تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 2

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 2 د. رضا العطار

كان هدف نبوخذ نصر في جعل طرق الامبراطورية البابلية كلها – سالكة – ومتصلة بعضها ببعض من اجل الحفاظ على وحدتها من هجمات الجماعات المتمردة التي تحالفت مع الفرعون – نيخو – مستهدفة ضرب بابل. فسارع نبوخذ نصر واشتبك بفلول فيالقه في معارك ضارية انتهت في هزيمتهم، لكن القائد البابلي لحق بهم عبر لبنان وفلسطين حتى تخطى العريش وشارف على دلتا النيل. وهناك ارتعب نيخو وسارع الى اعلان خضوعه وعقد معاهدة ولاء مع نبوخذ نصر، ختمها بأعطائه ابنته نيطوقريس
زوجة لهذا الفتى الناري.

بقيت مصر خاضعة للأمبراطورية البابلية مدة طويلة. فقد كان نبوخذ نصر يعتبر انفتاحه على ( بحر المشرق ) : اي خليج البصرة و ( بحر المغرب ) : اي البحر الابيض المتوسط امرا خطيرا بالنسبة لأقتصاديات ورفاه شعب بابل. فكان تحالفه مع الفنيقيين امرا ضروريا. وقبل ذلك اخضع دويلة اليهود عام 591 ق م التي عاشت قرابة سبعين سنة فقط على ارض فلسطين وخلع ملكهم وسباه الى بابل وعين شابا يدعى صدقيا ملكا في اور شليم تابعا لبابل، يأتمر بأمرها، ويدفع لها الجزية.

غير ان صدقيا اخذ يسيء معاملة السكان العرب الكنعانييين الاصليين هناك وبدأ في تشكيل جيش من اليهود المتزمتين، لكي ينتقص من بابل. وبرغم انهماك نبوخذ نصر في مشاريعه العمرانية، اضطر الى غزو فلسطين ثانية، بعد جولته الاولى بخمسة سنوات. فأستقبل الكنعانيون جيوشه الزاحفة من الشمال بفرح كبير، لأنها جاءت لتحريرهم، هكذا تحطمت دفاعات العدو ودخل نبوخذ نصر اورشليم ثانية.

كانت الحصيلة ان ارجع القائد المظفر جميع املاك العرب الفقراء التي اغتصبها اليهود منهم الى اصحابها الشرعيين، ثم سبئ المتمرد صدقيا وجيشه الى بابل…. كان من عادات القدامى عند انتصارهم في المعارك ان يقتلوا الاسرى ويعلقوا رؤوسهم على اسوار المدن المحتلة. لكن نبوخذ نصر كان مرتفعا في انسانيته: فقد رتب ذلك وعمد الى تهيئة الاماكن التي سوف تستقبل الاسرى ووزعهم في عدة مدن على نهر الفرات ومنحهم حرية الحركة والعمل والدراسة والكتابة – وهناك اكتسب اليهود علوم بابل وتواريخها وآدابها واساطيرها وبدوا في كتابة اسفارهم، وقد تشبعت بالمعارف والمأثورات البابلية، بل ان شعر ( المزامير ) و ( نشيد الانشاد ) عند اليهود انما هو في معظمه اقتباس مباشر عن الاداب البابلية. لكن لوّنه اليهود حسب اهوائهم بعد عودتهم الى فلسطين.

اما في مجال توطيد اركان الامبراطورية، فقد قرر نبوخذ نصر ان يشدد على اواصر قرباه من سكان الجزيرة العربية، فجعل – تيماء – مدينة مهمة ومركزا كبيرا من مراكز الحضارة العربية البابلية ومن تيماء انطلق الملك البابلي الى سواحل الجزيرة العربية وحواضرها حتى اقصى الجنوب، حيث اليمن وحضرموت وعمان.

كما اقام الحاميات على طريق القوافل وفي المواني وانشأ صلات وثيقة مع ملوك العرب وشيوخهم الذين اصبحوا يدينون له بالولاء، وبقي ذكره اسطورة حية حتى في ايام النبي محمد (ص) بعد ذلك بأكثر من الف سنة، وقد نظم معهم امور الادارة والتجارة بحيث جعل تجارة الهند واقطار الشرق الاقصى تاتي الى بابل عن طريق منافذ الجزيرة العربية، اهمها ميناء البصرة.

هكذا عرفت بابل رفاها وثراء لم تعرف مثلهما في تاريخها الطويل. ولا عجب ان بهر الناس بملكهم حتى اخذوا يطلقون على اولادهم اسمه مشفوعا بصفات الألهية : مثل
( نابوكورايسور ايلو ) اي نبوخذ نصر اله — ( او نابوخذ آبي ) اي نبوخذ خالقي.
( نابوخودور اوسور ) اي نبوخذ نصر شمسي. فقد اعتبروه بمثابة الشمس، الذي يضيئ بنوره الشعب جميعه.

وماذا عن الحياة الخاصة لهذا الرجل الفذ، ( الملك الشمس ) ؟
الذي نعلمه على وجه التاكيد انه كان له زوجتان، هما امييت، ابنة ملك الميدين التي تزوجها وهو في الثامنة عشر من عمره، ونيطوقريس ابنة الفرعون نيخوالتي تزوجها وهو في الخامسة والعشرين من عمره. والذي نعرفه عن الاولى هو الاكثر. فقد ذكر المؤرخون اليونانيون قصة عشقه لها وكيف انه من اجلها بنى – الجنائن المعلقة – لكي تشم محبوبته في ذراها العالية نسمات بلاد فارس، وطنها، فضلا عن اشجار وزهيرات جبال ميديا العالية التي عرفتها في طفولتها وصباها.

كانت له من امييت ابنة اسمها بل شلتي وولد اسمه امل مردوك. وكان له من نيطوقرس ابنة تدعى ناييت وقد زوجها من شاب اسمه نابو نائيد الذي رباه وجعله حاكما لبابل. كما زوج بنته الثانية بل شلتي الى نيريغ ليسار وجعله قائدا للجيش. لكن هذا الاخير، وبعد موت نبوخذ نصر بسنتين، اغتصب العرش. لكن بعد اربعة سنوات تمردت عليه الكهنة فأنتحر. وارتقى ابنه العرش لبضعة اشهر ثم قتل. واستولى على عرش بابل اخيرا نابونائيد، وحكم سبعة عشر عاما، كانت تنقصه الحنكة في ادارة البلاد، الى ان دخل كورش الميدي مدينة بابل عام 539 ق م وانتهى بذلك عهد عظيم عن الحضارة والعمران والمجد، بعده تحولت بابل الى اسطورة مذهلة راحت البشرية ترددها جيلا بعد جيل لقرون طويلة.
الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here