لغتنا العربية وطبيعة تفكيرنا !

لغتنا العربية وطبيعة تفكيرنا ! (*)
د. رضا العطار

التفكير البشري درجات, ينزل بعضها الى مرتبة الحيوان، كالحركات الانعكاسية, كما يحدث حينما نقترب من النارعفوا، فنتراجع ـ ـ فالعين تطرف من القذى. واللعاب يسيل عند رؤية الطعام الشهي. والجسم يرتجف للصوت المفاجئ. وغير ذلك مما يشبه هذا بحركات انعكاسية نحن وجميع الحيوانات سواء فيها كما قلنا.

يقول – بافلوف – عالم الفسيولوجيا الروسي الشهير, ان كل تفكيرنا بعد ذلك مهما ارتفع انما هو حركات انعكاسية قد – تكيفت – بظروف جديدة . اي قد نُقحت. فعدل عنها عن اصلها مثلا. او زيد فيها التنبيه او نقص. فكان تفكيرنا ينهض على قواعد من الحواس الخمس التي نولد بها. لكن حواسنا كثيرة, ليست مقتصرة على النظر والسمع واللمس والشم والذوق . فهناك الحاسة الجنسية التي يلتفت بها الذكر الى الانثى والعكس. وهناك حاسة الاتزان التي تجعلنا نعتدل فلا نسقط عند المشي او الوقوف. وهناك الحاسة التي تجعلنا على وجدان بأعضائنا الداخلية فنحس حركتها ونعرف منها الجوع او الشبع او الغثيان … الخ.

اننا نجهل الحواس الاخرى لاننا لم نعين اسما لها. وعند الباحث بافلوف ان هذه الانعكاسات هي الاساس الاول لتفكيرنا. وانها ساذجة عند الحيوان الادنى, لكنها مركبة عندنا وعند الحيوان الاعلى . فنحن والكلاب سواء اذا رأينا المائدة وقد زودت بالاطباق . حتى ولو لم يوضع عليها الطعام . اي ان لعابنا ولعاب الكلب يجري . لاننا ربطنا وضع الاطباق بأقتراب الميعاد لوضع الطعام . فما كنا نسميه – توارد الخواطر – قد صرنا نسميه – انعكاسات مكيفة – اي ان رؤية الطعام تحرك اللعاب , ثم رؤية الطبق بلا طعام تحرك ايضا اللعاب . ولكن الفرق بيننا وبين الكلب ان هذا يستطيع ان ينتقل من انعكاس الى آخر مرتين او ثلاثة، بينما يبلغ عددها عند الانسان مئة مرة .

مثال ذلك شخص يخشى الغرباء, وكلما قابل رئيسه ارتجف. فهنا انعكاس مكيف, اي عدل به عن اصله. ( والانعكاس المكيف هو ما يسمى ايضا بالانعكاس المركب )
لان هذا الخوف يرجع الى ان اباه كان قاسيا عليه في طفولته. فكان يخشاه. واذا صادف رجالا يشبهون اباه. فانه صار يخاف منهم.

حين نبدي اعجابنا بصورة تحوي منظرا ريفيا جميلا او بقصيدة تشيد بالحرية, او بتمثال من الجبس للربة فينوس, فان سرورنا هنا يرجع الى انعكاس ابتدائي ساذج انتقل الى انعكاسات اخرى. كذلك نحن ننسى الاصول في حب احدنا للهندسة الكهربائية وحب الآخر للزراعة وحب الثالث للتجارة وانغماس الرابع في الخمر. ولكن اذا كانت الانعكاسات المكيفة تبين لنا الاسباب والارتباطات التي تجعلنا نسعي لغرض ما يختلف احدنا فيه عن الاخر . فانها لا تبين اشياء كثيرة عديدة نختلف فيها. كالقدرة على التوهم . اي التخيل او درجة نمو العقل. اي ان الانعكاسات المكيفة تفسر لنا ميولنا واتجاهاتنا. ولكنها لا تفسر لنا كل التفكير البشري. ونعني بعبارة التفكير البشري شيئا اكبر مما نرى في الحيوان. وان كنا في حالات كثيرة من هذا التفكير لانجد فرقا بيننا وبين الكلب ولا نذكر القردة العليا القريبة من الانسان في حقل طبيعة التفكير.

