المتمددون على حساب شعوبهم

المتمددون على حساب شعوبهم
حميد الكفائي
كان هتلر يؤمن بتفوق العنصر الألماني على باقي البشر، وكان يحلم بالاستيلاء على أراضي روسيا الشاسعة، لينطلق منها لحكم أوروبا ومن ورائها العالم، وما شجعه على اعتناق هذه الفكرة، وأقنعه بإمكانية تحقيقها، هو التقدم العلمي والاقتصادي والصناعي الذي حققتها ألمانيا منذ القرن التاسع عشر حتى وصوله إلى السلطة في الثلث الأول من القرن العشرين. لكن طموحاته التي كانت مصحوبة بعنصرية فوقية، ونزوة تسلطية توسعية، قادته إلى ارتكاب مجازر بشعة بحق اليهود وغيرهم، أنذرت دول العالم في قاراته الخمس إلى خطره الداهم وضرورة مواجهته قبل استفحاله، فتوحد العالم ضده في حرب عالمية دامت ست سنوات وراح ضحيتها ملايين البشر ودمرت فيها المدن الرئيسية في أوروبا، وانتهت بانتحاره وزوال حكمه وتقسيم ألمانيا إلى دولتين، لم تتوحدا إلا بعد 45 عاما من الانقسام والتناحر.
لم يتحقق حلم هتلر في حكم أوروبا ولم يتحقق حلم الشعب الألماني في العيش بسلام ورخاء، إلا بعد زوال حكمه ومعه الأيديولوجية النازية، لتعود ألمانيا إلى العيش على الأرض مع باقي بني البشر. لقد توحدت الألمانيتان عبر التفاهم والتعاون والتطور الاقتصادي الذي حققته ألمانيا الغربية المتحالفة مع الأعداء السابقين! وبعد خمسة وسبعين عاما من إزاحة النازية، تحولت ألمانيا إلى قوة للخير والتقدم والرخاء في العالم، وتمكنت من توحيد أوروبا على أسس التعاون والتكافؤ، وليس على الغلبة والهيمنة، وأخذت تساعد الدول الأخرى في حل أزماتها الاقتصادية والإنسانية وتستقبل اللاجئين، وتخترع الأدوية واللقاحات وتقدم أفضل المنتجات والصناعات للعالم في ظل أيديولوجية التسامح والتعاون والإبداع والعمل بالممكن.
شيءٌ مقارب حصل في اليابان، التي نشأ لدى حكامها مطلع القرن الماضي، طموحٌ بأن يحولوا اليابان إلى امبراطورية عظمى (داي نيبون تيكوكو) تحكم آسيا. وقد نشأ هذا الطموح بعد التقدم العلمي والاقتصادي والعسكري الذي حققته اليابان الإمبراطورية، في ظل السلالات الثلاث (موتسوهيتو، يوشيهيتو، وهيروهيتو) التي حكمتها منذ القرن السابع عشر حتى عام 1945، عندما احتلها الحلفاء وأجبروها على التخلي عن أحلامها التوسعية، وتبني دستور سلمي ديمقراطي عام 1947.
تعثر تقدم اليابان العلمي والاقتصادي عندما لجأت إلى الحروب والتوسع وانتهى بها الأمر دولةً محتلة، لكن الإبداع الياباني اتخذ منحى آخر في ظل الاحتلال الغربي لها، إذ تمكنت في ظله من أن تتطور وتصبح قوة اقتصادية وصناعية عملاقة، إذ كانت إلى عهد قريب الاقتصاد الثاني في العالم من حيث الحجم بعد الولايات المتحدة الأمريكية لكنه الآن الثالث من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، والرابع من حيث القوة الشرائية المقارنة، ولم يتبقَ لها من حلم الإمبراطورية سوى الاسم، فبقى ملكها يسمى امبراطورا، ولكن دون امبراطورية حقيقية!
وعلى رغم الفارق الكبير بين الطموحات التوسعية الاستعمارية للألمان واليابانيين، المشار إليها أعلاه، فقد برز في عالمنا العربي زعماء اعتقدوا بإمكانية إنشاء دول أكبر من التي يحكمونها، لكن تلك الطموحات قادت إلى إضعاف تلك البلدان وتأخيرها عن الركب العالمي عقودا، بل إن بعضها، كالعراق وسورية، مازال يواصل التقهقر.
في مصر، مثلا، سعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى توحيد الأمة العربية في دولة واحدة، تُنشأ على أسس قومية، على رغم الاختلافات الثقافية والسياسية والتأريخية بين الدول العربية، لكنه لم يجنِ من هذا الحلم سوى الهزائم والتراجع والحروب، التي أضرت بمصر وباقي البلدان العربية. كان بإمكان عبد الناصر أن يستثمر شعبيته وشخصيته الكارزمية لتعزيز المشتركات القومية والثقافية والاقتصادية بين البلدان العربية، خصوصا وأن مصر سبقتها جميعا إلى التطور الصناعي والعلمي منذ عصر محمد علي باشا.
