الحوار الذي اجرته معي الأديبة العراقية فاطمة الفلاحي

عبد الستار نورعلي

من فعل التحرّر الكتابي والمشروع المعرفيّ الحداثيّ مع الأديب “عبدالستار نورعلي” في بؤرة ضوء – الملف الأول
فاطمة الفلاحي

1. التحرّر الكتابي:
أول معصم الليل تتوالى شهقات قلبه النابض بالشعر، فقد باغتنا بجنون “رقصَ الحبُّ” ونزف النغـم في عروق”شرخٌ على القلبِ” بين الدهر والحلم .
و”قصيدة تائهة” تغتال أنفاسي وهي تضلُّ طريقها في “المنافي” لتحطَّ على قارعة قلب”الشاعر العاشق”، كان ذلك في ” يوميات مدينة” حيث “الساحات ملأى بالخيل وأزهار الشوق” و”هند” تملي علينا بــــ”وصايا داخلية” قائلةً: “ولّى الشبابُ!؟ فلا!”
و”يا….. حمد”، “أنا مغرمٌ بالشعرِ لستُ بشاعرٍ” فقد “شُغفْتُ بما تقولُ هوىً مُراقا”
و”اهجمْ هجومَ السهمِ…! فـــــ” أطفئيني بنارك” نقدًا. وما كان بيني وبينك أقسم “والليلِ إذا يغشاها” “والقمرِ إذا تلاها””والشمس وضحاها ” لم تك ” ثرثرة غير فارغة”
“إنها مدينة العطور والدماء “.. “قالتِ الشمسُ ” عنها هامسة أن لك قصائد عذبة ولك من الدواوين الشعرية تخلب الألباب لغتها …

الأديب عبد الستار نورعلي :
ـ يوم وقفْتُ أولَ مرةٍ ألقي شعراً، وأنا على مقاعد مرحلة الدراسة الإبتدائية، من على شرفةِ الطابق الثاني المطلّة على باحة الطابق الأول (مدرسة الفيلية الابتدائية) في خمسينات القرن المنصرم، وفي احتفال رفعة العلم صباحَ الخميس من كلِّ أسبوع، لألقي قصيدةً على تجمُّع الطلاب المنظَّم بحسب الصفوف بالطابقين، وقد أختاروني لألقي قصيدة ميخائيل نعيمة:
أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا
وبنبرة عالية حاولتُ من خلالها أنْ يصلَ صوتي الى كلِّ المصطفين في ساحة المدرسة المُغلَقة، إذ كانت بيتاً واسعاً، يعود في الأساس لملكية أول رئيس وزراء في العراق (عبد الرحمن النقيب) بعد الاحتلال الإنجليزي. وجرى في غرفة الإدارة ـ كانت غرفة الضيوف ـ أول لقاء بينه وبين الملك فيصل الأول عند قدومه للعراق، شعرتُ بزهوٍ طفوليٍّ، مازالَ في داخلي يسري، وكأنّني صاحبُ القصيدة. كنتُ أحفظها عن ظهر قلبٍ، وعددٍ من أبيات قصيدة إيليا أبي ماضي (الطلاسم):
جئتُ لا أعلمُ منْ أينَ، ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرْتُ قدّامي طريقاً فمشيْتُ
وسأبقى سائراً إنْ شئْتُ هذا أم أبيْتُ
كيفَ جئتُ؟ كيف ابصرْتُ طريقي؟
لستُ أدري
وغيرها من الأبيات ـ حتى للمتنبي ـ من قصيدته عن الحمى:
وزائرتي كأنَ بها حياءً
فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ
وكانت، على ما أذكر، ضمن كتاب (المطالعة) بمادة (اللغة العربية) في منهج الصفين الخامس والسادس الابتدائي، إذا لم تخنّي الذاكرةُ. ولاحظي هنا (ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي والمتنبي) في منهج اللغة العربية في المدارس الابتدائية أيام الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، تصوّري!! وقارني مع اليوم!
يوم ألقيتُ القصيدة، وبالمضبوط لغةً وحركاتٍ وإلقاءً، حاولتُ أن أنقلَ من خلاله أجواء القصيدة ومضمونها، أحسستُ أنّ هناك شيئاً في داخلي يشدّني، أنا الطفل، فأحسستُ بنشوةٍ تسري في عروقي وبفخرٍ. كنتُ أستعير من مكتبة المدرسة العامرة بكتب المنفلوطي والزيّات والرافعي وجبران ونعيمة وايليا أبي ماضي، إلى جانب قصص ومجلات الأطفال التي كنتُ أستعير منها، فشدّتْ اهتمامي روايات المنفلوطي المترجمة (في سبيل التاج) (الشاعر/ سيرانو دي برجراك) (الفضيلة) (ماجدولين)، وكتاباه (النظرات) و(العبرات). وأنت تعلمين أنّ أسلوبه كان ممتعاً قريباً الى الفهم، والقصص كانت مثيرةً تشدّ القارئ، مع أنّ لغة الكتابة في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل العشرين يطغى عليها السجع والتقليد. كما بدأتُ بقراءة ما يتيسّر لي ويسهل عليّ من الزيّات والرافعي، مع أنهما كان يصعبان على ذهن صبيٍّ غِرٍّ، ولكنْ كما يقول المتنبي:
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ
وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
فكنتُ على قدرِ عزمي ووعيي وإدراكي.
وبعد ذلك أصبحْتُ مشدوداً إلى الروايات بنهم ، فكانت روايات (أرسين لوبين/اللص الظريف) وروايات (روكامبول) البوليسية الرائجة حينها تلتهمني، ثم روايات (اجاثا كريستي) و(آرثر كونان دويل) ورواياته عن شخصية (شرلوك هولمز)، وقصص (أدغار ألان بو) الغامضة، وذلك لعنصري الإثارة والشدّ اللذين يطغيان عليها، إضافةً إلى الأحداث المثيرة، بحيث كنتُ لا أترك الروايةَ أو القصة حتى نهايتها. الروائيُّ والقصصي الناجح حتى اليوم، مع كلِّ تقنيات التقدم والتجديد في القصة والرواية، هو الذي يحرص على هذين العنصرين في كتابته لكي يلقى النجاح، فيشدُّ القارئ ويثيرُه. ونحن نلاحظ أنّ الكثيرين من القُرّاء، ومنهم المتخصصون، يتوقفون عن قراءة بعضَ الروايات من الفصول الأولى، ومن أسباب ذلك المللُ والضجرُ نتيجةً للترهل الوصفي، أونقصٍ أو ضعفٍ في الإثارة والشدِّ والحبكة. وهذا يشمل كلّ الروايات، ليس البوليسية فحسب. وأنا هنا أتحدث كقارئ ومتابع، فالكثير من الأدباء والنقاد يذكرون أنهم يركنون جانباً بعض الروايات دون إكمالها، ومن بداياتها. ثمّ كانت للرواية العربية على يد روادها والذين أعقبوهم، المصرية والعراقية، نصيبها الكبير في قراءاتي، وتأثيرها الذي نحت في الذاكرة آثارها وشخصياتها لحد اليوم. وبعدها الرواية العالمية: الروسية والأنجليزية والفرنسية والأمريكية وغيرها.
وفي أثناء ذلك وفي المراحل اللاحقة دراسياً وعمرياً واظبتُ على قراءة الشعر للعديد من الشعراء، وكان شعراءُ المهجر في المقدمة ومنذ البدايات هم أكثر من استحوذ على القراءة والحفظ: (جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة…) ثم جاء دور (أبو القاسم الشابيّ)، فأحببتُ فيه رومانسيته، وقصائده في وصف الطبيعة وفي التعبير عن آلامه في مرضه الذي أودى به، وهو في الخامسة والعشرين:
سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ
كالنسرِ فوق القمّةِ الشمّاءِ
أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً
بالسُحْبِ والأمطارِ والأنواءِ
أحببْتُ إصرارَه على الحياة ومقارعةِ الموت. هذا الرجل لو عاشَ لكانَ من أكابرِ الشعراءِ العرب ـ إنْ لم يكنْ أكبرهم ـ في القرن العشرين. ثم توالى الشعراء عليَّ، منهم شعراء العراق المجددون (السيّاب، بلند الحيدري، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي). أحببتُ فيهم (الحيدري) أكثر، فحفظتُ له الكثير، لبساطته وسهولته الممتنعة وقصائده العامرة بالحسّ والصدق. ثم حين دخلتُ الجامعة/ كلية الآداب/ قسم اللغة العربية/بغداد وابتدأت بالتخصص والدخول في عوالم الأدب العربي منذ الجاهلية، والشعر خاصةً، لأنه الفن الأدبي الأول في العربية. وبعدها بدأ مشواري الشعريّ، ومشواري المهني في التدريس. عُيّنْتُ مدرساً في ثانوية المدحتية بالحلة 1964. ثم بعد عامٍ أصبحتُ مديراً لمتوسطة المدحتية، حيث انشطرت الثانوية إلى متوسطةٍ وإعدادية عام 1965.

