شوروية الاسلام وديمقراطية امريكا النخبوية

منذ فجر الاسلام كان هذا الدين يدعو إلى الشورى والديمقراطية. انه لم يدعوا لحكم ديني يدعي فيه الانسان بأنه يحكم الناس بتوكيل أو تفويض من الله وعليهم السمع والطاعة. فقد كانت سنة رسول الله وصحابته جلية واضحة. لان الله تعالى امر رسوله أن يتحاور ويسمع راي الصحابة. كان في بعض الأحيان يتنازل عن رأيه وينحاز إلى رايهم. ففي معركة بدر انحاز إلى راي الخباب في تغيير موقع الجيش الاسلامي. كما أنه عمل برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق بالمدينة المنورة. هناك الكثير من الايات تؤكد بأن الله جعل الانسان خليفته في الارض لاعمارها وهو حر في تسيير شؤون حياته السياسية والإقتصادية والثقافية والعلمية.
من الصحيح أن هناك فترة محددة لم تتجاوز 23 سنة جعلها الله فترة تدريبية بقيادة رسول الله لتعليم المسلمين كيف يمكنهم الاعتماد على انفسهم لتدبير شؤون حياتهم. لقد كان الوحي يتدخل بأمر من الله لتصحيح هذا القرار أو ذاك لبناء الاسس الاخلاقية والسياسية السليمة. بعد وفاة رسول الله انتهت هذه الفترة الاستثنائية لهذا لم يوصي الرسول لاحد يخلفه في حكم الدولة من بعده. لأن الأمر أصبح منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها يعتمد على ارادة الشعب واختياره الحر لحكامه. لذا فعندما جاء الخلفاء الذين اتوا بعده لم يدعي أحدا منهم بأنه معين من الله أو من رسوله إنما قالوا بانهم بشر اختارهم اهل الحل والعقد فيخطئوا ويصيبوا. على عموم المسلمين انذاك اخذ مسؤولياتهم لمراقبة وتصحيح قرارات حكامهم في امور الدولة.
لقد استنبطوا طريق حكمهم من القران الكريم وسنة رسوله. فقد سبق ان اكد رسول الله على ضرورة قبول قرارات الاغلبية المسلمة. إذ قال ما اجتمعت امتي على ضلال. اذن فلا شك أن حكم وارادة الشعب تبقى هي الفيصل في تسيير وقيادة الدولة. لا بد للناس ايضا أن يختاروا ممثليهم لهذه المهمة. فقد قال رسول الله لمواطني المدينة من المهاجرين والانصار واهل الكتاب أن يختاروا لهم نواب كم يتحاور معهم ويستشيرهم.
لكن بعد أن تخلى المسلمون عن نهجهم الشوروي الديمقراطي وتحولوا إلى انتهاج سياسة الملك العضوض أو الحكم الدكتاتوري البعيد عن أسس الاسلام فتخلوا عن مسؤليتهم الانسانية. لم تكن لتجاربهم فيما بعد الكثير من القيمة والاهمية السياسية في دول العالم غير المسلمة. أنهم لم ينجحوا في تعميق تجربة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب في العدالة وحرية الراي وتشجيع العلم والعمل. لقد ترك المسلمون  الانسانية انذاك بلا مقود ولا نظام لاتمام الطريق وتجذيره.
اما في أوروبا فقد كانت شعوبها تعاني من حكم القساوسة وكانوا في ظلام دامس وذلك ابان القرون الوسطى. كان القساوسة يعتبرون أنفسهم ظل الله في الارض أو الممثلين عنه. بل كانوا يبيعون قطع اراضي في الجنة وفق صكوك الغفران إلى الناس من اجل مصالحهم الدنيوية. ثم استغلت اوربا فيما بعد الفراغ الذي تركه المسلمون وغيرهم ليطرحوا البديل الاستعماري الامبريالي العنصري المتمثل في عبودية الجنس الأسود واستعمار العرب والمسلمين وذلك منذ القرن الخامس عشر. لقد تعمق النهج العنصري ضد العرب والمسلمين بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية. إذ تم عزل الكنيسة عن الحكم السياسي ومنعت من التدخل في الشأن العام من الناحية الداخلية. دخلت اوربا في مرحلة اسوء مما كانت عليه إذ اشتعلت الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت واليهود. ثم بدات الثورة الفرنسية تاكل قادتها وتتحول إلى حكم فردي لا يحترم أي مبادي دينية أو اخلاقية. لعل حكم نابليون افضل مثال على ذلك.