لكن عبد الناصر كان في عجلة من أمره، على مايبدو، لأن طموحه كان شخصيا، أكثر منه قوميا، إذ كان يريد أن يوحد البلدان العربية تحت قيادته بأي وسيلة، بما فيها القوة العسكرية، بدليل أنه ارسل الجيش المصري ليحارب في اليمن، وقدم مساعدات عسكرية ومالية إلى دول عربية أخرى لتغيير أنظمتها، كسوريا والعراق وليبيا والسودان، إذ تمكن الناصريون من إسقاط الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان بتأييد ومساعدة مباشرة من مصر. البلدان العربية، وعلى رغم توفر أسس الوحدة الثقافية والاقتصادية، وربما السياسية، لها مسارات تأريخية متباينة وطموحات وطنية متميزة وتحالفات إقليمية ودولية مختلفة. نعم كان بإمكانها، ومازال، أن تتكامل، ولكن عبر التفاهم والتعاون والتنسيق، وليس عبر الاستعجال في تأسيس كيانات طارئة تفتقر إلى التماسك، ووفق أجندات شخصية وأيديولوجيات طوباوية.
الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، حاول تقليد عبد الناصر، إذ كان مهووسا بالوحدة العربية، لكنه كان متقلبا، إذ تبنى مشاريع متناقضة في أزمان مختلفة، فعندما عجز عن تحقيق طموحه الوحدوي العربي، غادره إلى ما هو أكثر تعقيدا، ألا وهو السعي نحو توحيد القارة الافريقية! فبدد ثروة ليبيا وبذل جهودا مضنية ومكلفة من أجل أن يحقق طموحا غير قابل للتحقيق، من أجل أن يصبح زعيما عالميا، فانتهى به المطاف مقتولا على أيدي الشعب الليبي الذي ثار عليه وأطاح حكمه الذي دام أربعين عاما. كان بإمكانه أن يعمل على تطوير ليبيا، ويستثمر ثروتها في التعليم والتنمية الاقتصادية، وتقديم المساعدات للدول العربية والأفريقية، وكان سيكون مؤثرا، لكنه أراد أن يحقق حلما شخصيا طوباويا على عجل، ولم يشِر عليه أحد باستحالة بلوغ حلمه، بسبب طبيعته التسلطية.
الرئيس العراقي الراحل صدام حسين هو الآخر كان يحلم بأن يكون زعيما عربيا وعالميا، وظل هذا الهوس يلاحقه طوال حكمه الذي امتد 35 عاما، حتى بدد ثروة العراق الهائلة، وأتعب شعبه وزعزع وحدته الوطنية، وتسبب في قتل وتهجير ملايين العراقيين، ومزق الصف العربي إثر غزوه الكويت، ثم جلب جيوش العالم مرتين إلى العراق لينتهي الأمر باحتلال العراق ودخوله عصر الفوضى الحالية التي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بكيفية نهايتها.
كان بإمكان صدام أن يعمل على تطوير العراق عبر التنمية الاقتصادية وترسيخ الوئام الاجتماعي بين سكانه وتطوير الأنظمة التعليمية والصحية والخدمية، ولو كان فعل ذلك، بعيدا عن الطموح الشخصي، لكان العراق من أفضل البلدان العربية في مجالات عدة، ولأصبح وجهة للعمال والطلاب والمستثمرين والسياح، لما يمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية وإرث حضاري. لكنه آثر أن يخوض حروبا داخلية وخارجية، عادت بنتائج مدمرة على العراق والمنطقة برمتها، فانتهى الأمر بالعراق دولة مفككة ضعيفة، لا تستطيع حتى دفع رواتب موظفيها، فيخرج رئيس الوزراء، خليفة نوري السعيد وفاضل الجمالي وعبد الرحمن البزاز، (ليبشر) الشعب بأن الحكومة غير قادرة على دفع الرواتب في شهر يناير المقبل!
ويرى المفكر العراقي الدكتور عقيل عباس أن ما يميز جمال عبد الناصر وصدام حسين أنهما كانا يشعران بـ”استثنائية تأريخية” وأنهما استثمرا في أفكار قومية موجودة ومشروعة، لكنهما تعاطيا معها في شكل غير معقول ودفعاها خارج السياقات التأريخية المالوفة. ويرى عباس أن القذافي، على رغم اشتراكه مع صدام وعبد الناصر في الأفكار والطموحات، فإنه لم يكن مهما أو مؤثرا في الساحة العربية كما كانا.
