ماذا جاء به السياسين والمعارضين العراقيين وما الذي جناه العراق منهم وقد احرقوا الاخضر واليابس ؟؟؟

جسار صالح المفتي

إن إختلاف الطبيعة البشرية في التفكير كان وما زال متغيرا مهما في حدوث الازمات والصراعات ولاسيما على المستوى السياسي وموضوعة (السلطة) وعند تصنيف النظم السياسية سنجد ان لكل نظام سياسي مجموعة من القيم والتقاليد السياسية فالنظام الشمولي يتميز بعدم حضور المعارضة وثقافة المعارضة في الحياة السياسية لهيمنة ايديولوجية الحزب الواحد الذي يحاول فرض قيمه عبر التنشئة السياسية والاجتماعية بدءا من مرحلة الطفولة حتى المستوى الدراسي الجامعي وفي المؤسسات الاخرى لغرض السيطرة على دوافع الانسان من اجل ضمان استقرار هذا النظام ودوامه بوساطة تنمية وتطوير هذه الاتجاهات التي تنسجم واتجاهات النظام السياسي.

تتميز النظم السياسية الديمقراطية عن الشمولية بحضور ووجود المعارضة السياسية من خلال وجود الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والرأي العام وجماعات الضغط والمصالح فالديمقراطية السياسية تفترض نموذجا معيناً من الثقافة السياسية وهي ثقافة المساهمة يكون فيها المواطن على مستوى عال من الوعي بالامور السياسية ويقوم بدور فعال فيها ومن ثم يؤثر في النظام السياسي بطرق مختلفة كالمساهمة في الانتخابات او المظاهرات او تقديم الاحتجاجات فضلا عن ممارسة نشاط سياسي من خلال عضوية في حزب سياسي او جماعة ضغط، ولاجل تبيان وتحليل المعارضة وثقافتها وممارستها في النظام السياسي الديمقراطي كواحدة من القيم السياسية

ما هي المعارضة وكيف تنشأ؟— ترتبط المعارضة بنشوء حالة من الاستفزاز والقلق الاجتماعي والسياسي الذي ينطوي على شعور الإنسان بالتذمر في درجاته الدنيا وفي التمرد في درجاته العليا بسبب حدوث التناقض بين السلطة والشعب مما يولد حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يلقي آثاره الى مختلف نواحي الحياة الاخرى. ان هذا القلق يؤدي الى اتخاذ موقف مناهض تجاه قرارات السلطة الامر الذي يفضي الى تأسيس تجمعات تتفق فيما بينها على مجموعة من المبادئ او تعمل على طرح مشروع اصلاحي لترميم بعض الهدم السياسي والاجتماعي ويكون ذلك في صورة غير منظمة في بادئ الأمر ويتطور الى عمل منظم بشكل صورة أحزاب سياسية او مؤسسات مجتمع مدني فالتجمعات السياسية التي تتميز بدرجة عالية من التنظيم تعمل على الوصول الى السلطة اما مؤسسات المجتمع المدني فتعمل بدور ( الناقد ) و( الضاغط ) على الحكومة ولا تسعى للوصول الى السلطة ان تلك التجمعات تدفع للقيام بشكل جماعي وبصورة تلقائية لمواجهة هذا التناقض وفي الحقيقة ان الوصول الى هذا التنظيم الجماعي المنظم مرده تمتع تلك الجهات بنوع من (الوعي الذاتي) الذي يميزها عن باقي حالات القيم السائدة في المجتمع، ويشير عالم الاجتماع الأمريكي (هربرت) الى اهمية وجود القلق وعده المدخل الأول لتحطيم الحالات ونماذج السلوك الاجتماعي والسياسي السائدة مما مهد الطريق لظهور فعل جماعي جديد يتبلور في صورة أشكال من الحركات السياسية والاجتماعية لكونها وليدة للتغييرات التي يمر بها المجتمع وتتراكم عبر مدة من الزمن اذن فالمعارضة هي سلوك جماعي معين إزاء ظاهرة ما تتقاطع مع رأي هذه الجماعة أو تلك .