* وعدد من القصص والحكايات منح فيها الحرية” لأبطاله، يولجون ذاكرتنا دون استئذان، فتملؤنا بالمتعة والخوف من تبعات مجريات الأحداث والحياة…
كتبها وهو يقول:

ـ عبد الستار نور علي :
” أنا ابنُ بغداد، وُلدْتُ في محلة سراج الدين بباب الشيخ وفي دربونة الملا نظر، وقد سُميَتْ باسم جدي الكبير (الملا نظر)، فهو الذي بنى أول دارٍ في المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشرَ على بستان من اثنتين وعشرين نخلةً. وقسّمها دارين: الكبرى للعائلة، والصغرى ديواناً للضيوف مع اصطبل ملحق. الكبرى جمعتْ عائلته الكبيرة بأولاده وأحفاده، وفيها كانت ولادتي ونشأتي ودراستي، وقراءاتي الأولى، ومكتبتي الصغيرة التي أسستها من مصروفي الخاص…”

* صاغ من أحكامه النقدية وشومًا تجدها في كلّ مكان في كتاباته:
– “كتبتُ عن الكثير من الأدباء والشعراء العراقيين والعرب والسويديين، نشرتُ بعضها في كتابي (باب الشيخ) الصادر عام 2003 في السويد، وكتاب (شعراء سويديون: دراسات ونصوص)، كما يضمها كتابان مخطوطان: (في رحاب الكلمة)، و(شعراء سويديون) الجزء الثاني. وقد كتبتُ دراسات عن شعراء وقصاصين عرب شباب في بداياتهم: (نعيمة فنو) من المغرب، (عمران عزالدين) و(هوشنك أوسي) و(خلات أحمد) و(محمود عبدو عبدو) و(عماد موسى) من سوريا، وعلاء الدليمي وضرغام عباس من العراق، وقد أصبح لهم اليوم شأنهم في فنهم الأدبي الشعري والقصصي وحصل بعضهم على جوائز أدبية، (عمران عز الدين) في القصة القصيرة مثالاً. كما كتبتُ عن (علي عصام الربيعي) شاعراً وإعلامياً عراقياً ناجحاً. وكتبتُ عن الكثير من الشعراء والروائيين العراقيين والعرب.”
لتزيد من شساعة المجال البصريّ للقارئ لتغذّي مخيّلته .

