كيف اصبح الفساد هو جزء من مشروع الحكومة الاسطورية

د.كرار حيدر الموسوي

الفساد هو الوحش الذي طالما تربص بأحلام الشعوب، وهو ظاهرة تتغنى الحكومات في دول العالم باختلاف قوتها الاقتصادية وجودة العدالة فيها بمحاربتها، أما الأنظمة الاستبدادية والشمولية فقد تمكنت من تحويل الفساد من سلوك غير سوي ومنبوذ إلى ظاهرة اجتماعية مألوفة يتقبلها العام والخاص وتتوارثها الأجيال، بحجة الانتماء إلى عالم ثالث يعتبر أرضا خصبة لجميع الظواهر السلبية، وفي أبجديات الحكم كل سلوك مدروس له قواعد وظروف مثالية يظهر ويتنامى فيها، والفساد سلوك ينتجه الغياب التام للرقابة الذاتية والمتمثلة في الضمير والمبادئ والرقابة العامة والمتمثلة في القوانين والضوابط التي تسهر على تطبيقها الدولة، وهنا يظهر جليا أن سلطات فاسدة لا يمكن أن تضمن وجودها إلا في مستنقع مجتمعات فاسدة.

 

إن الفساد صناعة وله علاقة حميمية مع التخلف، تشبه علاقة كليوبترا بيليوس قيصر علاقة لجوء وحماية وعشق أزلي، وتساهم التنشئة الاجتماعية بشكل مباشر في ترسيخ القابلية للفساد في شخصية الإنسان، فالأسرة أو المؤسسات التعليمية قد تكون لبنة أساسية في تصدير إنسان فاسد إلى المجتمع، سلوك بسيط ربما في نظر العامة، عدم احترام الطابور، المحاباة، استعمال المحسوبية، الرشوة، هي الخطوط الأولى لرسم دولة الفساد والفاسدين، وتستعمل الأنظمة السياسية في الدول المتخلفة شعوبها في نشر الفساد في أدق تفاصيل الحياة، بهدف أن يتحول إلى أخلاق شعب، لا أخلاق مسؤول أو هيئة أو سلطة، وهو ما يرفع عن عاتقها المسؤولية الأخلاقية والقانونية لمحاربته.

 

لا يمكن أن ننكر أبدا من ناحية علمية أو منطقية دور السلوكيات المكتسبة في بناء شخصية الإنسان، فالإنسان هو خلطة ومزيج بين الفطرة والاكتساب

 

المجتمع بمؤسساته المختلفة هو مدرسة تكونية لإنتاج الأفراد، وكلما كانت هذه المدرسة نزيهة وأخلاقية، كلما أنتجت أفرادا يتصفون بالأخلاق والمبادئ الرائجة داخلها، ودرجة التقبل للسلوك تتعلق أساسا بدرجة انتشار هذا السلوك داخل الجماعة، ولعل نظرية الامتثال الاجتماعي تعد تلخيصا مثاليا لهذه الظاهرة، فالإنسان يرضخ في الغالب لعادات وأخلاق العامة، وقد يناقض مبادئه من أجل مسايرة عرف الجماعة.

 

الفساد تسلسل هرمي، يتدرج من الغفير إلى الوزير، كل منهم يمارس الفساد على مستوى المنصب والمحيط الذي يوجد فيه، وبدرجات متفاوتة، وفي العديد من الدول المتخلفة لم تكن هناك رغبة حقيقة وإرادة دولة في محاربة الفساد، واقتصرت مكافحته على القوانين والهيئات الشكلية، والتي استنزفت المال العام لعقود، ولم تثمر نتائجا ملموسة، لهذا اتسعت دائرته وتغلل أكثر فأكثر في مفاصل المؤسسات والمعاملات، وذهنيات الناس، وأصبح القضاء على الفساد في عقيدة الشعوب تحديا صعبا وحلما قوميا بعيد المنال على المدى القصير على الأقل، لكن ما يجهله أو يتجاهله الكثيرين أن الفساد مؤامرة ممنهجة، وهم جزء لا يتجزأ منها، وأن محاربته لا تحتاج لمعجزة كونية بل تحتاج فقط إلى تفعيل دور الضمير بداخلهم واحترام القوانين والاعتراف بوجود كيان دولة، وسيرورة هذه المبادئ ستضمن بالضرورة سيرورة لنبذ الفساد والفاسدين.