دور المعارضة في العملية السياسية الديمقراطية— ان العملية السياسية الديمقراطية ما دامت تؤمن وتقر وتعترف بالاختلاف فهي تطرح موضوعة ( التعددية السياسية ) لأنها شرط اساسي من شروط تطبيق الممارسة الديمقراطية حيث تعمل في ظل المنافسة السياسية المشروعة دستوريا فطبيعة الدستور تحدد نوع المعارضة لأن العوامل الدستورية تنعكس على حالات المعارضة السياسية وتلعب دورا مهما في توجيه الموارد السياسية، ان المنافسة السياسية تمر من خلال عملية الانتخابات وبخلاف ذلك تكون الممارسة مجرد سلوكيات هي اقرب الى الشكلية منها الى الديمقراطية وهذا ما شهدته تجربة النظام السياسي السابق حيث غيب دور المعارضة تماما . ان الحزب او الكتلة السياسية التي تحصل على اصوات الاغلبية التي تؤهلها الى تشكيل الوزارة التي تسعى الى تحويل برامجها السياسية الى قوانين لخدمة المجتمع وقبالة ذلك يقف الحزب الذي لم يحصل على اصوات تؤهله للوصول الى السلطة موقف المعارضة داخل ( المجلس النيابي ) فمن حقها ان تنتقد وتعترض وتراقب عمل الوزارة وتستجوب رئيس الوزراء والوزراء في اي شأن من شؤون المجتمع والدولة وفق آليات دستورية وقانونية وتقديم المقترحات والبدائل لتصحيح الخطأ والخلل هذا من جهة ومن جهة اخرى فان المعارضة تحترم وتعترف بسلطة الحكومة المنتخبة كما تحترم الاغلبية الاقلية السياسية وتتعاون مع الحكومة لاجل الصالح العام فهي لا تقوم بالمعارضة لاجل المعارضة بل ان المعارضة تشكل جزءا متمما للنظام السياسي فالمعارضة قد تكون غدا في الحكومة وبالعكس، ان دور المعارضة طبيعي يرتبط بطبيعة الانسان بالاختلاف فمن غير الممكن ان يتشابه الناس في افكارهم جميعا او نحصل على ارادة اجماع في قضية ما لان الاجماع هو (فشل) في الحقيقة ولنا في تجارب انظمة التصويت بالاجماع التي تبنتها المنظمات الدولية والهيئات الدولية والرئاسية دليل على فشلها ومثال ذلك لا للحصر (عصبة الامم المتحدة) ولمعالجة ذلك ولتأمين الحصول على الموافقة على قرار ما استوجب تشريع نظام للتصويت مثل ( الثلثين، او النصف + 1) او ثلاثة ارباع المصوتين الموجودين) لاجل حل الاختلافات بشفافية وبعقلانية لتلافي تعطيل اي قرار يخدم المجتمع لذلك يفترض بالاحزاب السياسية ان تعترف بأن المواقف والاراء السياسية هي في الحقيقة (غير ثابتة) دائما فهي قابلة للتغيير وان الموافقة والوصول الى رأي في قضية ما لا يتمان في كثير من الاحيان الا من خلال ( التعارض ) في الافكار ووجهات النظر الذي يجري من خلال النقاش الحر والعام سلميا ا.