***********

2. خارج أسوار الوطن استوطنت روحه السويد كمهاجر :
– “كيف للسويد أنْ لا تستوطن الروح والقلب، وقد كنتُ غريب الروح واليد (القلم) في وطنٍ مثقلٍ بجراح القريب والبعيد، الداخل والخارج. كان للعسس دورٌ في الاستعداد للنفاذ بالجلد، جلدي وجلد عائلتي، إذ كان باب البيت يُدقُّ، لا بيدٍ مضرجةٍ بالدم، كما تمنّى أحمد شوقي:
وللحريةِ الحمراءِ بابٌ
بكلِّ يدٍ مُضرجةٍ يُدقُّ
كانت أيدي رجال الأمن تدقّهُ، والتحقيقات جاريةٌ بخبثٍ مُبطّنٍ بلسانٍ من حرير. تصوري أنَّ أحدها جرى في بارٍ في (ساحة حافظ القاضي) ببغداد، وحول مائدةٍ عمّروها بقاني البيرة (فريدة) و(شهرزاد) مع المزّة، بعد أنْ أخذوني بتاكسي من بيتنا في مدينة الحرية، كان عصر جمعةٍ، وأنا غاطٌّ في قيلولة بعد رجوعي من غداءٍ في مطعم (الشاطئ الجميل) في شارع أبي نؤاس، مع البيرة المثلجة بمعيةِ جمع من الأصدقاء. والمضحك أنَّ رجلي الأمن قالا بالحرف الواحد:
ـ أستاذ، لا تدفعْ الأجرة، الدائرة هي التي تدفع!
وقد دفعوا ثمن المائدة العامرة في البار. لكنني لم أذقْ قطرة بيرةٍ واحدة، ولا ملعقة مزة. مرّت في خاطري قوافل المسمومين الذين راحوا ضحايا الطعام أو الشاي أو الماء داخل المعتقلات، أو أثناء التحقيق. طبعاً السم الذي يقتل ببطء. قال أحدهما:
ـ أستاذ، أشو متشرب ولا تاكلْ مزّةْ؟
بماذا أجيبهم؟ قلتُ: “هو الواحد في هذه الحالة يقدر أنْ يشرب ويأكل!”
ثم بعدها أخذوني الى مكوىً خلف سينما الزوراء داخل زقاق ضيق. وتحدث أحدهم في التليفون مخاطباً من اسماه بـ(المقدّم صالح):
ـ مقدّم صالح، الأستاذ ويانه (معنا) انجيبه (هل نأتي به)؟
ثم أغلق الهاتف. وقال بأنّ المقدم يقول لا، ماكو داعي. وبأنه يجوز لي أنْ أعود الى بيتي. على موعد في الساعة الواحدة من اليوم التالي (السبت) عند حديقة الزوراء قرب مقر المخابرات العامة. ثم استأجروا تاكسي وأوصوه بان يوصلني إلى باب بيتي، ودفعوا له أجرته. وأوصلني.
تصوري حالي تلك الليلة وحال أهلي! وقد وصل الخبر الى الجيران والأقارب، فعاشوا في رعبٍ، وحين رأوني عائداً تنفسوا الصعداء بعد أنْ يئسوا من عودتي، وأنّي خلاص رحلتُ!
وماذا عن اليوم التالي! ذهبتُ على الموعد، وليكنْ ما يكون، وتاكسي الى شارع الرشيد ومطعم قرب (مقهى البرازيلي)، وفي السيارة أخرج أحدهما مجموعة من الملفات وقال: هذه لأناسٍ آخرين.
وفي المطعم وصّوا على ثلاث نفرات قوزي على تمن، فاعتذرت عن الأكل، وأصرّوا وأصرّيتُ قائلاً:
ـ هو باقي عندي نفس آكل!
بعد الغداء استأجروا لي أيضاً تاكسي ليوصلني الى البيت ودفعوا الأجرة. وقبل ذهابي قالوا:
ـ احسبْ الى يوم الثلاثاء، إذا لم نأتِ، فلن نأتي.
ولم يأتوا!!!
تخيّلي حالي وحال أسرتي والقلق الذي عانيناه الى الثلاثاء!
الغريب أنّه لم تكن هناك تحقيقات مثلما تعودنا. مجرد كلام.
وهذه واحدةٌ من حالاتٍ سبقتها، من زيارات للبيت مجرد دقّ الباب ، ثم الاعتذار، ومرات استدعاء الى مركز الأمن في المدينة، ثم: تعالْ غداً! وهكذا.
بعد كلِّ هذا وجدت أنّه حفاظاً على حياتي وحياة عائلتي لا مفرّ من الهجرة والفرار, وكان التخطيط ثم التنفيذ فالهجرة. استغليتُ توقف القتال بعد حرب الكويت وفتح باب السفر، أخذت عائلتي عن طريق الأردن الى بلغاريا، ومنها الى السويد. وكانت مغادرتنا في 27 كانون الأول/ديسمبر 1991، وحين سُئلنا عن سبب السفر قلنا لقضاء اعياد رأس السنة في الأردن.

**********

3.كمين الكتابة ينسل من تجاويفه رائحة البخور والضوء:
نصبت أصابعه كمين الكتابة بحق توجعات مَن في المهجر، متسللًا إلى قلوبنا كقصيدة احترفت الصلاة على حافة الشجن؟

الأديب عبد الستار نورعلي:
– “الغربةُ صعبةٌ. كنتُ أذكرُ دائماً أغنية رضا الخياط وأردّدها مع نفسي:
“بالله ياطير الحمام اللي مسافرْ
بلِّغْ أحبابي السلام.”
وقد كتبْتُ قصيدةً في السويد بتاريخ 29 نيسان 1994:
يا طيورَ الشوقِ، رفِّي
فوق أهدابِ الفرات.
وانثري قلبي رذاذاً
بين أمواج المياهْ
ونسيماً عاطراً يحضنُ قاماتِ النخيلْ.
ياطيورَ الشوقِ، ردِّي لي السلامْ.
حدِّثي السعفَ وشهدَ النخلِ،
أسرابَ الحمام .
بلِّغي أهلي واصحابي وجيراني الكرام ،
خبِّريهم أنَّ في الروحِ جراحاً
وحنيناً، ورياحاً.
خبِّريهم أنّهمْ ضلعٌ من الأضلاعِ
ما فيهِ انفصامْ.
باللهْ ياطير الحمامْ،
سلِّمي لي، باللهْ ياطير الحمامْ .
قبِّلي وجنةَ طفلٍ..
ليس فيهِ غيرُ آثارِ العظامْ.
خبِّري دجلةَ والأحبابَ..
أنَّ الحبَّ ما زالَ لهيباً في ضرام ْ.
باللهْ ياطير الحمامْ،
خبِّريهم أنَّ شمَّ الهيلِ نبضٌ لا ينامْ.
وأبو نوّاسَ في الأقداحِ ذكرىً لنْ تُضام .
إنَّ في الذكرى السلامْ!
إنَّ في الذكرى السلامْ!

وتكاد مجموعتي الشعرية التي أصدرتها في السويد عام 2003 (على أثير الجليد) يطغى عليها هذا الحنين والشوق ومعاناة الغربة:
في شارعٍ يحفلُ..
بالأشجارِ والضياءْ
تمشي….
ويمشي خلفك الخوفُ..
منَ القادمِ والمجهولْ….
وينظرُ الناسُ إليكَ:
إنّكَ المجهولْ!
فكيفَ تستقبلُ في عيونهمْ
تحفُّزَ الخيولْ!
وظلَّ هذا الهاجسُ يلعبُ فينا في ملعبِ الهجرةِ صراعاً بين عالمينِ: الوطن الأم، والوطن البديلْ:
أوّاهِ من هذا الرحيلِ الصعبِ،
يا زمنَ البديلِ الصعبِ!
خيلٌ هوتْ بينَ الخرائطِ ..
(البدائل)،..
تنزوي في الركنِ،
تحلمُ بالسباقْ….
(من قصيدة “الرحيل”)

***********

4. استيقظت العائلة على رائحة البخور وإشراقة فجر ندي لتحتضن وليدها وهو ينسلّ من تجاويف الضوء :