 

لا يمكن أن ننكر أبدا من ناحية علمية أو منطقية دور السلوكيات المكتسبة في بناء شخصية الإنسان، فالإنسان هو خلطة ومزيج بين الفطرة والاكتساب، قد يطغى أحد العناصر على الآخر، لكن يبقى دور السلوك المكتسب واضحا في سمات شخصية الإنسان ومعالمها، وحتى لو سلمنا جدلا بأن الإنسان يولد فاسدا أو نزيها بالفطرة، فلقوة القانون دور محوري في كبح جماح الفساد والأخلاق السيئة، فطفلك بذرة تزرعها في تربة اسمها مجتمع، فقد تكون بذرة طيبة في أرض بور، وقد تكون بذرة فاسدة في أرض صالحة، ونبتة الإنسان التي ستخرج من هذه البذرة هي نتيجة حتمية لتعايشها وقدرتها على التأقلم مع طبيعة الأرض التي زرعت فيها.

حتى تكون فعلا من الفاسدين المتفوقين الناجحين، عليك أولا أن تقنع نفسك وتبرمج عقلك على أن أفضل علاج للكساد هو الفساد، وأن نجاح جماعة في الفساد أفضل بكثير من فشل شعب في الإصلاح، وأن الفساد لا يدمّر الاقتصاد ولا يضرّ بمصالح العباد، ولا يطيح بمكانة الدولة ولا باستقرار البلاد، فإذا كنت من دول الربيع البديع، فأنت أمام فرصة تاريخية لتكون في مقدمة الفاسدين، أولا لأن الفوضى تساعدك، والانفلات يحميك، والانقسام المجتمعي يعطيك مساحة مهمة للحركة، وثانيا لأن النظام السابق مضى إلى غير رجعة، والنظام الجديد مازال لم يثبّت قواعده بعد، لأن المتنافسين على الحكم كثر، والمتصارعين على النفوذ شيع وأحزاب، وأصحاب المصالح المتناقضة يحتاجون إلى المال ولو كان متأتيا من الفاسدين أمثالك.

ولا تنسى أن الفاسد الموهوب والناجح والمتميز هو من يُفيد ويستفيد، ومن لا يحتكر الفائدة لنفسه، وإنما يوزعها على المحيطين به، طالما أنه يحتاج إلى حزام أمني، وإلى رعاية حزبية، وإلى تأثير في الساحة القضائية، إلى جانب قدرة على اقتحام المسالك الحكومية لوضع اليد على الصفقات التجارية بأساليب توحي بالنزاهة والشفافية، وحتى إلى علاقات خارجية، ومنافذ دبلوماسية، باعتبار أن الفساد ظاهرة عالمية، ولا يقف عند الحدود المحلية.

حفلة الفساد العراقية مستمرة. ليس مقدرا لها أن تتوقف الآن، فالقضية لم تعد تتعلق بمجموعة فاسدين أو زعماء قوى سياسية استباحوا أموال الدولة في لحظة فوضى وارتباك وغياب للرقابة وتقديرات وسياقات أميركية خاطئة رافقت مرحلة الاحتلال وأعقبتها، وساهمت في خلق مافيا تكافلية تجمع الثالوث الأكثر خطورة (السياسة، والاقتصاد، والدين)، بل إن مشروع الفساد بات من حيث المنطلقات مشروع الدولة العراقية الحالية.

 

أخيرا، كانت ضجة كبرى قد ثارت في بغداد حول اعتقال أحد مديري صالات “الروليت” التي انتشرت بقرار رسمي من وزارة الداخلية العراقية قبل نحو عام. جرى الحديث عن أن المعتقل يدير مافيا للمخدرات ويستعين بمجموعات مسلحة تدعي الارتباط بالحشد الشعبي وكبار الضباط والمسؤولين لحمايته.

 

قبل ذلك راقب العراقيون عددا من أبرز تجار المخدرات (المفترضين) يهربون من أحد سجون بغداد في عملية كاريكاتورية لا ترقى لاستعراضات الهروب لـ”إل تشابو” في بيئة الفساد التي كان ينمو فيها.

