذلك جميع المفاسد، وعمرت البلدان، واستنارت الأقطار، وسالت الأنهار وأغدقت بالمياه، وجرت العيون، وكثرت الزروع والثمار، وازداد نسل بني البشر، وعمّت بركات السماء الأرض، وهطلت الأمطار)).
ويضيف: (إنّ الحكومة المثالية ــ كما يرى النراقي ــ في عصر الغيبة هي التي يكون زمام الأمور فيها بيد الفقهاء العدول، وقد أسّس النراقي لذلك قاعدتين عامّتين في العائدة رقم (54) من كتاب (عوائد الأيام)، بحيث لا يمكن فهمهما إلاّ في ضوء ما ذكرناه من فكره السياسي. والأمر الآخر الذي له أهميته وتجدر الإشارة إليه، أنّ النراقي يرى أن ضرورة حكومة الفقهاء أمر ثابت بالدليل العقلي، ولا علاقة له بالبحث الكلامي، واعتبارهم نواباً عن الأئمة المعصومين ؛ لأنها الصياغة الفضلى لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية جميعها ــ سواء كانت سنيّةً أو شيعية بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية ــ وإن كانت طريقة فقهائنا في الاستنباط تعتبر طريقة خاصّة باعتبار أنها تقوم على أسس تنبع من طبيعة المذهب الإمامي. من هنا، يمارس النراقي هذه الطريقة من الاستدلال في كتابه العوائد، إلاّ أنّه لا يقف عند حدّ التنظير لصيغة نظام الحكم، بل يحاول ــ كأي مفكّر سياسي يعيش هموم تطبيق النظرية ــ معالجة إشكاليّات الواقع، فنجده يسعى جاهداً إلى المقاربة بين نظريته وبين الإشكاليات السياسية للواقع الذي عاصره ليخلص إلى نظرية ((السلطان العادل))، ويرى النراقي نفسه ــ انطلاقاً من موقعه الفكري والعلمي ــ أمام مهمّة علمية كبيرة ــ كما يشير إليها أرسطو أيضاً ــ ؛ لأنه في الوقت الذي يتعيّن عليه بيان نوع الحكم الذي يجب تطبيقه باعتباره الصياغة المثلى، وبيان خصائصه ــ على فرض عدم وجود معوقات في طريقه ــ فإنّه ينبغي عليه أيضاً بيان أفضل صياغة عملية للحكم يمكن تطبيقها وممارستها في العصر الحاضر، وماهية نوع الحكم التي يتقبلها طبع كلّ قوم وكلّ أمّة، وبيان السُبل العملية الكفيلة بتطبيق ذلك. فينبغي الأخذ بأبعاد القضية وجوانبها كافّة، ثم تحديد أفضل الصيغ للحكم، بحيث يسهل تطبيقها من الناحية العملية، كما ينبغي عليه تحديد الإشكاليات التي تواجهها حكومة عصره التي تفصل بينها وبين الحكومة الأنموذجية التي يدعو إليها مسافات طويلة).