الأديب عبد الستار نورعلي:
– في يومٍ مجهول، وفي شهرٍ غير معلوم ،ومسجّل في الجنسية العراقية (1/7) ـ كعادة الملايين من العراقيين ـ ومن العام 1942 انطلقت الزغاريد في دار الملا نظر في محلة سراج الدين في باب الشيخ:
ـ جابت ولد ! …..
على ثلاث بنات. والوالد كان وحيدَ أبويه. ولي (علي) واحدٌ على بنتين. لا أعرف: هل هو القدر المكتوب، كما يؤمنُ العامةُ؟ ربما! قالوا أنّ والدي قد حلم بعد ولادتي أنّ ملائكةً بأجنحةٍ بيضاءَ قد رفعتني ووضعتني على القمر، فقال:
ـ هذا الولد راح يصعد نجمه ويصير اسمه عالي!
كان الناس ينعتونه بـ(الملا)، إذ كان مؤمناً تقياً صالحاً مرجعاً في الأمور الدينية. لا أذكر أنّه غضب عليّ يوماً، أو صرخ في وجهي، أو لامني على شيء، فقد كنتُ هادئاً وديعاً مجتهداً في المدرسةِ، أقرأ كثيراً المجلات والكتب، وقد كوّنتُ لنفسي مكتبةً خاصةً في غرفتي، أصفُّ فيها المجلات والكتب بعناية وفرحٍ وترتيب. كنتُ أشعرُ بمتعةٍ كبيرةٍ وأنا أنظر في المكتبة الصغيرة التي اشتراها لي والدي هديةَ تخرّجي من المدرسة الإبتدائية بتفوق (مدرسة الفيلية الإبتدائية) في باب الشيخ/بغداد. بعد الإبتدائية أكملتُ الدراسة المتوسطة في (مدارس كلية بغداد) في الوزيرية، والتي كانت تابعة للكنيسة اليسوعية الأمريكية. كان أساتذتها من الآباء اليسوعيين الأمريكان، وكانت مواد الدراسة باللغتين الإنجليزية والعربية، العربية كان أساتذتها عراقيين.

**************

5. منذ ريعان صباه، امتهن الأدب والشعر فغرس قصائده في الوريد :

الأديب عبد الستار نورعلي:
– “أذكر أول بيتين قلتهما وأنا صغير، ربما في المتوسطة، كنتُ خارجاً من إحدى دور السينما بالباب الشرقي عائداً الى البيت مشياً، فقلتُ:
قلبٌ تحطّم في الهوى
ويهيمُ ليس له دوا
ما لي أراهُ يفتشُ
عن قلبهِ بين النوا
ما زلتُ أذكرُ هذين البيتين وبنشوة، مع بدائيتهما الشعرية.

6. في صحيفة (Folket ) السويدية كتب بحبر نبضه:

الأديب عبد الستار نورعلي:
– “نشرت في صحيفة (Folket.) عدداً من المقالات العامة والقصائد باللغة السويدية ، وكانت إحداها قصيدة في اغتيال وزيرة الخارجية السويدية (أنّا ليند) التي أغتيلت في الحادي عشر من سبتمبر 2003 ونشرت في الصفحة الثانية من الصحيفة (لسان حال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي كانت تنتمي اليه الفقيدة ذات التوجهات اليسارية الاشتراكية الحقيقية.”

**********

7. سبر أغوار اللغة لإظهار جمال وقبح الحياة والتمرد على قبحها
أسلوب عبد الستار نور علي جمع بين الأسلوب الكلاسيكي والحديث، وأظهر جمال وقبح الحياة والتمرد على قبحها… هل تحتاج اللغة العربية إلى التفقه فيها وسبر أغوار بحورها حين تجلد أو تجمِّل الآخر ؟

الاديب عبدالستارنورعلي:

التفقُّهُ باللغة بمعنى: العلم بها والتمكّن منها، وإدراك أسرارها نحواً وصرفاً ودلالةً، وفهم مكامن العلاقات بين الكلمات لإيصال المعنى بشكل متكامل الى المخاطَب، دون لبس أو غموض. ولذا فإنَّ التفقُّهَ باللغة ـ لأنها أداة التعبير وإيصال المعنى ـ عنصرٌ أساسٌ من عناصر الفنِّ الأدبي عموماً، ومنه الشعر، ليتمكنَ الأديبُ (الفنان) أنْ يوصلَ المضمونَ المُبتَغى إلى المتلقي بأبهى حلّة، وبأقوم أسلوب، وبلغةٍ نقيةٍ بليغة ذاتِ أثر، سواءٌ أكانَ الكلامُ جَلْداً أم تجميلاً. وفهمُ حالتَي الجَلْد (القبح) والتجميل وكيفية التأثير في المتلقي، والتعبير الدقيق عن المعنى والصوَر، هو في التفقّه باللغة، ففيها مكامن الجمال، ومكامن الجلد، والشاعر المتفقّه في اللغة هو القادر على اصطياد هذه المكامن، جمالاً وجلْداً . وإلا لنْ يصلَ النصُّ إلى غايته المرتجاة.

التفقّه باللغة لا يعني التقليد الصارم لمقتضياتها وقواعدها وبلاغتها ومنهجيتها المتوارثة نحواً وصرفاً، فقد يخلق الشاعرُ المتبحِّرُ في اللغة لغتَه وبلاغتَه الخاصةَ التي تشير إليه، وتكون خصيصةً فيه مختلفاً عمّن سبقَه أو جايلَه, وهنا أذكر نزار قباني وهو يرى: “بأنَّ الشعر حالة يضعنا فيها الشاعر بعيداً عن إطار اللغةِ والبلاغة المعروفة والقواعد المدونة، شاعر يستطيعُ أنْ يأخذ المساحة الكبيرة من الحرية عندما يكتب النص.”

وهو ما أثبته (ت.س. إليوت) حين قال:
“إنّ قسماً من الشعر يبتدعُه الشاعر، وإنّ قسماً آخر يدرّ له التراث .”
فالابتداع ـ كما تعلمين ـ يعني الابتكار والاستحداث خارج الأشياء السابقة، وأشياؤنا نحن هي الشعر واللغة، فهما واسطة نقل مشاعرنا وأفكارنا وأحلامنا ومشاهداتنا وتجاربنا إلى الآخرين.

ومنْ منطلق قول إليوت ذاك وجدتِ أنتِ من خلال قراءتك لشعري أني أجمع بين الأسلوب الكلاسيكي والحديث، وهو ما ذكرتِه في دراساتك عن فني الشعري. وهي دلالة عملية ميدانية لقول الفرنسيين: “الأسلوب هو الرجلُ نفسُه.” فدراستي واختصاصي هما في القديم والحديث من الأدب، وهو ما حفرَ ملامحه في شعري.

**********

8. معارك تتويج الألقاب الشعرية والكتابية المنسلة من ثقافة.
لله درُّ معارك تتويج الألقاب الشعرية والكتابية المنسلة من ثقافة مهمشة، هل نُصبت الكتابة كمينًا لشبابها من الكُتَّاب والكاتبات على محك الريح في جملة من التعتيم ” لا إبداع شبابي ” أم ترى إنهم بحاجة إلى دعم كبار الكُتَّاب قبل مشوارهم الإبداعي ،ولاسيما أن الثقافة يتم تهميشها في بلادنا، لمَن إنتشلت؛ ومَن دعمت ؟

الأديب عبد الستار نورعلي:

– كما ذكرتُ سابقاً: لي ولع دائم في متابعة كتايات الشباب مما تقع تحت يدي، وليس كلُّ ما يُنشر، وذلك لكثافته، إضافة الى صعوبة وصول المنشور والمطبوع إلى كلّ زاوية في العالم لنحصل عليها. ولولا نعمة النت ووسائل التواصل الألكترونية لظلَّ الكثيرون مجهولين، ولبقي ما يُنشر ـ حتى للكبار ـ في دائرة الظلّ. لكنَّ الزحمةَ الشديدة للمواقع الأكترونية، وغزارة ما تنشره، تجعلنا لا نتمكن من مواكبة هذا الكمّ الهائل من النشريات والأسماء.