 

لا يمكن البحث عن حلول لشبكات فاسدة تحكم السياسة وقراراتها

 

​​في إطار الصورة نفسه، يصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي قرارا بسحب فصيل للحشد الشعبي في الموصل، ويستخدم قراره غير المطبق بإخضاع فصائل الحشد إلى سلطة الدولة، الذي مر على نهاية مهلته أسبوعان، ليتمرد هذا الفصيل على الدولة بشكل سافر ومهين فيجيبه عبد المهدي بترضية تسمح له بالبقاء في مواقعه رغم الاتهامات العريضة التي سيقت ضده واستدعت قرار سحبه!

 

هذه ليست أحداثا متفرقة كما تبدو؛ فرئيس الحكومة يقرر تعيين عشرات من المفتشين العموميين من خلفيات سياسية رغم وجود قرار من البرلمان بحل دائرة المفتشين بأسرها. والسيد مقتدى الصدر يرسل إلى كتلته السياسية، المشاركة بفعالية بكل صفقات تشكيل الحكومة الحالية بالطريقة الغامضة التي شكلت من خلالها، رسائل مشفرة حول قرب اتخاذه مواقف صادمة ضد “الفاسدين”. والمرجع السيستاني ينشر في خطبة الجمعة سلسلة من المظالم الشعبية يقف “الفساد” في مقدمتها. وقبل كل ذلك تتسرب رائحة الطبخة غير المكتملة لتوزيع مناصب مؤسسات الدولة الإدارية حسب الأحزاب والولاءات.

 

وأي فساد يمكن أن نتحدث عنه، أكثر إيلاما من صعود أفراد وجماعات فوق سلطة الدولة؟ ومن تغانم أحزاب سياسية لمؤسساتها وعقودها وصفقاتها؟ ومن مشاركة الجميع في طمس معالمها والسطوة على السلاح وعلى إدارة المال العام وعلى حقها الحصري في العقاب لصالح مجموعات مسلحة وعشائر وأفراد طامحين؟

 

وأي فساد يمكن أن يكون من المجدي البحث عن محاربته في ظل تغول مافيات التجهيل الشعبي، التي تستعرض التزامها الديني على الفقراء والشباب المنتهكة حقوقهم والمسلوبة إرادتهم، وهي تمتص كل يوم ما أتيح لها من موارد موازنة عرجاء معتمدة بشكل مخجل على إيرادات النفط؟

 

عندما نقول إن الفساد هو جزء من مشروع الدولة العراقية، فلأن 25 عاما في إسهام الدولة، في ظل الحصار الاقتصادي قبل 2003، والتكالب الحزبي بعد هذا التاريخ، بإفساد ثقافة المجتمع وسلوكه ومعاييره الأخلاقية، أنتجت واقعا مشوها يهتف فيه الجميع ضد الفساد ويتقدم صفوف الهاتفين الفاسدون أنفسهم!

 

لا يمكن البحث عن حلول لشبكات فاسدة تحكم السياسة وقراراتها وتحكم القانون وتطبقه وتفصله على مقاساتها، ولا يمكن الحلم بتجاوز هذه الأزمة المركبة بانتظار اكتفاء هذه الشبكة المرعبة من المال والأراضي والعقارات وتهريب النفط وبيع المواقف للأجنبي، والتواطؤ الجماعي على تزوير إرادة الناخب.

 

 

​​وربما يكون الحل بعيدا جدا عن المثالية، يقترب من تجارب دول أميركا اللاتينية وبعض دول الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي السابق، التي أقرت بالفساد واستحالة القضاء عليه، فقررت العمل على إدارته.

 

صادمة هي الوقائع، تماما كصدمة المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق الذي وجد أمامه طابورا من المتورطين مجرد لفظ أسماءهم يمكن أن يعني إسقاط المجلس والحكومة ومن فيها في ساعتين!

 

ولأنها وقائع صادمة، فالشعارات العريضة وحفلات الندب المستمرة، وصراخ الفقراء في الشاشات وتجهيل الناس بحقيقة وضعهم، قد لا تكون سوى واحدة من بدع شركة “كامبريدج أناليتيكا” التي أدارت الانتخابات وعمليات التأثير في المزاج العام لصالح زبائنها في 70 بلدا، وكان الزبائن العراقيون المجهولون من بينهم، وربما في مقدمتهم!