ثقافة المعارضة — تستند قاعدة المعارضة على ركيزة رئيسة هي الاختلاف فما دام الاختلاف واردا وحاضرا فمعنى ذلك وجود (معارضة) غير انه ليس من الممكن ان أختلف مع الاخر على الدوام ولا اتفق معه كذلك على الدوام بل أختلف وأتفق والنتيجة الوصول الى منتصف الطريق متقابلين معا بدلا من أن يذهب كل واحد منا باتجاه معاكس لذلك فان المعارضة ينبغي توافرها في اي عملية سياسية ديمقراطية لان الديمقراطية هي عملية (تسويات) بمعنى ان الاحزاب والحركات السياسية مهما كانت متبنياتها الفكرية وايا كان عمق الاختلاف بينها فمن الضروري ان تتعايش في فضاء سلمي عبر الانتخابات والحوار الهادئ وتداول السلطة والنقد وان تتقاسم معا قيم الحرية في التعبير والمعتقد والحماية المتساوية امام القانون فالاحزاب التي لم تصل للسلطة من الطبيعي ان تنتقل الى دور المعارضة تقوم بدور المراقب والراصد والمتابع لاي خلل يصيب اداء عمل الحكومة لتصحيح مسارها ـ كما اسلفنا ـ فهي تقوم بدور العون ما دامت جميع القوى السياسية تعمل لمشروع الصالح العام ومن ثم فان المعارضة تعمل للوصول للسلطة بالوسائل نفسها والاليات السلمية لانها تعلم جيدا ان الحكومة لا تكبح عملها ولا تكم افواهها بل تعمل الحكومة على حماية المعارضة في التنظيم والتعبير والنقد وعند وصول المعارضة للسلطة يتم تسليم السلطة سلميا لها من قبل الحكومة السابقة بقناعة وبهدوء ومن دون اثارة ما يعكر جو النظام السياسي وتتحول الحكومة السابقة الى معارضة.. وهكذا.. ان الممارسة السياسية والحكومية توفر افضل الادوات للعمل السياسي والحكومي فخير تدريب للمعارضة الفعالة ان تمارس الحكم وان تكون لها امكانات معقولة للعودة الى ممارسته على ان بقاء حزب واحد او ائتلاف في الحكم فترات طويلة غير منقطعة ضار للطرفين ذلك بأن الحكومة عندما لا يوجه اليها النقد القويم قد تصبح راضية عن نفسها او حتى فاسدة اما المعارضة دون امل معقول في الحكم فانها تميل الى التفكك والتفسخ او الى ان تصبح غير واقعية فيزداد عجزها عن توفير النقد المؤثر وكثيرا ما اقترح المعلقون البريطانيون في سنة 1964 اي بعد بقاء حكومة (المحافظين) في الحكم ثلاث عشرة سنة ان المحافظين في حاجة الى فترة معارضة وان حزب (العمال) في حاجة الى فترة حكم كي يستعيدوا الحيوية والتماسك.

ان الشرط الاساسي للمعارضة الفعالة ان يكون لها من التماسك ما يكفي لاسقاط (اي حكومة) سلميا والحلول محلها وهو شرط لا تستطيع جميع الانظمة الديمقراطية ان تضمنه فالقانون الاساسي في (المانيا) يجعل من هذا الشرط مطلبا دستوريا بأن تضطر الحكومة للاستقالة اذا ما منحت الثقة من البرلمان ولكن من غير الممكن خلق معارضة فعالة اذا كانت تضم احزابا في اليمين المتطرف او اليسار المتطرف فهي لا تعارض الحكومة فقط بل النظام ايضا فماذا تستطيع المعارضة ان تفعل اذا لم تستطع تهزم (الحكومة) الا بمساعدة عناصر لا تستطيع ان تتحد معها لتأليف حكومة وهذا في الحقيقة مؤشر خطير لتهديد الديمقراطية ولمواجهة تلك المشكلة لا يمكن ان ينتظر من اي نظام ديمقراطي ان يخطئ بمساعدة الذين يريدون تحطيمه او توفير الفرص للعنف غير ان قمع بعض الحركات الثورية الصغيرة (يمينية ام يسارية) ما دامت لا تلجأ الى العنف قد يسيء الى الديمقراطية فالواجب عموما ان لا يفرض على حرية العمل سوى الحد الادنى من القيود وذلك لمنع خطر كبير على طريقة الحياة الديمقراطية والاعتراف بحقوق جميع انواع الحركات في التعبير عن ارائها على ان تحترم الالتزامات التي يفرضها القانون وحيث ان العراق المعاصر وهو يدخل في العملية السياسية الديمقراطية يفترض على الاحزاب والحركات السياسية ان تعي جيدا ماهية المعارضة ودور المعارضة لا لاجل المعارضة بحد ذاتها بل لتنشيط دورة الحياة السياسية للوصول الى عمل حكومي وسياسي يخدم الانسان اولا واخيرا فالواقع السياسي العراقي يشير الى ضعف في فهم ودور المعارضة فاغلب الاحزاب السياسية تركض نحو الجلوس على مقاعد الوزارة وهذا مهم جدا ولكن من يقوم بدور المعارضة؟ نحن نحتاج الى معارضة فاعلة وسلمية وواقعية لا سيما ان العراق يبدأ عهدا جديدا في التحول الديمقراطي فاذا كان الجميع يبحث عن الوزارة فمن يسائل ويراقب من؟؟ و ان وجود المعارضة ضرورة كقيمة سياسية ديمقراطية لاجل تقويم واداء عمل الحكومة فيما اذا اخفقت لان القائمين على الحكومة هم من البشر يتعرضون للاخطاء والهفوات ومن هنا يبرز دور واهمية المعارضة في المراقبة والمساءلة ومن ثم التقويم العام فالمعارضة اخيرا هي ليست لاجل الصراع من اجل البقاء بل هي تنافس لخدمة الصالح العام