لقد وفّرت صفحاتُ التواصل الاجتماعي، وحرية النشر على النت، حيث لا تابو، ولا رقابة، ولا مَنْ يمنع، وفرّتْ فرصةً للشباب أنْ يكتبوا ويقدموا إبداعهم الى العلن، والى عامة القرّاء والمهتمين، كما دفعتهم الى إنشاء مواقع وصفحات شخصية، ينشرون من خلالها ما تجود به قرائحهم وأفكارهم من إبداع فنيّ، ورأي ثقافي أو سياسي. كلّ هذا أتاح لنا أن نعثر على الكثير من المبدعين الشباب الذين أستحقوا ويستحقون أنْ يأخذوا مكانهم في عالم الأدب الذي يبرعون فيه وتدور مواهبهم في واديهِ. وبالتأكيد احتاجوا ويحتاجون دعمَ الكبار للاستفادة من خبراتهم ليواصلوا مسيرتهم الإبداعية بجدارة الموهبة والمقدرة الفنية.

تحت ظلِّ هذا الاهتمام بالشباب كتبتُ عن عدد منهم وهم في مبتدأ ولوجهم عالم الأدب ولذاذته مع وعورة مسالكه، والجهد الذي يُثقل كاهلَ مرتاده من تعبٍ تحت وطأة المثابرة والمتابعة والاتساع في نهل قديمه وجديده والثقافة بعوالمها المتنوعة، لأني لقيتُ في منتجهم الأدبي، شعراً كان أم قصّاً، ما يشي بفنٍّ يحمل في طياته موهبةً عاليةً وقدرةً فنيةً تنمُّ عن مستقبل واعدٍ، وقد كان ما تنبأتُ به. ومن الذين كتبتُ عنهم دراسات نقدية: (نعيمة فنو) من المغرب وهي الى جانب موهبة الشعر فنانةٌ تشكيلية. وقد ترجمت الدراسة الى اللغة الفرنسية. (عمران عزالدين) و(هوشنك أوسي) و(خلات أحمد) و(محمود عبدو عبدو) و(عماد موسى) من سوريا،وقد أصبح لهم اليوم مكانتهم المشهودة على الساحة الأدبية العربية. وقد حصل بعضهم على جوائز: (عمران عز الدين) في القصة القصيرة مثالاً. كما كتبتُ عن (علي عصام الربيعي) شاعراً وهو إعلاميّ عراقيّ ناجح وكذلك (علاء الدليمي) و(ضرغام عباس). إضافةً إلى مداخلاتي على ما ينشر البعض منهم على مواقع التواصل الاجتماعي و المواقع الثقافية، ومن خلالها أقيّمُ نصوصهم مشجعاً.

لا أظنُّ أنَّ أحداً قادرٌ اليوم على التعتيم أو التهميش، ففضاء النشر واسعٌ سعَةَ فضاءِ الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة للكلّ، فهي تستقبل ما ينشر الشبابُ، غثّناًاً كانَ أم سميناً، والزمن والقارئ والناقد المُبصرُ والمهتمّ كفيلون بالغربلة. فلا أحدَ ـ أياً كانَ ـ له حقُّ رفع تابو في وجهِ أحد، فنُّ الكتابة هو الذي يقرّر.

أما توزيع الألقاب الشعرية فهو من آثار تراثنا الثقافي والاجتماعي الميّال الى حبّ التفخيم والتعظيم والتغنّي بالألقاب والصفات المُعظِّمة: جلالته، فخامته، سيادته، عظمته…. وليس الشعراء ببعيدين عن هذا: (شاعر السيف والقلم)، (أمير الشعراء)، (شاعر النيل)، (شاعر القطرين)، (شاعر الشباب)، (شاعر العرب الأكبر)….الخ. وليس حال الشعر اليوم بمختلف عن حال الأمس، مع الفارق بين الحالين من رقيٍّ وامتلاء.

يدخلُ اللقب عند البعض الأخر في إطار خصيصة من خصائص شعر الشاعر الغالبة على الأخريات، قد تكون غرضاً شعرياً، أو مضموناً، أو أسلوباً فنياً لغوياً أو جمالياً، أو قصيدة أشتهر بها، أو بيئةً: (شاعر الخضراء/ أبو القاسم الشابي)، (الشاعر القروي)، (بدوي الجبل). وقد تكون أثراً لشاعر قديم، أو صفةً مشتركةً بينهما: (الأخطل الصغير). أو تكون صفةً من صفات الشاعر الذاتية. وهذا شيء آخر خارج التعظيم والتفخيم.
ويبقى ـ مع كل ذلك ـ شعر الشاعر هو القول الفصلُ.

************

9. طقوس الحرف في محراب الكتابة
هل لك طقوسٌ في مراسيم الكتابة ؟ هل تضجر مما تكتبه أحيانًا ؟

الأديب عبد الستار نورعلي:

إنْ تسألي عنْ طقوسي فهي ماضيةٌ
خلفَ التي بالنوى والوصلِ تسـقيني

ليسَتْ لخيلي طقوسٌ تستفيءُ بها
إلّا التي في هـزيعِ الليـلِ تأتـيني

طـَلْقاءُ مُقبلةً ، غـَنْجـاءُ مُـدبرَةً
في خطوها نبضاتُ القلبِ والعينِ

سيدتي،
أنتِ تدرين وأدري ـ هكذا نحن كتبْنا، نكتبُ ـ أنّ للكتابة عند كلّ كاتب، شاعراً كانَ أم ناثراً، طقوساً خاصةً تحت ظلّها يستريحُ وحيُهُ (شيطانُه عند الشعراء)، فتسترسلُ أحاسيسُه وعواطفُه وخيالُه وأفكارُهُ بأريحية وانسياب وتدفّق.