ويخلص الدكتور الى القول في خاتمة مقاله: (حاولنا في هذا المقال إعادة صياغة النظرية السياسية للفاضل النراقي لصقلها في منظومة الفكر السياسي.. وقد استفدنا في ذلك من مؤلّفاته الأخلاقية والفقهية، كما دعمنا ذلك ببعض المقطوعات من ديوان شعره بالفارسية. لقد لاحظنا النراقي في كتابه معراج السعادة ــ الذي تأثّر فيه بالأخلاق الفلسفية الأفلاطونية والأرسطية القديمة ــ يشبه الفكر اليوناني في النـزعة السياسية الأخلاقية، وتعتبر هذه الخصيصة من أهم ركائز هذا الفكر الأخلاقي.. حتى أنّ النراقي كتب سيف الأمّة وبرهان الملّة ردّاً على مارتن لوثر وپادري النصراني، حيث طرح فيه نفس هذه الأفكار التي تبنّاها. إنّ ملاحظة المضمون الأخلاقي، الديني والسياسي لمعراج السعادة يكشف عن نمط خاص من الفكر السياسي يحفظ للعلم سيادته وموقعه المتميّز والمرموق. وينطلق النراقي من أن قوام المجتمع والفرد وديمومتهما مرهونتان بالعدالة، ليستدلّ على أنّ معطي العدالة ومصدرها الوحيد للناس هو الله تعالى. والشريعة ــ بناءً على ذلك ــ هي المعيار للعدالة، وتطبيقها هو الكفيل بتحقيق العدالة وحفظ سلامة الإنسان وديمومة المجتمع واستمراره، ومن هنا، فإنّ الذي له أهلية القيادة في عصر الغيبة هو العالم بالشريعة؛ أي الفقيه، وهذا ما استدلّ عليه النراقي في العوائد بشكل محكم ورصين. كما يطرح النراقي أيضاً ما أطلقنا عليه هنا فكرة السلطان المقلّد، وذلك في حال عدم تهيؤ الأرضية المناسبة لتولّي الفقهاء السلطة بشكل مباشر، فنجد النراقي حتى في مثل هذه الظروف لا يستسلم للأمر الواقع وإنما يحاول جهد المستطاع جعل السلطان الحاكم تابعاً للشريعة وآراء الفقهاء؛ ليقلّل من وطأة الأزمات السياسية والاجتماعية. إن النراقي وإن كان يميل ــ اضطراراً ــ إلى مثل هذه الفكرة، إلاّ أنّه يحرص على أن يكون هذا السلطان تابعاً للعدالة والشريعة المحمدية، وقد عبّر عن مثل هذا السلطان بالعادل الأوسط)17.
اذن نجد ان مفهوم (العدالة) له ركيزته المهمة عند الفاضل النراقي وهيعنده بمسارين متواليين: عدالة الفقيه التي ينطلق منها لتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية. أي انه يرى ان عدالة الفقيه تحقق عدالة السلطة! وهذه رؤيا غير واقعية فكم من حاكم عادل في نفسه ارتكب سلبيات ومظالم عديدة، وكم من قاضٍ عادل حكم بغير ما انزل الله سبحانه لخطأ يرتكبه في مستند حكمه! فلا ملازمة بين العدالة الشخصية والعدالة السلطوية، لأن العصمة وحدها هي التي تصنع العدالة السلطوية المطلقة.
واما العدالة الشخصية فهي نفسها في موضع الاختلاف في حدودها وابعادها بين الفقهاء، فهم يختلفون في تحديد من هو الانسان العادل! او ما هي طبيعة عدالة الانسان وحدودها!
قال الشيخ احمد النراقي:(وقال والدي العلامة (قدس سره) في المعتمد بعدما قال أولا: إن حسن الظاهر أو ظاهر الاسلام لا يكفي لطريق معرفة العدالة لعدم استلزامهما لدليل العدالة حتى يعلم ثبوته بثبوتهما – ونعم ما قال -: إن هذا الاكتفاء إما لكونهما دليل العدالة – كما يوميء إليه بعض الظواهر – فقد ظهر فساده. أو نفسهما، فهو خلاف ما ثبت فيعرف الشريعة والحكمة، بل الظاهر مخالفته للاجماع، إذ لم نعثر على مصرح من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما. او لعدم اشتراطهما فيالشاهد ومثله، وكفاية أحدهما في قبول الشهادة وإن لم يكن عدالة ولا دليلاً لها، فهو خلاف النص القرآن والإجماع القطعي، بل الضرورة. انتهى ملخصاً. وأما الملكة – التي تبعث على ملازمة التقوى والمروة، واجتناب الكبائر والافعال الرذيلة – فهي الراجعة الى العدالة في عرف علماء الاخلاق، حيث عرفوها: بأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والافعال، ورد الزائد والناقص الى الوسط، وانكسار سورة التخالف بين القوى المتخالفة. وبتقرير آخر: ملكة يقتدر بها العقل العملي على ضبط جميع القوى تحت اشارة العقل النظري. ووجه الرجوع: أن ارتكاب المعاصي أو مخالفة المروءة إنما ينشأ عن مخالفة القوة العملية أوامر العقل النظري، وإلا لما ارتكب إلا ما يشير إليه، وهو لا يشير إلا إلى ملازمة التقوى والمروة، فجميع الفضائل النفسانية والاعمال الظاهرية مرتبة على العدالة. ولذا قال افلاطون: العدالة إذا حصلت للانسان أشرق بها كل واحد من أجزاء نفسه، ويستضيء بعضها من بعض، فينتهض حينئذٍ لفعلها الخاص على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدئها سبحانه. انتهى)18.
