كيف ينبغي ان نربي ابنائنا ؟ (*) ح 3

كيف ينبغي ان نربي ابنائنا ؟ (*) ح 3 * د. رضا العطار

التربية الصالحة للآطفال تكمن في تعليمهم وتهذيبهم بشكل حسن يجعلهم اهلا في الانخراط في مجتمع المستقبل كأعضاء نافعين . يساهمون في حركة تطويره وازدهاره . فالتربية السليمة بالنسبة لمرحلة الطفولة مسألة حيوية , يجب ان تتم عبر التعاون المتبادل بين الاسرة والمدرسة, فالعائلة كما هو معروف عش دافئ حميم لا يحضن الجسد فحسب انما الروح كذلك . فهي تربي الطفل وترعاه حتى يغدو مؤهلا لدخول المدرسة, فالآطفال يتعلمون من الآبوين يتأثرون بأخلاقهما وسلوكهما, فهم مرتبطون بالآم بصورة اقوى واشد من ارتباطهم بالآب بصورة غريزية . فالآم هي المسؤولة عن القسط الاكبر من اعباء تربية الطفل بشهادة شاعر النيل حافظ ابراهيم :

الآم مدرسة اذا اعددتها * * * اعددت شعبا طيب الآعراق

لو تاملنا قليلا لآدركنا ان الدين الاسلامي قد اكد على هذه العلاقة الروحية بين الأبوين والطفل. خذوا مثلا حقل التربية البيتية, فمن خلاله يتحدد دور كل من الزوج و الزوجة مع بقية اعضاء العائلة مثلما يتحدد دور كل فرد تجاه البعض الاخر , فكبيرهم يعطف على صغيرهم وصغيرهم يحترم كبيرهم وهكذا , وبهذا اصبح النسيج الآجتماعي داخل الاسرة نسيجا صالحا ومفيدا , بينما يبقى دور الدين حاميا وراعيا , وظيفته ضبط الهيكلية الاسرية وتوجيهها على وجه سليم .

ان علاقة الوالدين احدهما بالآخر لها الاهمية القصوى في نسق القيم الاخلاقية , علما ان توافق الوالدين مع بعضهما يحقق للآبناء تربية نفسية هادئة مطمئنة . وبعكس ذلك يقود عدم التوافق بين الزوجين الى حدوث اضطرابات نفسية خطيرة يتعرض اليهما الاطفال ويؤثر سلبا على علاقتهم بأهاليهم ويصيبهم الشعور بالخوف والضياع , بالآضافة الى ذلك فأن تلبية متطلبات الابناء من قبل ذويهم لها تأثيراتها الأيجابية على سعادتهم .

ان افاق التربية البيتية الصالحة تمتد حتى يبلغ الطفل السادسة من العمر , حيث يلتحق فيه بالمدرسة , فالآسر التي غرست في نفوس ابنائها القيم الآخلاقية العالية , لا يجد الاطفال صعوبة في معاشرة اقرانهم داخل محيط المدرسة . وهنا تجني الام التي ربت طفلها طبقا للمعايير الأخلاقية الحميدة اطيب الثمرات واحلاها .
بينما الاسر التي اتبعت في تربية اطفالها انماطا غير مقبولة من التنشئة , كالتبعية المطلقة او الخضوع الكامل او الامتثال التام لرغبات الابوين , حينذاك يغدوا الاطفال محرجين و في مأزق نفسي عندما يجابهون محيط المدرسة.
اما اذا كانت الاساليب المتبعة في التربية قائمة على التعامل بروح المبادرة والثقة المتبادلة والاعتداد بالنفس , فأنها دون شك سوف تعكس على الاطفال سلوكا ايجابيا مقبولا تساعدهم على التكيف مع محيط مجتمعهم دون عناء .

فالمعلوم عن الطفل الذي تأثر بمكنونات اهله وبكل ما يحيط به, يؤثر لاحقا في بناء شخصيته في المستقبل واضعا لنفسه الآطر الحياتية الخاصة به لذلك يمكن القول ان المرء يعيش حاضره انعكاسا لبعض ماضيه ثم يأتي دور المجتمع في صقل تلك السلوكيات سلبا او ايجابا , فالآطفال الذين يتميزون بالآستقلالية نتيجة التنشئة الاسرية الصحيحة بدأ من تشجيع الآباء على اداء واجباتهم المدرسية الى جعلهم يتحسسون دوما بدفئ الحنان الآسري والرعاية الأبوية المستديمة سوف يواجهون الحياة القادمة بشوق وبهجة وتفائل . اما الاطفال الذين يربون باسلوب العنف وغياب العاطفة , سوف يتسمون بروح اللامبالات وعدم التقيد بالسلوك العام واحترام المواعيد ناهيك عن سوء انجازهم الوظيفي , سواء في المدرسة او في المجتمع عندما يكبرون .