لن نكذب ان قولنا ان مصادر النفوذ الرئيسة في كل مجتمع، هي المال والسلطة ومن ارادهما فعليه ان يكون فاسدا، وهما أشكال معممة للتفاعلات والاتصالات تكون بحاجة إلى إضفاء طابع مؤسسي محدد، اذ لا يمكن للمال أن يلعب دور أداة اتصال مشتركة إلا بموجب حقوق ملكية محددة بوضوح وقواعد مكتوبة حول ما يمكن شراؤه ولا ما يمكن شراؤه مقابل المال.

 

ويتميز المجتمع الحديث مع توفر النظام النقدي المتطور بحقيقة أنه من المستحيل شراء كل شيء مقابل المال، وازاء ذلك يتردد زعما ان من الاشياء التي لا تشترى هي كل من المناصب السياسية، أصوات النواب، آراء الخبراء، الإعفاء من قضاء الأحكام ومن الخدمة العسكرية!! وله الحمد ففي عالمنا العربي شمس الفساد لا تغيب! وفسادنا هو شكل من أشكال التأثير الذي يمكن استخدامه عند تقاطع النظم الفرعية المختلفة مما يدل بوضوح على القوة والمال، فيرتبط استخدام القوة السياسية بالحاجة إلى شراء الأصوات أو استخدام الأموال لاتخاذ القرارات السياسية بما يحقق المصالح الخاصة لجماعات معينة، وبهذا يصبح من المستحيل الثقة في النظم السياسية العربية.

 

الفساد لماذا لا يمثل مشكلة أخلاقية واقتصادية وسياسية فحسب، انما مشكلة لنظرة المجتمع وروحه أيضًا وبتعبير أدق يمثل الفساد مشكلة لنظرية المجتمع الحديث، وفي هذا الصدد فإن السؤال الملح يكون.. ما الذي يمكن أن نفهمه حول أفكارنا عن المجتمع الحديث عندما نلاحظ انتشار الفساد فيه وتعاظم المناقشات البالية والعامة حول الفساد؟

 

هنا يجب النظر إلى الفساد كممارسة للتأثير الاجتماعي، والفساد كموضوع للتواصل في المجتمع وفي علاقتهما مع بعضهما البعض، وبدون وجود عنصر اتصال رمزي، لا يمكننا تفسير السبب الذي يؤديه الفساد في إحدى الحالات إلى غضب الرأي العام، وفي الحالة الثانية إلى اللامبالاة والانفصال عن السياسة، في الحالة الثالثة إنه يعطي قوة دفع لتغييرات سياسية شاملة.

 

وهنا سأقدم فهماً مبسّطًا لفساد المجتمع الحديث، وأن الفساد في أشكاله الكلاسيكية والحديثة لا يمكن فهمه والتحقيق فيه إلا بالاقتران مع الهياكل الحديثة للمجتمع واتصالاته حول الفساد بمعنى التواصل حول نوع من المشاكل مما يجعلها موضوعًا للمراقبة بغض النظر عن مدى ما يبدو تافهاً، وإن النتائج التحليلية لهذا البيان ليست تافهة لذلك يجب علينا أولاً أن نسأل لماذا، بسبب الحداثة أو على الرغم من الحداثة، لا ينحسر الفساد في الماضي، ولكنه على العكس من ذلك فلا يزال موجودًا وبقوة.

 

تتناقض الأمثلة المرصودة للفساد في المجتمع الحديث، فالعلاقات الاجتماعية التي عاشت منذ فترة طويلة وبقيت في الماضي قد دخلت وانسابت بطريقها مرة أخرى إلى بطون المجتمع الحديث، في حين تتناقض هي نفسها وآليات عملها مع جوهر هذا المجتمع، وفي سياق تمثيل الذات تصف المجتمعات الحديثة نفسها بأنها تلك التي تتميز بالقيم العالمية والنشاط والفردية وعقلانية أعضائها التي ينمي الفرد فيها ومنها معتقدات في القدرة على اختيار أدواره الاجتماعية الخاصة في شرعية ووظائف المؤسسات العامة.