يوجد في الإنسان طاقتان، الأولى: حيوية، والثانية: فكرية، والطاقة الحيوية تنفعل بفعل المؤثرات الفكرية والخارجية والداخلية، فيتحرك هذا الانفعال متطلباً الإشباع الذي يتم عن طريق الأشياء والأفعال، وهنا يأتي دور الطاقة الفكرية التي تتحكم بالإشباع ونوعه وصفته، فيتم الإشباع وفق المفاهيم التي يتبناها الإنسان، بقطع النظر عن كون هذه المفاهيم راقية أم منحطة، ولما كانت المفاهيم التي تعتنقها القوى الفكرية والسياسية متناقضة ومختلفة، لذلك تكون مواقفها تجاه الأحداث والأشياء والأفكار متناقضة ومختلفة.

والإنسان تتفاوت فيه القوى الحيوية والفكرية، وهذا التفاوت بين البشر يؤدي إلى التفاوت بينهم في فهم الوقائع الفكرية والسياسية ونحوها، والى التفاوت في النظرة إليها، والموقف الذي يجب أن يتخذ نحوها. وعليه فتناقض المفاهيم، وكونها تتضمن بعض المتناقضات في بعض الفروع، وتفاوت القدرات الحيوية والفكرية، يحتم الاختلاف بين البشر ومنها القوى السياسية والفكرية.

فالمعارضة في الواقع: اختلاف بين المفاهيم نتج بسبب تناقضها أو بسبب تناقض فهمها، ويتفرع عنه اختلاف في المواقف بين البشر.

والمعارضة السياسية: هي خلاف بين المفاهيم السياسية يتفرع عنه خلاف في المواقف السياسية بين القوى السياسية.

والمعارضة الدولية: هي اختلاف في المفاهيم بين الدول الكبرى يتفرع عنه معارضة لمواقف الدولة الأولى، سواء جرى هذا الاختلاف داخل هيئة الأمم أم خارجها عن طريق المؤتمرات والقمم والأحلاف الدولية التي تتم بين الدول الكبرى، ولا يشترط أن يجري الاختلاف داخل مجلس الأمن، لأن هذا المجلس هو جسر تعبر من خلاله الدول الكبرى لتمرير سياساتها وإضفاء الشرعية عليها، وهو أحد الجسور، ولا يمثل الجسر الوحيد. فالمعارضة الدولية إبّان الوفاق بين أمريكا وروسيا في عام 1961 كانت منحصرة بهما، ولم يكن لفرنسا وبريطانيا أي دور في المعارضة الدولية، مع أنهما عضوان في مجلس الأمن، العضوية في المجلس لكل من بريطانيا وفرنسا والصين لم تجعل لهذه الدول أي تأثير في المعارضة الدولية.

إن القوى السياسية التي تريد المحافظة على كيانها السياسي من خطر المعارضة السياسية على إطلاقها، والمؤدية إلى شرذمة وتفكك هذا الكيان، وخلق الصراعات الداخلية فيه، والتلهي بها لتنحرف عن خط السير المؤدي إلى تحقيق غاياتها على المستويين المحلي والعالمي، تعمد هذه القوى لمعالجة هذه الأخطار، عن طريق تحديد المفاهيم السياسية التي تحفظ الوحدة، وتقضي على الاختلاف، وتحمي الكيان من الانهيار والفشل، وبالتالي تستمر في خوض غمار الصراع الفكري والسياسي مع القوى السياسية الخارجية المعادية مفاهيمها من أجل القضاء على هذه القوى عن طريق القضاء على مفاهيمها، وبعد تحديد المفاهيم تأتي الخطوة الثانية وهي تبني هذه المفاهيم لتكون الرابط الذي يربط كيانها السياسي ويفرض الانسجام فيه، ليشكل هذا الكيان قوة سياسية مؤثرة مثيرة، ثم الخطوة الثالثة وهي ترسيخ هذه المفاهيم بالتلقي الفكري عمقاً واستنارة، ليكون التبني قوة ذاتية لها، وعاملاً من عوامل خلق الإبداع في كيانها.