من جهة اخرى فإن الفقهاء مختلفون في تحديد ابعاد العدالة، فعلى سبيل المثال نجد ان السيد محسن الحكيم (قده) لديه ان مدار العدالة هو عدم الوقوع في المعاصي الكبيرة بينما يختلف السيد محمد باقر الصدر (قده) معه، فيقول السيد محسن الحكيم (قده) في مسألة (28) من منهاجه: (العدالة المعتبرة في مرجع التقليد عبارة عن الملكة المانعة غالباً عن الوقوع في المعاصي الكبيرة وهي التي وعد الله سبحانه عليها النار كالشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والامن من مكر الله تعالى)إلخ19. بينما يعلق السيد محمد باقر الصدر (قده) قائلاً: (العدالة هي الاستقامة على خط الاسلام بنحو لا يرتكب كبيرة أو صغيرة على شرط أن تكون هذه الاستقامة طبعا له وعادة، فلا اثر من هذه الناحية لتمييز الكبيرة)20.
ثم يقول السيد محسن الحكيم (قده) في مسألة (29): (المراد من كون العدالة هي الملكة المانعة عن المعاصي الكبيرة انها مانعة اقتضاء، فلا يقدح في وجودها وقوع المعصية نادراً لغلبة الشهوة أو الغضب، نعم من لوازم وجودها حصول الندم بمجرد سكون الشهوة أو الغضب، مع الالتفات الى وقوع المعصية منه)21. ويعلق السيد محمد باقر الصدر (قده) معترضاً: (بل يقدح ذلك في العدالة لكنها ترجع بعد التوبة إذا كان طبع الاستقامة باقياً)22.
ويذهب السيد الخوئي (قده) : (الاستقامة في جادة الشريعة المقدسة وعدم الانحراف عنها يميناً وشمالاً، بأن لا يرتكب معصية بترك واجب أو فعل حرام من دون عذر شرعي، ولا فرق في المعاصي في هذه الجهة بين الصغيرة والكبيرة)23.
ويقول السيد السيستاني (دام ظله الوارف) ان العدالة هي: (الاستقامة في جادة الشريعة المقدسة الناشئة غالباً عن خوف في النفس. وينافيها ترك واجب أو فعل حرام من دون مؤمن، ولا فرق في المعاصي في هذه الجهة بين الصغيرة والكبيرة)24.
واما السيد محمد سعيد الحكيم (مد ظله) فيفرق بين عدالة مرجع التقليد التي لايجوز فيها وقوع المعصية سواء الكبيرة او الصغيرة، عن عدالة امام الجماعة او الشاهد التي يرى ان وقوع المعصية الصغيرة منه من دون اصرار واستهوان لا يقدح في عدالته25.
اذن الفقهاء مختلفون في تحديد ابعاد العدالة تبعاً لإجتهادهم الفقهي. وهذا يقلل من اهمية الفكرة القائلة بإن عدالة الفقيه يمكن ان تمنحه ولاية مطلقة، فهي لا يمكن ان ترتقي بأي حال من الاحوال الى مستوى عصمة الامام (عليه السلام)، ولذلك نجد ان الفكر الصوفي الغنوصي يحاول الالتفاف على هذه الحقيقة من خلال فكرته الباطنية حول اندكاك الفقيه في الامام وفناءه فيه بنفس الطريقة الحلًاجية حول الفناء في الله تعالى عمّا يصفون. وكما سنرى في الفقرة التالية.