انظر مثلا الى التخيل, فان الكلب يحلم وينبح في نومه. اي انه يتخيل. بل هو ينبح حتى في يقظته اذا خاف وتوهم شيئا. كما نرى في كلاب الريف. ولكن خيالنا نحن يتسع لاكثر من هذا كما ترى حين يؤلف احدنا قصة من 400 صفحة, كلها توهمات وخيالات. فالاساس واحد ولكن الدرجة مختلفة.

او انظر في الانفعال والعقل، فان 99% من تفكير الكلب انفعال واقل من واحد عقل. بل هناك من ينكر على الكلب ميزة العقل. ولكن ما هو العقل ؟ ؟ ؟ ، تذكّر اُمّا تحب طفلها المريض وتتألم لألمه ولا تطيق بكائه. ثم ينصح الطبيب بأعطائه جرعة مرّة من دواء تعرف هي انه يكرهه ويبكي من مذاقه. فهي هنا في تردد بين عاطفة حب الام وعاطفة التبصر لمستقبله. فهي تقف حائرة, تتدبر وتفكر . وتحاول ان تخترع اسلوبا يرضي الطفل ولا يفوّت عليه فائدة الدواء. هي الان في عقل. اي في تفكير. لا نكاد نجد مثله عند الحيوان الا في الاقل النادر, وهذا العقل هو اصل الضمير. هو اصل قولنا : ماذا اختار ؟ هو اصل التفكير البشري . فالحيوان ينفعل, اي انه ينساق بعاطفة الخوف او الحب او الكره او الهجوم . وهو حين ينفعل لا يكاد يفكر . لانه منساق بعاطفته قهرا . ولكنه اذا تردد بين عاطفتين, احس بالتفكير. ولكن هل الاسد او الثعلب يتردد ؟ ربما !
وعندئذ هناك لمحة من العقل. بل لعلها لمحة زائلة, لان احد الانفعالات قد تغلب على الاخر. ويتبدل الانفعال الى الهروب او الهجوم او الافتراس. بل لعله كان حركة من الاصل. ونحن البشر حينما ننفعل , نحس وكأننا في غيبوبة. فلا ندري ما نفعل, حتى لقد ننطق بكلمات او نؤدي حركات نتعجب بعدها, كيف قمنا بها ؟ . لان العقل جاء في الافاقة من الانفعال . وصرنا نقارن بين عواطف مختلفة, اي صرنا نفكر .

كلنا يعرف اننا في النوم نحلم, واحلامنا هي عواطف مسيّبة دون ضابط خارج سيطرة العقل. فالعقل اذن من خواص اليقظة والانتباه . اي كلما قلّ الانتباه قلّ التفكير . والانفعال يرتبط مباشرة بالغرائز البيولوجية تشمل العادات الاجتماعية يرتبط بها العقل , لكن ليس مباشرة, اساسها هوالانعكاسات المركبة !

وقد عززت اللغة قدرة الانسان على التفكير. لان الحيوان حين يصرخ انما يكون انفعاليا, بينما الانسان عندما ينادي او يستغيث يكون موضوعيا الى حد كبير .
وهناك فن نشاطنا ما يتجاوز العقل, مثل هذه الخاصية التليباثية التي اصبحنا نعتقد بها . اي هذا الاحساس الذي نحسه عندما نكون بعيدين عن شخص نحبّه ونعزّه , تقع به حادثة او وفاة. وكأننا قد رأينا ما حدث, ننطلق في البكاء , مع ان بيننا مسافة قد تصل الى الف كيلو متر ولم يعد شك في هذه الظاهرة وهي بالطبع فوق العقل،هي انتقال تطوري جديد.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here