والمعارضـة السـياسـية من زاوية فكرية تقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: معارضة مبدئية: وهي الاختلاف السياسي والفكري على أسس مبدئية، كالاختلاف بين الإسلام والكفر، فمفاهيم الإسلام لا يمكن أن تلتقي مع مفاهيم الكفر، فالديمقراطية والعلمانية والحرية المطلقة والرأسمالية والاشتراكية، ونحو ذلك من مفاهيم الكفر لا يمكن أن تتفق مع مفاهيم الإسلام، والصراع بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم الكفر هو صراع دائم إلى أن يرث اللـه الأرض ومن عليها. والمعارضة المبدئية تحتم تبني سياسة المواجهة بشكل دائم ضد مفاهيم الكفر التي تصوغ المصالح ومنها الأهداف للقوى السياسية الكافرة سواء على المستوى المحلي أم الإقليمي أم الدولي.

الثاني: معارضة استراتيجية: وهي الاختلاف السياسي على أسس استراتيجية. ولما كان بناء الاستراتيجيات يستند إلى قواعد صلبة وأسس مبدئية، وهي خادمة لمصالح وأهداف المبدأ، لذلك قد يكون الاختلاف الاستراتيجي في بعض الأحيان راجعاً إلى اختلاف مبدئي، وفي هذه الحالة، أي: كون المفاهيم الاستراتيجية تتعارض مع المبدأ، يجب محاربتها وتبني سياسة المواجهة ضدها، ولكن ذلك لا يمنع من العمل على احتواء هذه الأفكار أو المفاهيم، والعمل على تغيير جوهرها لكي لا تتعارض مع المبدأ، بل مسخّرة لخدمة المبدأ ومصالحه، ففكرة هيئة الأمم هي فكرة تتعلق بالاستراتيجيات الدولية ولا تتعلق بالمبدأ الرأسمالي، ولكنها في الوقت نفسه تستند إلى القانون الدولي الكافر، لذلك يجب محاربة هيئة الأمم بجوهرها الحالي، ولكن السير في سياسة المواجهة ضد هيئة الأمم لا يمنع من احتواء هذه الفكرة الاستراتيجية، عن طريق تغيير جوهرها وأبعادها ووسائلها والأساس الذي تستند إليه. وكذلك الحال بالنسبة لفكرة حقوق الإنسان، والرأي والرأي الأخر، والمعارضة، ونحو ذلك من الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن تبنى على أسس لا تمس المبدأ، وعلى قواعد صلبة لخدمة المبدأ. وهذه الأفكار ونحوها يجب محاربتها ما دام الغرب يستخدمها وفق الأسس الرأسمالية، وما دامت القوى السياسية تطبقها عملياً وفق المفاهيم الغربية، سواء قبل قيام الخلافة أم بعدها. وعملية الاحتواء لهذه الأفكار من ناحية عملية تتم بعد قيام الخلافة لا قبلها، لأن إمكانية الاحتواء بالفعل تفتقر إلى وجود الخلافة. وإن لم تتعارض الأفكار الاستراتيجية مع المبدأ، ولكن يمكن أن تسخر لصالح الأعداء، فهذه الأفكار يمكن تبني سياسة المواجهة ضدها أو التمييع أو التجميد أو الاحتواء حسب مصلحة الدعوة والجهاد، وحسب طبيعة الظروف السياسية المحيطة بهذه الأفكار، وحسب إمكانات النجاح في انتقاء السياسة المناسبة أو في انتقاء عدة سياسات تطبق بمراحل زمنية مختلفة، فمثلاً فكرة تشكيل النادي الذي يضم الدولة الدائنة من العالم الغربي ومن المؤسسات الدولية، فهذه الفكرة إذا عرضت على دولة الخلافة، يمكن تبني سياسة التجميد نحوها بحجة فهم طبيعة الديون على العالم الإسلامي قبل قيام الخلافة، ثم يجري الطلب من الدائنين أن لا يعملوا ضد الخلافة، وأن يزيلوا استعمارهم.

والدول المؤثرة لا تقتصر على معالجة الأفكار الاستراتيجية التي تطرح من قبل الأعداء، بل تبادر في طرح الأفكار الاستراتيجية الدولية والإقليمية التي تهدد مصالح وأهداف الدول الكافرة وعلى رأسها الدولة الأولى – أمريكا، وتبادر إلى ذلك في التوقيت والظروف المناسبة.