 

والتي من المتوقع أن يسترشد بها الفاعلون في أعمالهم بالتوازن بين المسؤوليات الاجتماعية والبحث عن المزايا الفردية، ولذلك تفضل المجتمعات الحديثة أن تصف نفسها بأنها متباينة وظيفيا ومستقطبة سياسيا عبر الادعاء بأنها تتمثل المنافسة الحرة والعادلة، وعمليات صنع القرار الديمقراطي، والمساواة القانونية، وحرية التعبير، والفرص المتساوية والقيم، والعدالة من خلال نظام المناعة في المجتمع، والذي تدعي انه يحميها من محاولات تركيز السلطة ومن والتسلسلات الهرمية غير الخاضعة للرقابة ومن تلبية المصالح الخاصة، غير ان الادعاءات شيء والوقائع شيئا اخر لان الفساد كظاهرة هيكلية هو عكس الحداثة.

 

فبدلاً من المعايير العالمية لجودة العمل والخدمات، يتم استخدام روابط وولاء معينين، وبدلاً من الإدماج الاجتماعي القائم على المنافسة العادلة والاتفاقيات الضمنية والمحسوبية وبدلاً من الإيمان العالمي بالعدالة وتأثير القواعد العامة، تأتي علاقات الثقة والتآمر للمجموعات الصغيرة، التي تنشئ قوانينها الخاصة ولا تقلق بشأن الامتثال للمعايير القانونية الملزمة للجميع.

 

لا بد من التشكيك في الفرضية الواضحة التي مفادها أن الفساد هو ظاهرة خاصة مميزة لتطور المجتمعات وتحويلها من وجهة نظر البحث التجريبي والتاريخي، فتعتبر الهدايا والامتنانات في العلاقات الشخصية بمثابة انتهاكات اقتصادية وسياسية مميزة لبعض الثقافات، اذ يتجاهل عبرها وجود حدود مؤسسية وثقافية قابلية البيع وقابلية الشراء للمناصب والقرارات، تلك الروابط التي تنشأ عن المصالح الاقتصادية قصيرة الأجل للشركات والمؤسسات لتكون للرغبة في إثراء النخب المحلية. وهنا لا أريد أن أشكك في أن الفساد مستند على الثقة وقوة العلاقات والولاء وتبادل الهدايا المعينة، وكذلك إمكانية تبادل المشاركين فيه بالضغط على بعضهم البعض، والمصحوب بالمزيد من الصمت وتبادل الهدايا أو الخدمات.

 

ولربما هذا هو المتسبب في طرح سؤالي: لماذا تبدو هذه الروابط منطقية في المجتمع الحديث وتؤتي ثمارها لمن يشاركون فيها، على الرغم من الظروف المتغيرة أو بسببها؟ تعيدنا إجابة هذا السؤال إلى فهم المجتمع الحديث باعتباره متمايزًا وظيفيًا، والذي يعتبر من استقلاليته استقلالية القرارات الاقتصادية أو السياسية أو القانونية أو المهنية عن الأصل الاجتماعي والانتماء الاجتماعي والاحتياجات المهنية للأشخاص الذين يقبلونها، بالإضافة إلى استبدال الطبقات بالتمييز الوظيفي، وعبر ذلك نلمس إن الضعف المزعوم للفساد يتناقض مع الواقع حيث يكون الفساد مستقرًا للغاية والمشاركون فيه كثيرون للغاية!.

 

وعبر وجهة نظرنا هذه نجد ان الفساد يكون إما نتيجة لتخلف الحداثة أو انه أداة للحد من عدم اليقين وملتصق بمخاطر الجهات الفاعلة، وهذا يحرر النظريين والنظريات من الحاجة إلى دراسة المجتمع الحديث بشكل أكثر تفاضلاً ويمكن للمرء أن يعلن دائما أن العالم الجديد لم يخلق بعد بديلا لما يعطيه ويعنيه ويتسبب به الفساد، مما قد يدفع المرء للتساؤل ما إذا كان النهج النظري يعكس النموذج الحقيقي للمجتمع الحديث؟ للإجابة على ذلك فمن الضروري.