الزعيم الإيراني علي خامنئي هو الآخر يحلم بإقامة امبراطورية إيرانية تتعدى حدود إيران الجغرافية! ومنذ عام 1979، بدأ نظامه الثيوقراطي يتمدد غربا إلى العالم العربي. فقد أصر على مواصلة الحرب مع العراق لثماني سنوات عجاف، راح ضحيتها مليون إيراني ونصف مليون عراقي، وجرح فيها مليونان آخران، وتكبد فيها البلدان خسائر مادية بمليارات الدولارات، ما أدى إلى إيقاف تقدم إيران، ومعها العراق، ونموهما الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، وزعزعة استقرار المنطقة كلها، لكنه لم يتمكن من التمدد الجغرافي شبرا واحدا، إذ استطاع العراق، بدعم من المجتمع الدولي والعالم العربي وتضحيات أبنائه، إيقاف تمدده.
لكن فرصة التمدد توفرت له بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، الذي حل الجيش العراقي وباقي الأجهزة الأمنية التي كانت تحكم العراق بصرامة، فخلق فراغا أمنيا استغلته إيران أبشع استغلال فأدخلت سرا مليشيات كانت قد أسستها سابقا على أسس أيديولوجية ليكون مرجعها الأعلى خامنئي شخصيا، باعتباره “ولي أمر المسلمين”. ولم يكتفِ بذلك، بل استغل كل حدث ومناسبة لتعزيز الوجود العسكري والسياسي والديني والاقتصادي الإيراني في العراق، وتأسيس مليشيات جديدة، تحمل اسم الله، وسخرها لتمزيق العراق واستخدامه كساحة لضرب خصومه.
لم يتعظ خامنئي من دروس التأريخ وفشل الحالمين السابقين الذين حاولوا التمدد خارج بلدانهم، بل ازداد بمرور الزمن شراسة وعدوانا على البلدان المجاورة، لكنه، كلما أوغل في التمدد خارج حدود إيران، ازداد التلاحم العالمي ضده، فتحولت إيران إلى دولة محاصرة دوليا ومنبوذة إقليميا، ولابد أن ينتهي به الأمر مدحورا، كما حصل لكل من سعى إلى التمدد خارج بلده.
إيران دولة كبيرة، لكنها غير متجانسة قوميا أو دينيا، فهناك قوميات خمس كبيرة، هي الفرس، والأذربيجانيون الترك، والعرب، والكرد، والبلوش، بالإضافة إلى قوميات وطوائف صغيرة أخرى. حاول حكام إيران عبر التأريخ أن يوحدوا بلدهم عبر تبني الثقافة الفارسية كثقافة وطنية، وقد تمكنوا فعلا من استيعاب الأذريين، لكن القوميات الثلاث الأخرى، حافظت تقريبا على تميزها الثقافي والقومي والديني، وهناك حركات في كل منها، تطالب بالتحرر من الهيمنة الفارسية، أو على الأقل تطالب بمنحها حقوقها القومية والثقافية.
النظام الثيوقراطي الحالي، لم يقتنع بحكم دولة إيران المترامية الأطراف، بل واصل سعيه لإقامة إمبراطورية أوسع، بغطاء مذهبي ديني، كي يوظف الدين والمذهب لصالح هذا التمدد الذي يتوهم بأنه قابل للتحقيق. للأسف نجح جزئيا في العراق واليمن ولبنان وسورية، لكن هذا (النجاح) سرعان ما ارتد عليه، لأنه أثار شعوب هذه البلدان، وأشعر باقي شعوب المنطقة بالخطر، ونبّه دول العالم إلى هذا التوجه الخطير الذي تخلت عنه الدول الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية.
في العصر الحديث، لا يمكن أي دولة، حتى الدول العظمى، أن تتمدد خارج حدودها، إلا عبر التفاهم والتعاون وتبادل المنافع مع الدول الأخرى، فقد انتهى عصر التوسع وإنشاء الامبراطوريات عبر الضم والاحتلال، ومن يسعى إلى التمدد السياسي خارج حدود بلده، لن يكسب سوى الخسائر والنكبات والتراجع. كما انتهى أيضا عصر التبشير الديني والانتشار الأيديولوجي، فالعالم بلغ درجة من الوعي، نتيجة تطور التعليم ووسائط النقل ووسائل الإعلام والاتصال، لا يمكنه أن يتقبل هذه الأساليب البالية الفاشلة. السبيل الوحيد للتأثير وتوسيع النفوذ في هذا العصر هو عبر التعاون الاقتصادي والتقدم العلمي. فمن لا يستطيع أن يساهم في هذين المجالين، يمكنه أن يستفيد من إنجازات الآخرين، دون أن يعلن عن حضوره عبر إرباك نجاحات غيره.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here