الانسان الكامل بوابة الحلم الغنوصي:
اذا كان التصوف هو الطريق الحصري للتكامل البشري ولانتاج (الانسان الكامل) كما سنرى من خلال النصوص التالية، فهذا يعني ان الفقيه وهو يتمتع بخصاله الاخلاقية وفي مقدمتها العدالة والتي يترقى من خلالها نحو التكامل فهو بذلك يبسط نفوذه وسلطانه على المجتمع والدولة عبر الولاية المطلقة! وتلك الولاية المطلقة هي بوابة التحكم بالدولة والمجتمع والافراد والبيئة والثروات الاقتصادية وعالم المال، وهو جزء من حلم العرفان والحكمة المتعالية كلها بالتحكم بالكائنات جميعها. انه الحلم الغنوصي القديم بالتحكم بالكون من خلال مد اذرعه في الثقافات المختلفة ليحقق ما يتمكن منه بحسب الظروف الموضوعية التي يتواجد فيها!
العرفان هو طريق التكامل البشري: يقول سيد محمد محسن الطهراني: (فإنّ طريق الوصول الى التكامل البشري وتحقيق الفعليّة التامة والإدراك الشهودي والحضوري لحقيقة التوحيد لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق العرفان واتباع أوامر مدرسة أهل البيت عليهم السلام ودستوراتهم العلمية منها والعملية، والتمسك والتوسل بعناياتهم وألطافهم)26.
كمال الانسان بفناءه بوحدة الوجود أي بالتصوف: يقول السيد محمد حسين الطباطبائي : (فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله الى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض , اي وصوله الى كماله الاخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً , اي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه , وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي , وهو تمكنه من شهود ان لا ذات ولا وصف ولا فعل الا لله سبحانه على الوجه اللائق بقدس حضرته جلت عظمته من غير حلول ولا اتحاد تعالى عن ذلك)27.
نعم فهو ينكر الحلول والاتحاد لانه يعتقد بوحدة الوجود، فيرى ان تكامل الانسان بان يكون هو الله تعالى عما يصفون بلا حلول ولا اتحاد بل بالفناء فلا يرى غير الله تعالى. فالله لا يحل في شيء ولا يتحد مع شيء بل كل شيء هو الله تعالى بحسب عقيدتهم التي ورثوها عن ابن عربي والحلاج.
وفي نفس الاطار نقرأ قول سيد كمال الحيدري : (الفناء الذاتي وهو الاسمى والارقى وبه يصل العبد الى التوحيد الذاتي , فهو الفناء وعدم الالتفات الى نفس الذات فضلاً عن افعالها وصفاتها , وبذلك لا يرى العبد غير الله تعالى , وانه مجرد مملوك لا يناسبه حتى قول (انا) فضلاً عن الشعور بها فيصل به المطاف الى ان يكون الالتفات الى نفسه وذاته ذنباً لا يقاس به ذنب آخر وهذا هو معنى القول المأثور (وجودك ذنب لا يقاس به ذنب) وعندئذ يتخلص من ذلك المقتضي لوجود النزاع بينه وبين ربه *(بيني وبينك اني ينازعني) فان حجاب الانية هو اكثف الحجب واعقدها حيث يحتجب القطر عن البحر)، الى ان يقول: (ينبغي ان يكون الهدف الاسمى هو العود إلى ذلك الاصل واندراج وانطفاء ذاتنا في طي الذات الواجبة (الله) كما تندرج القطرة في البحر , وهذا هو معنى الفناء الحقيقي للذات فلا غضاضه بعد ذلك إذا ما سألت القطره ما أنت؟ فتقول انا البحر)28!
وقوله (بيني وبينك اني ينازعني) هو جزء من بيت شعر للحلاج – كما في هامش نفس المصدر – وتمامه:
(بيني وبينك إنيي ينازعُني *** فارفع بلطفك إنيي من البيني)!

والان نذكر اخطر عبارة متعلقة بموضوعنا هذا، حيث يقولون ان الانسان يمكنه معرفة الامام (عليه السلام) عن طريق العرفان، ومنه يمكن الوصول الى كنه ذاته المقدسة والذي يمثل عين معرفة الله معرفة واقعية للذات المقدسة!!