(الناثر) يُفكّرُ ويُخطّطُ ،ليكون النصُّ واضحاً عنده، ثمّ يستعدّ ويتهيّأ منْ قبلِ أنْ يبدأ بمراسيم الكتابةِ وطقوسها. أما (الشاعرُ) فلا يدري متى وأينَ وكيفَ يهبطُ شيطانُه طائراً من وادي عبقرَ ليلقي رحالَه في حسّه. قد يكون (الشاعر) ماشياً في الطريق، أو راكباً في باص عمومي، أو مقتعداً زاويةً في مقهىً، أو جالساً في مكانٍ عام (متنزهٍ، مكتبةٍ)، أو مستيقظاً في جوفِ الليل/في الفجر ….إلخ. وهذه حالي، فلستُ باستثناءٍ. يقول الكبير محمود درويش:
“حين تكون القصيدة واضحة في ذهن الشاعر قبل كتابتها، من السطر الأول حتى الأخير، يصبح الشاعر ساعي بريد، والخيال درّاجة”

سيدتي،
عادةٌ لي أنْ تكونَ في جيبي ـ معطفاً أم قميصاً ـ وأنا خارج من البيت، أوراقٌ بيضٌ وقلمٌ، وإلى يومي هذا. أعثر أحياناً على أوراق قديمة بيضاء خالية، أو فيها شخبطات من كلمات وأبيات منفردة، في جيوب معاطفي التي أهملْتُ ارتداءَها منذ زمن، أو مللْتُ منها. اعتدت هذا تحسباً للحظةٍ، غير مُخطّطٍ لها، يهبط فيها الشيطانُ ـ على مزاجه واختمار التجربة الحسية ـ فيوحي إليّ، فأسارع بإخراج ورقةٍ والقلم خشيةَ أنْ يغضبَ الشيطانُ فيولّي دبرَهُ مُتحيّزاً للنسيان. وغالباً ما أهرعُ إلى المكتبة العامة، أو مقهىً قريب، أو أيّ مقعد يصادفني في الطريق، لأسطّرَ ما تفضّل به الوحيُ.

مثلًاً، مجموعة (يوميات مدينة) هي مِنْ موحيات مشاهداتي للمدينة التي أقيمُ فيها: (أسكلستونا/السويد)، كلُّها انطلقتْ وأنا على طريقي إلى المكتبة العامة عند الظهر بعد الساعة الثانية عشرة، وبالتحديد في الساعة الواحدة ظهراً وما بعدها، فوُلدتْ كاملة. وقد كتب عنها الناقد والشاعر العراقي الراقي الأخ (هاتف بشبوش) دراسةً نقديةً مهمة تجوّلَ في ثناياها تجوالَ سائحٍ مشدود بمشاهداته.
وللعلم كلُّ القصائد التي تولد في هذه الأجواء أعيد النظر فيها ليلاً فأكتبها نقيةً صافيةً قبل أنْ تطير لتهبط في عالم النشر.

أما (هزيع الليل الأخير) فله حصة الأسد من قصائدي، فأثناءه وُلدَتْ الغالبية العظمى، ووسط هدوئه وصمته ووقاره ارتدتْ حلتّها الأخيرة.

اعتدتُ أن أكتب القصيدة على ورقةٍ أوليةٍ بمسودة ولادتها الأولى، ثمّ الكتابة فوق البيت أو تحته أو بين كلماته ممّا يستجدّ من اضافاتٍ أو حذفٍ أو تغيير وتنقيح. ثمَّ أعيد كتابتها بعد ذلك، ربما ثانيةً وثالثةً على أوراق أخرى، حتى تستوي على عودها الأخير خاليةً من كلّ الشوائب الشكلية تلك، نظيفةً تامةً، وأنا أتنفسُ بارتياح بعد هذا المخاض العسير.

(القصيدةُ) حسناءُ تتبختر أمام الشاعر، تتدلّل، تتغنّج، تتمنّع، تنأى، تقتربُ، إلى لحظة أنْ ترتمي في أحضانِ قلب الشاعر وحسّه وعاطفته الجيّاشة، راضيةً مرضيّةً، فتدخلُ فردوسَ كلمة الشاعر، تعانق روحَه المبدعة الخلّاقة، فيستسلمُ لها مسترخياً في نشوةٍ علويةٍ، لا تدانيها نشوة، مستلقياً على فراشٍ من ريش الجمال، وحلاوة الكلام المباح وغير المباح!

سيدتي،
أما اليوم فإنّ الهاتف المحمول قد استولى على دور الورقة المحمولة، فاحتلّ مكانها احتلال غازٍ مقيم. لكنْ يبقى للورقة طعمُها ولذاذتها التي لا تقدرُ الآلة أن تصلَ إلى حواشيها. لكنني لم أنفكّ عن عادة الأوراق البيض والقلم وما يسطّر ما تبثّه النفسُ، وينبضُ به القلب، ويُبصرُ الفكرُ، وترى العينُ. وإنَّ لها لسحرَها الذي لا يُضاهَى، وطعمَها الذي لا يُجارى، وعرشَها الذي لا يُدانى.

وللمعلومة، لا حضورَ اليوم للسيجارة والكأس، ولا للشاي والقهوة، في حضرةِ طقوسي، مع أنّ الكأسَ والسيجارة والسيجارَ والغليون، كانوا ندماني في محرابِ القصيدة، في ماضي الأيام، حتى طلّقتها جميعاً بالثلاث في العاشر من الشهر العاشر لآخر عامٍ من الألفية الراحلة 2000.10.10 ، والحمد لله. وللعلم أيضاً، لم أكنْ مدمناً على أيٍّ منها، إنَما لـ(متعة لحظةٍ)، أو تسلية في جلسات (ليالي الأنس) والسهر البريء في بغداد (الزمن الجميل)، مع الندامى الأنقياء الحلوين.

أمّا الضجر من قصيدة!!؟

أيضجرُ القلبُ منْ عشقٍ يلوذُ به
في القرِّ والحرِّ دفآناً وبردانا !

هو الوتينُ، فما للروحِ مِنْ نفَسٍ
منْ دونهِ، وفـراغُ الكونِ مـأوانا

ليس ضجراً:
أحياناً، تراودني القصيدةُ لحظةَ اختمارٍ وتوقٍ للولادةِ، أقولُ: هيتَ لكِ! فإذا بها تفرُّ منْ يدي، لتختفي تاركةً أثراً (مطلعها)، وقد لايكون مطلعها. ثمّ بعد زمن تعود “مشتاقةً تسعى إلى مشتاق” لترتمي في أحضانِ صدري معانقةً، فتحفر نفْسها تامَّةَ الخِلقةِ والصياغة، شكلاً ومضموناً، كاملةً بحلّتها القشيبة، واقفةً على قدميها، لتسقيني خمرتها المعتقة في كأسٍ منَ اللذةِ، فتثمل الروحُ نشوةً علويةً، ويرقص القلبُ، فأجرُّ نفَساً عميقاً وأسترخي على فراشٍ منْ ندىً وورد، وربما في أخدودٍ منْ نارٍ ووقود.