 

أولاً أن نقول إن الفساد كظاهرة مستقرة وفعالة وليس سمة من سمات ما يسمى بالمجتمعات النامية أو الانتقالية، فيشير عدد كبير أو أكثر من حالات الفساد البارزة في مجتمع حديث وعواقبها الاجتماعية إلى أنه في هذه الحالة لا يستحق تقسيم المجتمع، وهي إشارات إلى الخصائص الثقافية والعقليات المختلفة، وعلى الرغم من أنها تستند إلى الملاحظات التجريبية لكنها ليس لديها سوى القليل من الإمكانات التوضيحية لأنها تستند إلى حجج متكررة وتكثر في جوانب غير مستكشفة، وهذا يرجع إلى حقيقة أنه عند الإشارة إلى مفاهيم مثل “الثقافة” أو “العقلية” أو “طبقة المجتمع“.

 

عادة لا يكون من الممكن تحديد ما يتم استبعاده من هذه المفاهيم بوضوح عند شرح الفساد، اذ لا يوجد تفسير مقنع لسبب ظهوره في ثقافات وتقاليد ومجتمعات مختلفة المستويات، كما لا يستحق إنكار أن حساسية المجتمعات لحالات الفساد أو تبريرها بمثل هذه الحالات ترتبط باستخدام مدونة ثقافية خاصة بكل مجتمع. لذا فأن الفساد كظاهرة مهمة للمجتمع هو سمة من سمات المجتمعات أو المجتمعات غير المطورة في الانتقال إلى الحداثة، وهو ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا في إطار الثقافات والعقليات المختلفة.

 

كما ويمكننا أن نفترض أن “الشخصية الفاسدة” هي صورة نمطية، تجعل شعبيتها ممكن الحفاظ على الهيكل الحالي والطمأنينة النفسية وفقًا لمبدأ حتى الهيكل المثالي لا يمكنه كبح الطاقة الإجرامية، بما في ذلك اكتشافها وتحديد هويتها، وإن الملاحظ حولها انها تلقي بظلال من الشك على إمكانية وفعالية المنع والسيطرة، وفي الواقع ليست هناك حاجة لإجراء تحليل نفسي عميق، فيكفي أن نتأمل بشكل معقول بما فيه الكفاية للتوصل إلى استنتاج مفاده أن الاستخدام غير المبدئي لقدرات النظام، وعدم التناسق والتعتيم، والوصول المتميز إلى المناصب والسلطات، واجتذاب الروابط الخاصة، هي دائمًا وفي كل مكان الدافع وراء الفساد للبحث عن فوائد غير قانونية يمكن أن تستمد من منصبه.

لذا لا شك في أن الفساد يأتي أولاً بمزايا خاصة للأفراد، وثانياً يتوافق مع نموذج تبادل متبادل المنفعة مع اختلاف أن هذه الصفقة تتم على حساب أطراف ثالثة والجهات الفاعلة إما تنطلق من حقيقة أن الأطراف الثالثة لا تعرف عن معاملاتها أو تتخذ خطوات فعالة لإخفاء المعاملة، وكلما نجحوا بشكل أفضل كان بإمكانهم استخدام عدم تناسق أنظمة المعلومات لإخفاء الصفقة، أو كان بإمكانهم استخدام العتامة الحالية لزيادة عدم التناسق، وفي ظل هكذا ظروف يكون التلاعب ممكنًا.

 

ومع ذلك فلا يزال هناك جدال حول ما إذا كانت الدولة القوية مهيأة للفساد، لأنها قوية، أو ربما يكمن ضعفها بالتحديد في حقيقة أنها غير قادرة على توليد الإيمان بشرعية مؤسساتها وفعاليتها وبالتالي تصبح فريسة للاقتصاد والعسكرية والنخب الاجتماعية، وعادة ما يكون للاستراتيجيات الاقتصادية لشرح الفساد فهم محدود للغاية لمنطق السلطة، وفي إضفاء الطابع المؤسسي على اللوائح والخطابات الحديثة المتعلقة بتلك القضايا.