أن ضعف واضعاف العرب والمسلمين وانشغال الدول الاستعمارية في الحملات الصليبية اخفى الكثير من عيوب الديمقراطية وما كانوا يسمونه آنذاك بعهد النور والتطور والنهضة. منذ ذلك الوقت كانت الديمقراطية لعبة بيد حفنة أو نخبة من المغامرين من العسكر والمدنيين. كانوا يفسرون الياتها وفق مصالحهم فيرفعوا من ينفذ ماربهم الاستغلالية والاستعمارية ضد غيرهم. يقطعوا رؤوس من يعارضهم بالمقصلة أو غيرها. لم يكن الاعلام مثل ايامنا هذه يكشف الكثير من الامور المخفية.
إن ما نراه اليوم كان موجود سابقا لكنه كان مستورا. فقد كشف الإعلام وجه الديمقراطية ومثالبها على الملىء. فهي لا تمثل عمليا كل الشعب إنما تتحكم به لوبيات منتخبة تعمل وراء الكواليس.
إن ما نراه من التجارب الديمقراطية في امريكا واوربا يبين بصورة لا تقبل الشك بأن أسس بناءها كان عنصريا. إذ يخدر الشعوب داخليا ويقنعهم بانهم يقودوا أنفسهم بأنفسهم من خلال الاختيار والانتخاب. ثم يشغلهم في حملات لاستغلال ثروات الشعوب الاخرى.
فعندما غزت أمريكا العراق عام 2003 وفرضت دستورا طائفيا في بداية عام 2005. اغلب المخلصين كانوا يعلمون بان أمريكا والغرب يتبعون سياسات عنصرية مفادها أن الدول العربية لا تستحق ديمقراطية حقيقية محايدة لا تفضل دين على دين أو مذهب على اخر أو عرق دون غيره. لذلك لم يستغربوا عندما وجدوا مواد الدستور تؤسس لحروب اهلية دينية وطائفية وعرقية لا نهاية لها. لكن البعض منهم أعتقد بأن ديمقراطية أمريكا في الداخل مثالية وتحترم خيارات الشعب.
ما رايناه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الاخيرة يبين ويوضح بأن الفساد اصيل فيها سواء في العراق أو في عقر دارها. اذ يتلاعب اصحاب القرار في الغرف المغلقة بحيثياتها ونتائجها. ستكشف لنا قادم الايام والشهور المزيد للتعرف على صناع الملوك والرؤساء. إنها قوى تسيطر على مفاصل الدولة الاستراتيجية ومرتبطة بلوبيات صهيونية وماسونية. لا ندري هل سينجح ترامب من كشف المزيد من هذه المافيا التي تعمل ليل نهار كي يفوز بايدن بالرئاسة. في حين ثبت أن هناك خروقات جماعية واضحة في الأصوات وهناك أدلة كثيرة تم نشرها. ليس من الديمقراطية في شئ على سبيل المثال أن يكون الناخب لعبة بيد المجلس الانتخابي.
لقد انحرفت الديمقراطية كثيرا عن ارادة الشعب وهي بحاجة إلى تجديد جذري. فقد سبق ان طالب أصحاب السترات الصفراء في فرنسا على سبيل المثال في اصلاح النظام الديمقراطي وتوسيع قاعدته. لكن السلطة السياسية واللوبيات التي تسيرها لا تسمح لاحد مشاركتها في قيادة العالم حتى لو كانت متجهة نحو الدمار والخراب.
الدكتور نصيف الجبوري
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here