************

10. نهر شعره ينهض على كتف فتنة الكتابة
فتنة الكتابة تقتحم أحيانًا ماتيسر من (التناصّ) بغية الوصول إلى نصّ يقبع فينا، كم مرة اكتشفتَ روحك متلبسةً بتهمة كتابة التناصّ ؟ ومَن كانت تناصّك الروحي في ساحة الشغف والجنون الآثم فلا مجال لفنائها؟

الشاعر والمترجم عبد الستار نور علي يحدثنا،قائلًا:

ــ بدءً ليس التناصّ تهمةً يتنصل منها الشاعر، بل هو غنىً مضاف إلى غنى النصّ، حين يأتي متعالقاً مع نصٍّ آخر، أدبياً أم دينياً أم تاريخياً أم منْ منابع أخرى، تجذّر في روح الشاعر منحوتاً معلّقاً في ذائقته وذاكرته الحافظة، فاستقرّ في وعيه وفي لاوعيه، لدرجة التوحّد، بحيث يخرج ممتزجاً بالنصّ بعفويةٍ تعبيرية وتلقائية لحظة ولادة النصّ، وبوح الشاعر عن تجربته الحسيّة، يجد متنفسه للإنطلاق عند العلاقة بين ما يخلقه الشاعر من نصٍّ وبين النصّ المخزون، بوعيٍّ مسبق من الشاعر أو بلا وعيٍّ تلقائيّ. هنا يكون الغنى والتعالق الولادي الطبيعي. أما حين يكون مُقحَماً متكلفاً (مُصطنَعاً) فلا يكون عندها غنىً بل صناعةً ميكانيكية جامدة مع سبق الأصرار والتخطيط.

ربما كان التناصّ عند القدامي يوضع في خانة (السرقات الأدبية). لكنه اليوم مصطلح نقدي أدبيّ، وباب من أبواب فن النقد، قال فيه النقاد غرباً وشرقاً الكثير، ليصبح مادةً للدراسات الأكاديمية والنقدية العامة.

تدرين جيداً أنّ النصّ الأدبي لا يأتي من فراغ. إنه صياغة لغويةٌ ذات علاقات وأبعاد ودلالات نحوياً وتعبيرياً ومعنىً مقصوداً إيصاله الى المتلقي، سامعاً كان أم قارئاً. فليس الشاعر إلاهاً لغوياً ليخلق لغته الخاصة ـ بمفهوم الألفاظ والتعابير والصور ـ بعيداً عن لغته الأم وتراثها اللفظي (النطقي) اليومي والكتابي والتعبيري نثراً وشعراً (التراث الأدبي)، إضافةً الى التراث الديني (الكتب المقدسة وأحاديث الأنبياء والرسل والأولياء)، ثم أقوال الحكماء والأمثال والقصص والروايات والشعر، وغيرها من مناحي الحياة الإنسانية الأخرى. إذ ترى الناقدة الفرنسية (جوليا كريستيفا) “أنّ النصّ الأدبي لا يولد من الصفر، بل له سوابق ينبع منها وينطلق ليتشكّل، فهو جزءٌ من نصٍّ عام”. مثله مثل الماديات التي تُبنى على ماديات سبقتها وتتطوّر منها، ليُصنعَ من مجموع ما سبقها شكلٌ جديد مضاف، بتقنية وذوق وجمالية وصياغة وهدف الصانع الجديد ومهارته وحذقه. فلا شيء يأتي من فراغ.

الشاعر ـ مبدعاً في الأمة ـ يمرُّ عبر هذه السلسلة المترابطة والمتنامية في مسبحة الكلام خِرزاً فنيةً، ترفد ذائقته ووعيه ولاوعيه، لتجد مستقراً لها في مخزن ذاكرة اللاوعي مع مرور الزمن، شبيهاً بـ(الفلاش USB) ـ المخزن الإضافي للنصوص التي نحفظها في الكومبيوتر كي لا تضيع ـ هذه النصوص المخزونة تجد لها متنفساً ومنفذاً عندما تعثر على فرصة سانحة مواتية ـ تجربة دربٍ أو حدثٍ أو حسٍّ أو مضمون تتلاقى تشابهياً (تعالقياً) ـ فتنسلّ من بين أصابع الشاعر ـ وعياً أم لاوعياً ـ لتستقرّ بين خلايا قصيدةٍ ملائمة المعنى والحسّ والصورة والتجربة، فتزيّنها بوشيٍّ منْ جمالها وتجانسها وزخرفتها لتضفي حلاوةً وحسناً وحرارةً وبعداً فنيّاً جميلاً، وإغناءً معنوياً (مضموناً) ثقافياً. فالتناصّ إشارة لثقافة الشاعر وسعتها وثرائها، واستثمارٌ لها لإثراء نصه والارتقاء به وإحداث الأثر المبتغى منه.

يقول الأستاذ الدكتور (نوزاد شكر مصطف)، من جامعة صلاح الدين/ أربيل كلية اللغات/ قسم اللغة العريبة، في بحثه الأكاديمي الموسوم بـ(التناصّ في شعر عبد الستار نورعلي):
“أخذ التناصّ في شعره أشكالاً متعددة، ومرجعيات متنوعة ارتكنت إليه نصوصه. يُعدّ عبد الستار نورعلي أحد شعراء الحداثة المغتربين عن الوطن، نستشفّ من شعره أصالة ثقافته، وغوصه في التراث العربي والاسلامي والأخذ منهما، ومن يتصفح دواوينه الشعرية وما نشره على صفحات الدوريات والأنترنيت يجد ومضات دينية ووطنية وتراثية تضيء جوانب كثيرة من شعره، استثمرها لإثراء نصّه الشعري على صعيد البلاغة ودلالة الحدث، لذلك يشكل التناصّ ملمحاً أسلوبياَ بارزاً في شعره وقد الشعرية، منها الدينية والأدبية وغيرها.”

أظنُّ أنّ الأستاذ الدكتور (نوزاد شكر مصطفى) أجابَ ضمنياً ـ في دراسته عمّا استفهمتِ عنه في سؤالك:
“ومَن كانت تناصّك الروحي في ساحة الشغف والجنون الآثم؟”.
أقول أنه بالتأكيد ما هو مخزونٌ في حافظة الوعي واللاوعي عندي ـ حالي كغيري ـ خلال مسيرة عمرٍ يمتدُّ عميقاً في غور السنين، منذ أنْ بدأ الوعي يحبو: القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، الكتب المقدسة الأخرى، أقوال وحِكَم لرجال التاريخ العظماء، الشعر العربيّ القديم والحديث، الشعر في العالم لكبار شعرائه التاريخيين والثوريين، والثوار الكبار وما قالوه في مسيرتهم الثورية.

