ثقافة الارتقاء، قصة نرويجية !

ثقافة الارتقاء، قصة نرويجية ! * د. رضا العطار

كان ابناء القرية البدائيين يعيشون هانئين في وادي فسيح تحيطه الجبال، كما يحيط السوار بالمعصم، وكان مجرى ماء صغير يسير هونا في اخدود ضيق، يتبدد عندما يبلغ البطائح. ولم يكن شيئا يذكر اذا قيس الى حجم الانهار ولكنه كان يكفي القرويين حاجاتهم الاساسية. وفي المساء عندما كانوا يسقون ماشيتهم ويملأون جرارهم كانوا يقنعون بالجلوس ويتطعمون الحياة.

وكان (الكبار العارفون) يحضرون من زواياهم المعتمة حيث كانوا يقضون نهارهم في التأمل في صفحات خفية من كتاب قديم، يغمغمون بكلمات غريبة لأحفادهم الذين كانوا يفضلون اللعب بالحصى على سماع تلك الكلمات غير المفهومة وقد كتبها شعب مجهول قبل اكثر من الف عام، يعتبرونها مقدسة. ولأن الناس في هذا الوادي كانوا يقدسون كل شئ قديم، فألئك الذين كانوا يتجرأون على معارضة حكمة الاباء، كان الناس يتجنبونهم،
وهكذاعاشوا في سلام.

وكان الخوف يلازمهم ,والقلق يلاحقهم، عندما يتسائلون: ماذا يحدث لو اننا حرمنا من خيرات الحقل ؟ لكن كانت تتلى عليهم في همس عندما يخيم الظلام في ازقة قريتهم الصغيرة قصص عن الرجال والنساء الذين تجرأوا على ان يشكوا ويسألوا، وبعضهم ذهبوا ولم يعودوا، اؤلئك الذين عبروا الجبال التي تحجب عنهم الشمس، لكن هذه هي عظامهم مطروحة عند سفح الجبل. وجاءت السنون ومرت السنون وعاش ابناء القرية في وادي الجهل اُمّيين آمنين.

وفجأة ظهر من الظلام انسان، كانت قدماه ملفوفتين بالخرق وهي حمراء بعد ان تلطخت بالدماء من مشاق السير الطويل، ووقع على عتبة الباب لأقرب كوخ اليه وطرق الباب.
ثم اغمي عليه من شدة الاعياء فحمله القوم في ضوء شمعة مرتجف الى سرير.
وفي الصباح تراكض الناس كلهم في القرية مرددين عبارة ( انه قد عاد، انه قد عاد )

وفي احدى زوايا القرية انطلق – الكبار العارفون – يهزون رؤوسهم وينطقون بكلمات من نار، فقد اعتقدوا ان هذا الانسان قد خالف التقاليد وخرج عن ناموس القرية، والآن يجب محاكمته، لينال العقاب الذي يستحقه. وتذكروا ان ابيه عمل نفس فعلته قبل اعوام خلت، كان نصيبه التيه في الصحراء حتى هلك، فعظامه مبثوثة هناك.

فحملوا هذا السائح الى سوق القرية، يحيطه الناس من كل جانب وهو لا يزال مضعضعا وقد اضناه التعب والعطش. فأمره ( الكبار ) ان يقعد لكنه ابى، وامروه بأن يلزم الصمت ولكنه تكلم. ثم ادار ظهره الى – الكبار العارفون – والتفت الى اهالي القرية، وقال :

اصغوا اليّ . اصغوا اليّ جيدا وابتهجوا . لقد ذهبت الى ما وراء الجبال وهانذا قد وافيتكم منها. ولقد وطئت قدماي ارضا جديدة وصافحت يداي هذه ايدي اناس آخرين ورأيت عيناي اشياء عجيبة مدهشة.
اني حين كنت طفلا كانت حديقتنا هي كل العالم الذي اعيش فيه وعندما كنت اسأل احدا : ماذا وراء هذه الجبال ؟ كان الجواب هو الصمت و هزّ الرؤوس. وكنت اذا الححت في السؤال اخذوني الى عظام اولئك الذين حاولوا معرفة الحقيقة وتجرّوا على عبور الجبل وتحدوا الالهة.

وكنت اصيح واقول هذا افك عظيم وان الالهة تحب الشجعان. لكن – الكبار – كانوا يقولون ان كل شئ في السماء مرسوم بالناموس، وان هذا الوادي بنص الناموس نملكه نحن ونعيش فيه. لنا حيوانه وزهره وثمره وسمكه نفعل به ما نشاء. وان الجبال فهي ملك الالهة لا يجوز عبورها، وما وراء الجبال يجب ان يبقى مجهولا حتى آخر الزمان.

هكذا كانوا يقولون لنا وكان قولهم كذبا، الاّ اني اقول لكم ان في الجبال مروجا، وهي مروج نضرة كأحسن ما يكون، وهناك اناس من دمنا ولحمنا كما ان هناك مدنا تزهي بمجد آلاف السنين. لقد اكتشفت طريقا يؤدي الى وطن افضل من سجننا هذا، فهناك الحياة سعيدة. فأمشوا ورائي اقودكم اليها ! هذا العمل يفرح الالهة التي سوف تشجعكم وترحب بكم. ثم سكت فعجّ الواقفون وضجّوا.

فصاح – العارفون الكبار ـ (هذه زندقة ) انه يحتقر الناموس الذي كتب قبل الف عام. انه يستحق الموت عقابا ! فهجم عليه المتعصبون، يرجمونه بالحجارة حتى مات. ثم حملوه الى سفح الجبل وتركوه لتكون عظامه بعدئذ عبرة للأخرين.

وجاء بعد ذلك جفاف عظيم، فتوقف النهر الصغير من الجريان. وماتت الماشية واحترق النبات فعمت المجاعة وادي الجهل كله، وجاء الشتاء وهلك نصف سكان القرية، ولم يكن ثمة رجاء لآولئك الذين لم يموتوا الاّ في ما وراء الجبال. فجاءت الثورة:

وشكا الناس حظهم وصاروا يندبون ولاء ابنائهم لأولئك – العارفون – ولكنهم عندما شاهدوا اخر عربة تغادر الوادي انضموا الى القافلة وساروا. وبعد ان هلك منهم كثيرون جوعا وعطشا تمهدت الطريق امامهم وسط الغابات والصخور الى ان وصلوا المروج الخضراء، فنظر بعضهم الى بعض وقالوا : ( لقد كان السائح على صواب وكان – العارفون – على خطأ. لقد صدق الشاب وكذب الكبار. انه انقذنا ونحن ذبحناه )

ثم اطلقوا خيولهم وثيرانهم في المراعي الخصيبة وابتنوا لانفسهم منازل وزرعوا الحقول وعاشوا سعداء. وبعد سنوات سار منهم موكب يحفّه الوقار الى ذلك الوطن المهجور فوضعوا في موضع الشاب القتيل في سفح الجبل حجرا ونقشوا عليه اسم ذلك الشاب الشجاع الذي تحدّى الجهل و الظلام، والذي هداهم الى طريق الصواب الذي فتح لأبناء قومه ابواب الحرية. وذكروا في شاهد القبر، ان الخلف قد اقام هذا الأثر رمزا على شكرانه.

* مقتبسة من اعمال هندريك ويلم فان لون.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here