الثالث: معارضة عرضية: وهي الاختلاف السياسي على أمور إدارية أو مبدئية فرعية لا تمس أصول المبدأ، والاختلاف الإداري، قد يتعارض مع المبدأ فيعامل مثل المعارضة المبدئية، وقد لا يتعارض معه فيعامل مثل المعارضة الاستراتيجية. والغرب الحاقد على الإسلام وأهله منذ أن انفرد في إصدار الأبحاث السياسية صـار يسير في سياسـة التضليل السياسـي، وينظر إلى المفاهيم السياسية غير المبدئية نظرة تستند إلى مفاهيمه المبدئية وتخدم مصالحه وأهدافه المحلية والإقليمية والدولية.

فالمعارضة السياسية من وجهة نظره: رأي الأقلية السياسية المخالف لرأي الأكثرية، ويتجسد رأي الأقلية عادة في القوى السياسية المعارضة، ورأي الأكثرية يتجسد في الحزب الحاكم وأتباعه وأعوانه.

فالغرب قد اعتبر رأي السلطة هو الرأي الشرعي النافذ، وهو رأي أغلبية الشعب، أما الرأي الآخر فهو رأي الأقلية التي تقر بشرعية هذه السلطة، وتتفق معها في المبدأ الرأسمالي من ناحية الأسس، وتختلف معها في بعض الأمور الفرعية. وتستغل الأحزاب المعارضة هذا الاختلاف، وقد تتصنعه بهدف الوصول إلى السلطة، كما تمتص نقمة الفئة الغاضبة على السلطة، حين تتصدى لها في الأمور الفرعية، فهي كالسلطة تماماً من حيث الإيمان بالنظام المطبق وبالدستور والميثاق والمبدأ، فالاختلاف بينهما عرضي وليس مبدئياً، والفئة الرأسمالية هي التي تمكّن الحزب الفلاني من الوصول إلى السلطة، فيكون هذا الحزب هو الحزب الحاكم، وتُبقي على الأحزاب الأخرى خارج السلطة لخدمتها ودعمها بوصفها أحزاب المعارضة.

وقد استغل الغرب مفهومه للمعارضة في بلاد المسلمين أفظع استغلال، فهو قد مكن عملاءه من الوصول إلى السلطة، وحرص على إبقائهم فيها، وإضفاء الشرعية على وجودهم في السلطة، فشجع هؤلاء العملاء على تشكيل أحزاب معارضة والعمل على احتواء الأحزاب المناوئة للسلطة، وذلك عن طريق أفكار الحوار والمعارضة والتعددية والرأي والرأي الآخر، على أن تمارس العمل السياسي بالصورة التي تخدم عملاء الغرب، فلا تعمل على هدم الدستور أو الميثاق أو النظام المطبق أو تكشف مؤامرات وخيانات السلطة، بل تتلهى في الأمور الفرعية، وتبرز رأيها من خلال مؤسسات السلطة، فتكون ضمن سيطرة السلطة السياسية، وبهذا تنجح السلطة في امتصاص نقمة الجماهير عليها عن طريق ما يسمى بالأحزاب المعارضة، وتكسب أيضاً الشرعية والدعم والمساندة، فتكون هذه الأحزاب من ركائز السلطة التي يجب كشفها وتعريتها أمام الأمة الإسلامية، حتى ولو لبست ثوب الإسلام وكان جوهرها خبيثاً يتآمر مع الكفار وأعوانه ضد الإسلام وأهله.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكافر وأعوانه من الحكام والسياسيين، يصفون الحركات الإسلامية التي تسير حسب المفهوم الغربي للمعارضة، وتخالف أحكام الإسلام، بالحركات المعارضة، أما الحركات الإسلامية التي تسير وفق مفاهيم الإسلام وتحاسب الحكام وتكشف تآمرهم وعمالتهم وخياناتهم وولاءهم وكفر معظمهم، فإنهم يصفونهم بالحركات المتطرفة والأصولية والإرهابية، لأنها لا تريد التفاهم والحوار والتعايش مع الأنظمة الكافرة، وتؤمن بأن الإيمان والكفر لا يلتقيان، لأن المسألة مسألة جنة أو نار، وتعمل لقلع الحياة الغربية من الجذور، وتستهدف هدم الدساتير والأنظمة الكافرة لتحل محلها الحياة الإسلامية عن طريق سيادة حكم اللـه وكتابه وسنة نبيه في الأرض، ويحاول عملاء الغرب والحكام من زعماء الحركات الإسلامية التذرع بذريعة تبنيهم للمعنى الواقعي للمعارضة، وأنهم يستغلون الأوضاع الديمقراطية لخدمة الإسلام وأهله.