يقول سيد محمد محسن الطهراني في كتابه الشمس المنيرة: (ان معرفة الامام بتمام معنى الكلمة والحقيقة وبنحو مطلق والوصول الى كنه ذاته المقدس هو عين معرفة الله وهو المعرفة الواقعية والحقيقية للذات الاحدية بتمام المعنى والحقيقة، لذلك قال المرحوم العلامة الطباطبائي: (إنَّ معرفة الامام غير متيسّرة إلا بواسطة طريق العرفان والسلوك الى الله))29. ثم يقول: (ان الشخص القادر على قيادة البشر وهدايتهم الى الحقائق المنطوية في باطن الامام عليه السلام وسرّه، وإيصالهم الى باطن الامام وحقيقته، هو من كان قد اندكّ وجوده في مقام الولاية وفني في الذات الاحدية وانمحى بتمام معنى الكلمة وعلى الاطلاق)30. الى ان يقول: (ان من شرط الاستاذ أن يكون قد عَبَرَ من مقام الجزئية بشكل تام وتحقق بالكليّة وخرج من شوائب النفس – بجميع مراتبها – وانكشفت امامه جميع الحُجب، فلا كدورة ولا ظلمة من الظلمات المبعّدة ولا ستار أمامه ولا حجاب، سواءً الحجب الظلمانية أم النورانية، بل نفسُهُ متصلة بنفس الامام، بل مندكّة وفانية فيها. بناءً على ذلك فأي شيء يقوم به ويفعله فكأن الامام قام به بنفسه، وأي حديث يدلي به فهو عن لسان الامام عليه السلام، يظهر من خلاله بعنوانه أحد مظاهر الامام وإحدى بروزاته وكل ما يخطر في ضميره النيّر، فهو رشحة من نفس الامام دون أي شائبة. وبعبارة أخرى، هما حقيقة واحدة (والتي هي عينُ مقام ولاية الامام عليه السلام وإحاطته الكلّية والنورانية) قد تجلّت وبرزتْ في ظهورين وتجلًيَين، فتجارب الوليّ وبياناته هي من تلك العين الزلال ومن معين مشرعته النضرة. بلى حينئذٍ يستطيع الاستاذ أن يهدي الى الذات الاحدية والى حقيقة مقام الولاية المطلقة، فهنا لا يبقى بين الولاية والتوحيد أي مائز أو فارق)31. ثم يقول: (فعلى هذا الاصل، لا فرق بين كلام الاستاذ والامام، بل لا معنى له ابداً، لأن كل ما يقوله الاستاذُ الواصل والعارف الكامل والوليُّ المندك والفاني في ولاية الامام هو عن الامام، وكل ما يقوم به فهو من الرشحات الوجودية للامام عليه السلام، فكلام الاستاذ هو كلام الامام، وفعلُه فعلُ الامام، وضميره وسره وسويداؤه سوف تكون ضمير الامام، فهنا مقام تجلّي الحق في مرآتين، فهو ظهور لا شائبة فيه، نور للوجود قد تجلى في موجودين، فاختلاف الاستاذ مع الامام لا يعدو كونه اختلافا في الشكل فحسب، اختلاف في الصورة والعرض، اختلافٌ في المظاهر المُلكية والناسوتيًة، فهذه الجهة الشكليًة المُميًزة لكل منهما لا تقبلُ التغيير والتبديل ابداً، إلا أنها لا توجب الافتراق والتباين. من هذا المنظار يمكننا إدراكُ حقيقة ما كان يذكرُه المرحوم العلامة الطهراني مراراً، حيث كان يقول: (كنت انظر الى استاذي وكأنه النبيّ الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم او الامام عليه السلام). لذلك كان يرى انَّ المرحوم آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد جواد الانصاري كالنبي – بالطبع مع حذف الخصوصيات الفردية. أيّ كلام عرشيٍّ عظيم هذا الكلام؟! إنّه لعميق جداً، وبيان واقعي جداً! يُنبيءُ عن سر السلوك، وحقيقة العرفان والتوحيد والمعرفة الواقعية للامام عليه السلام، ويكشفُ عن الوصول الى اعلى مرتبة من المعرفة والدراية)32!

فبعد هذا النص الصريح والمهم والذي يضع جميع النقاط فوق الحروف لم يعد مجال لاخفاء سر غنوصي عرفاني انتج بجدارة ولاية الفقيه المطلقة!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here