وطبقا لنظرية العالم التربوي – جون ديوي – تعد الاسرة من اخطر المؤسسات التربوية واعمقها اثرا في سلوك الابناء حيث يلعب الابوان فيها الدور الاكبر في العملية التربوية . فهما اللذان ينفخان في التربية الأسرية روح المعايير الاخلاقية السامية من قيم الشرف والوفاء والدفاع عن كرامة العائلة والذود عن حياض الوطن .
ان ا لدراسات الحديثة في علم النفس توجه كل الاهتمام الى العلاقة التي تربط بين تربية الاطفال واسلوب معاملة والديهم لهم , فقد تبين ان التعليمات التي يتلقاها الطفل من الكبار تتأثر بنوع المعاملة واسلوبها , فلو كانت ايجابية ارتقى بها الطفل , اما اذا كانت سلبية تسببت له اضطرابات نفسية وانحرافات سلوكية قد لا تتحقق جميع طموحات الابوين المفرطة , ذلك بسبب قصور الاطفال في المقدرة او ضعف في الاداء , ولهذا تأتي النتائج احيانا مخيبة , والاحسن لهم ان يكونوا معتدلين واقعيين . يفهمون واقع الطفل .
واما الافراط في التسامح والتساهل في معاملة الطفل فأنه قد يسبب لديه الشعور بعدم المسؤولية والتعرض الى ارتكاب الاخطاء.

اما الافراط في تطبيق اسلوب العقاب فأنه قد يدفع الطفل بأتجاه المماطلة والمراوغة وغالبا ما يتطور الى التمرد والروح العدوانية . اما اسلوب النبذ والاهمال والجفاء للطفل فانه في الغالب يظهر لديه الشعور بالحقد والجنوح والكراهية لما يزيد لديه الاضطراب النفسي وقد يلجأ الى سرقة اشياء ثمينة تعود للوالدين كتعويض عما يفتقده الطفل من عطف وحنان كما يخلق عنده الشعور الخاطئ ويتصور ان ارادته قد سلبت منه، فينشأ عنده الشعور بالتحدي مما تحجب عنده فسحة الوداعة وروح البهجة و المرح .

واثناء ترعرع الطفل , يتعرض احيانا للآنفعالات التي تصيب الأم وخاصة عندما يبدأ عندها الشعور بالخوف . فالطفل يقلد مخاوف ابويه مثل الخوف من الكلاب والخوف من الحشرات او من الرعد والبرق و من العواصف والرياح العاتية او من الظلام . وعندما تخاف الام من زوجها لسبب ما يتحول هذا الخوف الى الطفل الذي بدوره يخاف اباه , اذ انه يقلد سلوك امه بصورة غريزية وبذلك يغدو الاب موضع نفور داخل اسرته .

ان تقبل الام لطفلها شرط ضروري لتنشئته تنشئة اجتماعية طبيعية . ومصطلح التقبل يتكرر كثيرا في ادبيات علم النفس . يجب ان يخضع للدرس والتحليل . فالآم لا تستطيع ان تقبل طفلها اذا كانت هي لم تتقبل ذاتها وكينونتها . وفاقد الشئ لا يعطيه لذا حرصت الشريعة الاسلامية السمحاء ان تعيد للمراة كينونتها التي سلبت منها في عصور الجاهلية الأولى بسبب التخلف الحضاري المقيت .

اقول : اما الاسر التي يتعاطى فيها احد الابوين اوكلاهما المخدرات , حينذاك تعصف المشاكل الأجتماعية والأقتصادية والنفسية براحة العائلة تهدد سعادتها و تهز تماسكها وتضعضع كيانها يكون الطفل فيها الضحية رقم واحد . فغالبا ما يتعرض الى اضطرابات نفسية نتيجة الممارسات غير المسؤولة للمدمنين الذي يعيش الطفل في احضانهم , هذه الممارسات المتسمة بالطيش والاستبداد والقسوة تؤدي بدورها الى تخلخل التوازن الاجتماعي وتضعف الالتزام الاخلاقي بين الزوجين مما قد يؤدي في النهاية الى الطلاق . ولا يخفى ما للطلاق من تأثيرات تدميرية على نفسية الطفل فهي تحطم طموحاته وتقضي على افراحه يجعله ان يأخذ من الحياة موقفا سلبيا متسما بخيبة امل تهز كيانه المتنامي وتعرضه الى ارتباكات نفسية , وقد تلحقها مضايقات اقتصادية في غياب الأسرة الضائعة، و من نتائجها الخطيرة نشوء روح الانتقام العدواني تجاه مجتمعه عندما يكبر.

في هذا السياق وانا اكتب هذه السطور تذكرت مشهد تلفزيوني قبل سنوات لأحدى القنوات العالمية لعدد من الاطفال بين السادسة والعاشرة عثر عليهم البوليس الامريكي وهم نيام تحت احد جسور المدينة, هجروا اسرهم طوعا, وعندما سُألوا عن السبب اجابوا انهم مهملون من قبل ذويهم , فالأم تقضي ساعات الليل في حانة الطرف و تتخاصم دوما مع ابيهم، والبراد خلو من الطعام .
اقول : لو كان الآباء الآولون قد اولوا بعض اهتمامهم الى تربية اطفالهم , لما ظهراليوم مثل هذه الصور المأساوية لآحفادهم على شاشات التلفزيون – – ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب فن الحب والحياة لسلامة موسى مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here