والجواب عن هذه الذريعة الرخيصة، هو أن استغلال الأوضاع الديمقراطية يجب أن لا يتعارض مع مبدأ الإسلام، كما أن السير حسب المعنى الواقعي للمعارضة يتطلب أمرين:

أحدهما: عدم السير وفق المفهوم الغربي للمعارضة، فلا تدخل الحركات الإسلامية في أي حوار أو تفاهم مع السلطة أو مع الدول الكافرة، ولا تقبل بنظام الدولة أو دستورها أو ميثاقها، وتعلن على رؤوس الأشهاد أن الأنظمة في العالم ومنه العالم الإسلامي أنظمة كفر، وحكم طاغوت. وكذلك حال دساتيرها وقوانينها ومواثيقها، ولا تتلهى بالأمور الفرعية، بل تتصدى للحكام، وتكشف خطط الكافر ضد دين اللـه وأمة الإسلام، وتحاربها محاربة فكرية وسياسية بصورة قوية ومؤثرة، فلا تفكر أو تعمل على احتواء أو تمييع خطط الكفر، بل تحصر نفسها بسياسة المواجهة فقط، وتحاسب الحكام محاسبة وفق مفاهيم الإسلام، فلا تكتفي بإبراز رأيها بل تضغط على الحكام عن طريق الأمة والقوى المؤثرة في الجيوش، وتحطم الركائز والوسائل التي تسند السلطة، حتى تثنيهم عما يقومون به من مؤامرات وخيانات، ثم تجتث عروشهم من القواعد والجدران والسقف، فلا تقبل أن تضع نفسها في زاوية الفئة الأقلية، ولا تقبل الترقيع على أفكار الكفر أو حتى على أحكام الإسلام، بل تطلب وتعمل على تطبيق أحكام الإسلام فقط بغض النظر عن الأقلية أو الأكثرية، فيجب عليها أن لا تسير حسب المفهوم الغربي للمعارضة.

ثانيهما: فهم حقيقة القوى السياسية المعارضة من ناحية عملية، وكيفية سيرها بالمعارضة حسب مفاهيم الإسلام.

فالقوى السياسية المعارضة من ناحية عملية على ثلاثة أنواع: حقيقية، مخادعة، خاطئة.

المعارضة الحقيقية: هي الموقف السياسي العملي الذي يتجسد في القوى السياسية إزاء المفاهيم التي تناقض مفاهيمها السياسية، فتعارضها وفق ما تتطلبه هذه المفاهيم.

المعارضة الخادعة: هي عدم التلبس بالموقف السياسي العملي من قبل القوى السياسية تجاه المفاهيم السياسية التي تناقض مفاهيمها في الأسس والقواعد.

المعـارضـة الخاطئة: هي عدم التلبس بالموقف السياسي العملي من قبل القوى السياسية تجاه المفاهيم السياسية التي تختلف عن مفاهيمها في الأمور الفرعية أو الاستراتيجية أو الإدارية.

ولنأخـذ أمثلة توضح كيـفـيـة سـيـر الـقـوى السياسية المعارضة من ناحية عملية حسب مفاهيم الإسلام:

1- إن موقف الإسلام من أفكار الكفر واضح في كتاب اللـه وسنة رسوله، فهجوم الإسلام على الكفر واضح وصريح بلا ذبذبة ولا تلون ولا تمييع ولا احتواء، بل مواجهة قوية مؤثرة مثيرة. وعليه فيجب أن يكون موقف الحركات الإسلامية من أفكار الكفر وفق مبدأ الإسلام فيجب عليها أن تحارب الديمقراطية والرأسمالية والحرية وفصل الدين عن الحياة أو عن السياسة، والقومية والوطنية وما شابه ذلك من أفكار الكفر محاربة لا هوادة فيها، وتستمر على ذلك حتى يتمكن الإسلام من سيادة الكرة الأرضية ومن اجتثاث هذه الأفكار من عقول ونفوس البشرية، فإذا قامت بعض الحركات بالعمل على تبنّي أفكار الكفر وإضفاء الصفة الإسلامية عليها، كالديمقراطية في الإسلام أو الحرية (الغربية) في الإسلام أو تحارب السياسة والعمل السياسي، فهذه الحركات لا تعارض الكفر معارضة حقيقية بل هي تعمل على تمييع الإسلام، وإدخال الظلم والظلمات على العدل والنور، وتعمل على ديمومة سيادة الكفر على الكرة الأرضية، فهي كمن يؤيد الالتقاء بين الإيمان والكفر ويمزج بينهما، وبين المؤمنين والكفار ويعتبرهم أخوة، وأن الناس مؤمنين وكفاراً يجتمعون معاً في الجنة والنار في آن واحد يوم القيامة. وعليه فيجب على المخلصين من أبناء هذه الحركات إيقاف هؤلاء العملاء الخونة الضالين المضلين عند حدهم، والإعلان على رؤوس الأشهاد أنهم يخونون أمانة الإسلام.

2- إن موقف الإسلام من حكام المسلمين العملاء الخونة ومن دساتيرهم وقوانينهم ومواثيقهم الكافرة واضح جلي، فالهجوم عليهم وعلى أنظمة الكفر التي يطبقونها، وكشف مؤامراتهم وخياناتهم وعمالتهم أمر محتم، وواجب مصيري، فلا يجوز الارتماء في أحضانهم ومدحهم أو قبول التفاهم معهم ومع أنظمتهم ودستورهم عن طريق السير بفكرة الحوار أو التعايش حسب المفهوم الغربي، أو قبول أن تكون الحركات الإسلامية هي التي تحمل الرأي الآخر، والسلطة تحمل الرأي النافذ، أو قبول فكرة التعددية السياسية على أساس الدستور الكافر وكذلك المعارضة، بل يجب محاربة هذه الأفكار، وكشف مضمونها وإبعادها، التي تتلخص بسيطرة الكفر على بلاد المسلمين وديمومة هذه السيطرة، وإضفاء الشرعية على هؤلاء الطواغيت، وعلى أنظمتهم ودساتيرهم الشيطانية. وعليه فمن لا يتلبس بالموقف المبدئي الإسلامي عملياً تجاه هذه الأفكار وتجاه هؤلاء الحكام وأنظمتهم، فهو معارض مخادع، وتابع للقيادة الفكرية الغربية وأدواتها، وعليه فيجب كشف هؤلاء المخادعين، وعلى المخلصين من أبناء الحركات الإسلامية كشف هذه الشخصيات العفنة وتعريتها في الوقت الذي ينصبّ الهجوم على الحكام وعلى الأفكار ومَن وراءهم.

3- إن موقف الإسلام من الخلافات الفقهية ومن الأمور الفرعية الإدارية والفكرية السياسية هو موقف واضح، وهو المناقشة بالدليل الأقوى ضمن حدود الأدب والاحترام، والذي لا يتلبس بالموقف الصحيح الذي يمليه الإسلام تجاه هذا الخلاف، فهو معارض مخطئ، وإن كان مدفوعاً من جهات خارجية بهدف تحويل الخلافات الفرعية إلى خلافات أساسية لشطر وحدة القوى الإسلامية وضرب كيانها ولجعلها تتلهى في هذه الأمور لتنشغل عن العمل ضد أعداء الإسلام فهو معارض مخادع ومتآمر على الإسلام وحماته. فمسألة تأجير الأرض للزراعة، مسألة خلافية، البعض يجيزها والبعض الآخر يحرمها، فالتركيز على مناقشة مثل هذه المسألة بصورة زائدة عن الحد، وجعلها أمراً مصيرياً، هو أمر خاطئ إن صدر عن المخلصين، وهو خداع وتآمر إن صدر عن فئة تجعل من هذه الأمور الشغل الشاغل لها، ولا تستهدف أعداء الإسلام بالمعارك السياسية والفكرية. إننا مع الكفر كفرسي رهان، إما أن تكون الغلبة لنا أو له، ومع وجود اليقين عندنا أن الغلبة لنا بنصر من اللـه عزيز مؤزر، ولكن يجب علينا الأخذ بالأسباب امتثالاً لأمر اللـه سبحانه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here