 

لا يحارب الفساد فاسد   هذه جملة منطقية «حتى نخاعها»، فكما يقال أيضاً «فاقد الشيء لا يعطيه»، أو كما يقول المثل «التهكمي» الدارج والدال على خيانة الأمانة «حاميها حراميها

 

وعليه نقول إن عمليات محاربة الفساد، لا بد لها من «محاربين نظاف»، أي أشخاص لا تشوبهم شائبة ولو صغيرة جداً تدل على ارتكابهم تجاوزاً أو مفسدة، أو يكونوا قد شاركوا في ممارسات فاسدة، أو حتى كانوا «صامتين» و«قابلين» بما يرونه أمامهم من فساد وتجاوزات، مع امتلاكهم القدرة على الحديث أو إحداث تغيير.

 

إن أردت إصلاح أي منظومة، لا بد من أن تنتهي علاقتها بأية تجاوزات وفساد، ما يعني لا بد من إبعاد من تسببوا بهذا الفساد ومن شاركوا فيه، ومن استفادوا منه، وهنا لا تنخدع بمن يحاول أن يلعب دور «البطولة»، على أساس أنه من سيحارب الفساد، وأنه سيصلح ما تم إفساده، لو كان هذا الشخص ضالعاً في حالة فساد واحدة، أو كانت له يد في حصولها.

 

طبعاً الفساد أنواع، منه نوع يمكن وصفه بالتجاوزات الناتجة عن أخطاء «غير مقصودة»، وأسبابها سوء تقديرات بشرية، أو سوء تصريف للأمور، أو سوء تعامل، لكن النوع الأخطر هو الفساد «المقصود»، أي أنه تحقق «بفعل فاعل» ومع «سبق الإصرار والترصد»، فهنا العملية كلها «مبرمجة» ومن ينفذها يعرف تماماً أنه يقوم بارتكاب «فعل خاطئ»، وأن عليه التحايل على عمليات المراقبة والرصد والتدقيق، وأن يجهز لنفسه سيناريوهات لـ«المناورة» لو تم ضبطه أو تمت مساءلته.

 

«إن خير من استأجرت القوي الأمين»، هذا نص قرآني أنزله رب العالمين، وفيه يتحدث عن قصة سيدنا موسى مع نبي الله شعيب، والدلالة فيه أنك حينما تريد إنجاز شيء، أو القيام بعمل على أتم وجه، فإن الخيار الأمثل أمامك هو منح المسؤولية لشخص «قوي» في الحق، و«أمين» على الأمانة التي أوكلت إليه.

 

بالتالي لا يمكن إطلاق وصف «القوي الأمين» على أي شخص، وقطعاً لا يمكن إطلاقه على من يرتكب التجاوزات ويقبل بأن يخوض في الفساد، حتى لو صغرت مساحته، أو كان له تأثير طفيف، لأننا في النهاية نتحدث وفق معادلة لها معياران فقط «الصواب والخطأ»، ولا توجد إجابة هنا مفادها أن هذا «خطأ صغير» أو «خطأ يغتفر»، لأن الأصل في المسألة هو «الخطأ»، وهو نقيض الصواب.

 

من لا يمكنه القيام بفعل الصواب، من وصل لمرحلة وثقت عليه تقارير الرقابة، وتناقل عنه المجتمع «انغماسه» في التجاوزات والقبول بها، وبات يوصف بأنه «فاسد» لأنه لا يقيم العدالة الإدارية، ولا يحرص على «صون المال العام»، هذا من «الجنون» و«تضييع الوقت» و«المقامرة بمقدرات الوطن» أن يمنح فرصاً متوالية بـ«أمل» أن يصحو ضميره وأن يبدأ محاربة الفساد؟! إذ كيف لفاسد أن يحارب نفسه؟! كيف لـ«متمصلح» أن «يضرب نفسه» بيد من حديد؟!

 

لا يحارب الفساد إلا «النظيف»، والفاسد مكانه الوحيد أمام القانون، وبعيداً جداً عن أية أوساط يتمكن فيها من «لهف» المزيد من المال، أو «الاستبداد» أكثر على الصعيد الإداري.

 

إن استمر الفساد في مكان ما، فقط انظروا لمن أوكلتم له مسؤولية محاربة الفساد، دققوا في ممارساته وأفعاله، وستكتشفون أن «المعادلة» لا تخيب أبداً. فالسارق لا يمكنه القبض على نفسه، والمفسد لن يعترف أبداً بفساده، بل سيبرر له بالكذب واللف والدوران، ظاناً أنه سيفلت كل مرة!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here