وهنا أورد أمثلةً من التناصّ في قصائدي ـ لبيان آثار النصوص في ماضيها وحاضرها المعلّقة على جدران الذاكرة ـ كما أرّخها أستاذنا الفاضل الدكتور مصطفى ـ في بحثه الأكاديمي القيّم والشامل، وتعالقها بنصوصي:

“ومن التناص القرأني قوله في قصيدة ( كاترينا):
هذه القريةُ غرقتْ في الدجى
أغلقتْ بابها
لملمتْ وجهها في غياب الخجل
ثم نادتْ دون أنْ تذرف دمعةً
إنَّهُ ثمنُ المارقينَ الجناة
أطيعوا أولي الأمر منكم !
نم نامتْ على هدهدة الليل
في سكون الكلام

يمتصّ هذاالمقطع الآية القرآنية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ …] النساء 59 ”

هذا في التناص مع القرآن الكريم. وفي التناص مع الحديث النبوي الشريف يذكر الدكتور مصطفى:

” كما وردت للشاعر أبيات شعرية فيها تناص مع الأحاديث النبوية الشريفة في مواضع عدّة، ومن ذلك قوله في قصيدة ( الانهيار ):
جثةُ تهبطُ من علياءِ، تابوتها
جثةٌ لم تعاشرْ كفناً
لم تصاحبِ الفئة الباغية
تُدفنُ تحت بلاط الأمم المشرئبةِ الراقية
ثمةَ وجهٌ، طفلٌ، رقصةٌ، غانية.

لقد ظهر التناص واضحاً لاسيما في استعمال عبارة ( الفئة الباغية) مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق سيدنا عمّار ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعو الى الجنة ويدعونه الى النّار). لقد افاد الشاعر من هذه القصة لإدراكه قيمتها الدلالية ولتوضيح فكرته وتأييدها. يظهر الشاعر من خلال هذا التناص سخريته من الحكام الذين يقتلون الناس لأتفه الأسباب، فكم من بريء قتل دون سبب إلا لموقف رفض لقرار ظالم أو من موقف جبان متخاذل، فإذا كانت مصاحبة الأشرار والباغين تستحق العقوبة والجزاء فهذه شريعة لابأس بها، أما أن يقتل المواطن بلا سبب فهذه جريمة لا تغتفر، إنها ديدن الطغاة في كل مكان لاسيما عند الحكام العرب، ويؤكد الشاعر هذه الفكرة في قصيدته ( الويل ) التي يقول فيها:

الويلُ إنْ كانَ الذي تقولُهُ
ليس كما يريدُهُ الاخوانْ،
الويلُ إنْ أفلتَ من عِقالهِ الثعبانْ
لاتِنتوي
فإنّما الأعمال بالنياتْ
وأنت تنوي الشرّ بالسلطانْ
وركبهِ الزاحفِ نحو النورِ
والسرورِ
والأمانْ،
فالويلُ لكْ…!
لقد ورد التناص في هذا النص مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم( إنّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنّما لكل امرىء ما نوى…) ”

ويورد الدكتور مصطفى تناصاً مع الإنجيل:

” كما ورد التناص مع نص في الانجيل في قصيدته ( الأحجار):
فوقَ الصدرِ الضامِر حجرٌ
ما أثقلهُ!
ما أوهنَهُ!
تصغي …
مَنْ كانَ بلا إثمٍ
فليرمِ الأحجارْ!

إنه تناصّ مع قول سيدنا عيسى عليه السلام عندما قال: ( من كان بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر ) لقد جعل نصب عينيه نصاً مركزياً مقدساً مُستمداً من الكتاب المقدس ليستمد منه ويجعله مرجعيته الفكرية.”

كما أورد الدكتور مصطفى أمثلة على “التناص الأدبي ” وهو التناص مع نصوص أدبية لأدباء آخرين (التضمين)، شعراً أو نثراً:
” وقد ورد هذا النوع من التناص في شعره بشكل لافت للنظر، ومنه ما تناص به مع قول امريء القيس في قصيدة (أغاني الأغاني)، إذ يقول:
زنبقاتُ الكلامِ تسقطُ في الكلامِ
اليومَ خمرٌ،
وغداً في رفيف النوارسِ أمرٌ
مَنْ يقرأ هذا النصّ يقفز الى ذهنه قول امريء القيس (اليوم خمر وغداً أمر) في دعوة الى الأخذ بثأر أبيه”

ويواصل الدكتور مصطفى في هذا الباب قائلاً:
“ويبدو التناص الأدبي مع قول الشاعر سعدي يوسف، إذ يضمن الشاعر عبدالستار نورعلي ثلاثة أشطر من قصيدة ( السبب) لسعدي يوسف من قصيدته (رسالة الى الأخضر بن يوسف)، في قوله:
يا الأخضرُ، أنتَ تعانقُ قريتكَ بعيداً،
من دون صيارفةٍ
وجلاوزةٍ
وأزقة بغدادَ، وباب الشيخِ.
يا الأخضرُ،
ما كنتَ نديمَ صيارفةٍ
وجلاوزةٍ
بل همسةَ نخلِ ضفافِ الشطِّ
وقلوبٍ أرَّقها الطوفانْ.
يا الأخضرُ،
(( لم ترحلْ خوفاً…
فبلادكَ يفتحُ فيها الأعمى عينيهِ
ويموتُ الشعراء ))

وبعد قراءة قصيدة سعدي يوسف تبين لي أنّ هموم الشاعرين متشابهة الى حد بعيد، إذ يجمعهما وحدة الفكر والتصور، والغربة، وحبّ الوطن الذي تركوه من دون إرادتهم، وطن الخيرات والنعم، إلا أنّ المثقفين من أمثال الشاعرين لا يفيدون من هذه الخيرات،”

سيدتي،
هذه الخزانة المُثقلَة بالرفوف المضيئة لزوايا الروح والشعور والحسّ والعقل، هي الثروة التي خرجتُ بها في مسيرتي الطويلة العريضة، وهي التي تمدّني بالدم الذي ينبض في القلب، لمقاومة الأيام بما تحملها منْ أثقالٍ وأغلال وأنواء وعواصف وقصائف، فتتغذّى بها نصوصي حين تتعالق مع نصوص ما مرَّ ومَنْ مرّوا من الذين ذكرتُ، وتتمازج مع أرواحها وأرواحهم وكنوزها وكنوزهم، الحسية والعقلية واللغوية والأسلوبية التي تولدت من حياتهم وأفكارهم وقلوبهم، فانطلقت في صفحاتهم وعلى ألسنتهم وجمرات أناملهم. أظنّ أنه محيطٌ لا قرارَ له، ولن يجفَّ ما دامت الحياة على الأرض، وما دمنا ننهل من ينابيعها الصافية المتدفقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ لنا عودة معكم في حلقات قادمة، حين يرفدنا بها أديبنا (عبد الستار نورعلي) يومًا ما.

فاطمة الفلاحي
نوفمبر 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here