تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 8 ، الاخيرة

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 8 ، الاخيرة د. رضا العطار

كانت بغداد في عصرها الذهبي ايام الخليفة العباسي هارون الرشيد، قد زخرت بألوان من فنون الادب والشعر في مختلف حقولها ابتداء من شعر البادية وما يحتويه من نظم المديح والعتاب والهجاء والمراثي ثم شعر الحماس عند بدأ المعارك وشعر التفاخر في انتصاراتها واخيرا شعر الأرشاد الرصين : الذي كان يحث على الفضائل، مثلما جاء على لسان شاعر العصر بشار بن برد قوله:

اذا كنت في كل الامور معاتبا * * * صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا او صل اخاك فإنه * * * مفارق ذنب تارة ومجانبه

اذا انت لم تشرب مرارا على القذى * * * ظمأت واي الناس تصفوا مشاربه

او في مكارم الاخلاق لصالح عبد القدوس قوله:

احذر مصاحبة اللئيم فإنه * * * يعدي كما يعدي الصحيح الاجرب

يلقاك يحلف انه بك واثق * * * واذا توارى عنك فهو العقرب

يعطيك من طرف اللسان حلاوة * * * ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

وفي السلوك القويم لأبن الجهم قوله:

وعاقبة الصبر الجميل جميلة * * * وافضل اخلاق الرجال التفضل

وللخير اهل يسعدون بفعله * * * وللناس احوال بهم تتنقل

ولله فينا علم غيب وانه * * * يوفق منا من يشاء ويخذل

اما النوع الأخر من النظم فكان شعر المجون الذي كان يشمل حقل الغزل و الخمريات برز فيه شعراء كثيرون، نورد نماذج من نظمهم :

فمسلم بن وليد يقول:

ان كنت تسقيني غير الراح فأسقيني * * * كأسا الذّ بها من فيك تشفيني

عيناكِ راحي وريحاني حديثكِ لي * * * ولون خدكِ لون الورد يكفيني

وابن بردي يقول:

يا ساقيا خصّني بما تهواه * * * لا تمزج اقداحي رعاك الله

دعها صرفا، فأنني امزجها * * * اذ اشربها بذكر من اهواه

ومطيع بن الياس يقول:

اخلع عذارك في الهوى * * * واشرب معتقة الدنان

لا يلهينك غير ما تهوى * * * فإن العمر فان

و ابو نؤاس يقول:

لا تبك ليلى ولا تطرب الى هند * * * واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا اذا انحدرت في حلق شاربها * * * اجدته حمرتها في العين والخد

فالخمر ياقوته والكأس لؤلؤه * * * في كف جارية ممشوقة القد

تسقيك من يدها خمرا ومن فمها * * * خمرا، فما لك من انسين من بد

في الختام اقول: لو ان خلفاء بني العباس لم ينحرفوا في حكمهم عن ثوابت الاسلام الذي أكد في بدأ دعوته تطبيق سياسة العدل الاجتماعي بين البشر، ولو انهم لم ينزلقوا الى مستنقع المجون، يفرطون في ممارسة المحرمات من خمر ونساء، ولو انهم قد اهتموا بأوضاع الشعب العراقي المغلوب على امره، وعالجوا مشاكله الاقتصادية، ولو انهم لم يبددوا اموال الشعب على طربهم و ملذاتهم، ينثرون اموال الشعب على رؤوس المغنيات و الراقصات و المداحين، ولو انهم ادركوا ضرورة تعليم الشعب الأمّي القراءة والكتابة — لأمتصّوا سخط الشعب، وكسبوا دعمه ورضاه، لما قامت ضدهم الثورات، ولما فقدوا سيادتهم بتحكم الأجنبي في مقدراتهم وما خسروا دولتهم في النهاية.

لقد عاش الخلفاء في ترف مسرف وبذخ كافر يتعذر تصوره. فنحن نكاد ان لا نصدق عندما نقرأ في كتب التاريخ بان قصور الخليفة المقتدر كانت تضم 11000غلام خصي، وان الخليفة المتوكل ينفق في يوم ختان ابنه المعتز 28 مليون درهم –
في الوقت الذي كان معدل نفقات المعيشة في اليوم الواحد لأسرة الفلاح الفقيرة، درهم واحد !!
فتصوروا ضخامة الهوة في الفارق المعاشي بين عراقي و(عراقي) !!!
وكأنما امسك ببيت مال المسلمين رجال سفهاء، لا يعترفون بذمة ولا حقوقا للشعب ولا يقدرون مسؤولية. وعلى هذا النحو المحزن كانت الأموال تهدر بدون حساب في حفلات سمر الخلفاء، وهي حفلات أمدت القصص في كتاب الف ليلة وليلة بكل ما يقع في الخيال من الوان الوهم من بذخ وترف، لا ضفاف له.

وفي الوقت الذي كان المواطن العراقي يكد ويكدح، يسيل عرقه مدرارا، في سبيل كسب قوته اليومي، كان المتوكل وغيره من الخلفاء يعبث في امواله حتى وصل به الأستهتار بمشاعر الانسان ان ياكل غذائه في اواني من ذهب.

كانت قصور الخلفاء ( المسلمين ) في بغداد تعج بالجواري والغلمان، وقد تحولت الى مقاصف كبيرة للشرب والغناء وضروب اخرى من اللهو المباح وغير المباح، مما حدى بأهالي بغداد ان يصفونها بالحانات الليلية.

لقد غاب نجم الفرس في اواخر العصر العباسي ولم يعد لهم شئ من السلطان. فقد تحول السلطان كله الى الاتراك. وكان هؤلاء بدوا رحّل، يجهلون كل ما يبت بعلم او بفن او ادب. لكنهم قبضوا على زمام الحكم، ولعبوا في تعيين الخلفاء او خلعهم او حتى قتلهم كما حدث للمتوكل. وطبيعي ان تتدهور الخلافة وتخبو الحضارة تدريجيا بعد ان فسد الحكم فسادا لا حد له، فلا عجب ان كثرت حركات العصيان في كل مكان، حتى ان بعضها دامت سنوات طويلة كما هي الحال في ثورة الزنج في البصرة.
(*) من نظم ابو نؤاس.

* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here