اللغة العربية: سحر و بيان

احتفالا بعيدها الأممي التاسع لا يسعني إلا أن أجدد التأكيد على أن اللغة العربية لغة سحر و بيان. و أكشف عن بعض لطائفها و أسرارها، و مكنونات جمالها، و دقائق معانيها، و حسن صياغة مبانيها. من ذلك: الفصل و الوصل، و الإظهار و الإضمار، و الذكر و الحذف، و الإيجاز و الإطناب و التعريض و التصريح… ما يجعل العربية متميزة كنظام لغوي محكم بلغ بها درجة الكمال الذي لن ترقى اليه لغة غيرها.

الأصل في اللغة العربية الوصل، و قد يعذل عنه إلى الفصل؛ حيث تكون عناصر الجملة قوية التركيب، متجانسة الأجزاء، لكن السياق يستوجب الانقطاع أي الفصل دونما خلل أو اضطراب، ما يجعل الفصل / الوصل ثنائية جذابة بامتياز. فلا يتلى: “فويل للمصلين” إلا موصولا بما بعده. أما قول أبي تمام:

” ليـس الحـجاب بمـقص عنك لي أملا õõõ إن السمـاء ترجَّـى حـين تحـتـجـب ”

فترك العطف من أجل الفصل، و لا سر لهذا الفصل إلا قوة الرابطة بين الجملتين.

و في الفصل: الظرف الزماني “أما بعد” لكمال الانقطاع بين ما افتتح به الكلام و ما يتلوه و هذا مشهور. و من جميل الفصل ما يعرف بالإعتراض الذي يجري مجرى التأكيد، و يقع بين المبتدأ و خبره أو الفعل و فاعله، كما هو في قول الشاعر:

” و قـد أدركـتـنـي -و الحـوادث جـمـة- õõõ أسـنـة قـوم لا ضعـافٍ و لا عـزلٍ ”

و هذا اعتراض بين الفعل و فاعله. و في هذا الفصل ما لا يخفى من الحسن.

يعتبر الإظهار أصلا فإذا أضمر أحد الركنين وجب تفسيره: “و إن أحد من المشركين استجارك”. إِنْ لا تدخل إلا على الفعل، و فعل الشرط هنا مضمر يفسره الفعل الظاهر. و التقدير: و إن استجارك أحد. و كذلك الأصل الذكر، و إن عذل عنه وجب تقدير المحذوف، كما في قول الأعشى:

” عـلـقـتـها عـرضا، وعـلـَّـقـت رجلا õõõ غيري وعـلـق أخـرى غـيـرها الـرجـل ”

المحذوف الفاعل، و يحذف إذا كان معلوما للمخاطب: “خُلق الإنسان من عجل”. أو مجهولا و ليس في ذكره فائدة زائدة: “سُرق مالي”. كما قد يحذف :المصدر – المفعول به – الحال و المضاف.

أما الإيجاز و الإطناب، فيوظف كل منهما وفق ضابط معروف: “لا اختصار مخل، ولا اطناب ممل”. و من الإيجاز: “أخرج منها ماءها و مرعاها” تكثيف دلالي لمعنى الجملة في كلمات قليلة: بالماء و المرعى أخرج من الأرض قـوتا و متاعا للناس: عشب – شجر- حطب – نار – ماء… و هو إيجاز قصر، أما إيجاز الحذف فيحذف فيه: الحرف – الكلمة – الجملة أو الجمل، مع قرينة تعين المحذوف. و يكون عندئذ الحذف آية في البلاغة و روعة في الحسن.

و في الإطناب مقامات تفهم من سياق الخطاب: “عُـرَبًا أَتْـرَابًا”، العَروبُ: المتحببة لزوجها المظهرة له ذلك. و هذا لا يكون مع الصمت أو الإيجاز، و حذفِ أطراف الكلام، و إنما يكون بالإسهابِ فكاهة و مداعبة و تغزلا و استفاضة في الحديث و البوح الحارق. و اشتهر عند العرب أنها تختصر في الإعتذار و تطنب في الشكر.

و لأمر ما فُضل التلميح عن التصريح، فـيكنى عما يـُسْـتَـمَـجُ الإفصاح به بــالرمز أو الإشارة:

” أشارت بـطـرف الـعـيـن خـيـفــة أهــلـهـا õõõ إشـارة مـذعــور و لـم تـتـكـلـم

فـأيـقـنـت أن الـطـرف قـد قـال مـرحــــبا õõõ و أهـلا وسـهـلا بالحبيب المتيم ”

و بالاستعارة اللطيفة كما في قول قيس بن الخطيم من قصيدة مطلعها:

” رد الخليطُ الجِمال فانصرفوا õõõ ماذا عليهم لو أنهم وقـفوا ”

قائلا:

” ما أَنس سلمى غداة تنصرفُ õõõ تمشي رويدا تكاد تـنغرفُ ”

فبدل وصفها وصفا فزيولوجيا مكشوفا لاكتنازها و سمنتها، وصف مشيتها بالفتور فكان ذلك أملح و أزيد في جمالها، مراعيا حسن الأدب و ترك التصوير الإيروتيكي.

و كذا قول الشاعر:

” رمتـني بسهم ريشه الكحل لم يضر õõõ ظواهر جـلدي و هو للـقلب جـارح ”

ثم انظر إلى ما حقه التأخير، كـالـمفـعـول به و الخبر و الجار و المجرور، عند تقديمه إما لفتا للانتباه أو تخصيصا لأمر من الأمور و منه قول المجنون:

” تَـزَوَّدْتُ مِـنْ لًـيْـلًـى بِـتَـكْـلِـيـمِ سَاعَـةٍ õõõ فَـمَـا زَادَ إِلَّا ضِـعْـفَ مَـا بِـي كَـلَامُـهَـا ”

و ما أعظم أن يخرج الأمر و النهي و التمني و النداء و الاستفهام عن المعنى الأصلي إلى دلالات استلزامية يدل عليها سياق الخطاب و قرائن الأحوال، كـالـتـوبـيـخ –الـدعـاء – الالـتـمـاس – الـعـتـاب – الإنـكـار و الـتـأكـيـد و الإقـرار! و من ذلك قول جرير:

” ألستم خير من ركب المطايا õõõ و أنـدى العالمين بطون راح؟ ”

إنه كلام غاية في الدقة و روعة في البيان، فلا غـرابة إن عُـدَّ أشهر بيت في المدح، لما فيه من التأكيد و الإقرار للممدوح صفتي : الشجاعة و السخاء.

فـلـيـعـذرنـي أبو ماضي إن قـلـت :

” و الـذي نـفـسـه بغـيـر جَـمـال õõõ لا يـرى في الـعـربـيـة شـيـئا جـمـيـلا”

و كـل عـام و لـغـتـنـا الـجـمـيـلـة بـألـف خـيـر.

لـحـسـن بـنـيـعـيـش

مـكـنـاس/الـمغـرب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here