بشار بن برد، اكثر من شاعر ! (اقتباس) ح

بشار بن برد، اكثر من شاعر ! (اقتباس) ح 2 د. رضا العطار

يعاتب مثقفونا المستقلون على جحودهم بخصوص الشاعر الفذ بشار، هذا المزاجي الحر التفكير. والذي يقع نتيجة لازمة عن التعمق في العقائد. وقياسها في ضوء العقل الفلسفي. وعندما اعتبر سلفيون القدماء علم الكلام مدخلا للزندقة لم يكونوا بعيدين عن الصواب – فالفكر الفلسفي لا بد يقود صاحبه الى التصادم مع المسلمات المتوارثة التي لا تخضع للعقل وانما هي من مسائل الايمان – ونجد مصداق ذلك في قول بشار لصاحبه (ابوخالد) : (لا اعرف الا ما عاينته)، بعد ان الصق به تهمة المجوسية !

يجمع هذا الميل معظم الادباء الذين تأملوا في القضايا العقلية كابن المقفع والجاحظ والمتنبي وابي حيان التوحيدي – وهؤلاء لم يتأثروا بمذهب او فرقة وانما خضعوا لنتائج الثقافة الادبية المعقلنة فلم يصح لهم تمذهب او انتماء – كما ان تفكيرهم لم ينسجم لصالح الايمان او الالحاد – لان تكوينهم الادبي يمنعهم من التفلسف الخالص – وما نجده لديهم من تناقضات لا يرجع الى التقيًة بقدر ما للقلق المصاحب لوجدان الفنان المثقف. وبشار المحسوب على فئة الشعراء المثقفين، لم يكن شاعرا عاديا مثل جرير او كثير – على انه لم يكن متكلما محترفا ليخضع لنتائج المقولات الكلامية ويتمذهب على اساسها.
كذلك لم تبلغ به ثقافته درجة التفلسف التي انتهت بالمعري الى نقد الاديان والمجاهرة بتكذيب الانبياء.
وصفوة ما نحكم عليه به انه شاعر حر اوصلته ثقافته الكلامية وتشعبه بمجادلات المتكلمين في عصره الى الخروج عن المسلمات العقائدية من دون ان يناهز الحد الموجب لوصفه بالالحاد.

وهل يصدق عليه وصف عصابة السوء النواسية ؟ هو ينفرد عنهم بامرين – الاول عفة غزله الذي يجري على سنة القدماء من الجاهليين والثاني ابتعاده عن الحب الغلماني الذي كان قد استشرى في زمانه قبل ان يتلقفه ابو نؤاس بالادلجة والتنظير – – وفي هذه هو مدين لنشأته في قبيلة جاهلية حيث يندر الشذوذ الجنسي في البادية، في معشر القبيلة
فهو مغاير فيه لمجموعة ابي نؤاس التي استخفت المحرمات في سياق مسلكها اللذائذي
بينما استمر بشار على نهجه القلق الميال الى الزندقة حتى نهاية حياته فهو لا يؤمن بجنة ولا نار ولا ببعث وحساب.

وقد انتهت الخلافة الاموية وعمر بشار 36 سنة – وظهرت شهرته مع بداية العباسيين – توافق مع اشتعال نار المعارضة للعباسيين بعد سنوات من استيلائهم على السلطة – وكانت المعارضة دموية اججها انكشاف نوايا العباسيين وتبخر وعودهم الكاذبة بالعدل.
وفي الوقت الذي عُد بشار من المشمولين برعاية الخلفاء العباسيين – فقد كانت مشاعره مع خصومهم من المعارضين. في الوقت الذي كان جماعة ابي نؤاس يقفون الى جانب الخليفة واعوانه وعموم ارباب الدولة وابناء الطبقة المترفهة. كان اسلوب بشار عنيفا ولاذعا في محاربة مظاهر الظلم الاجتماعي الرسمي، فهو على عكس الحياة المتهادنة المتعارضة للعرب المسلمين على امتداد التاريخ تجاه جور الحكام، كان المفروض منهم ان يكونوا في قطيعة مع السلطة السياسية المستبدة وفي تناغم مع اماني (الرعية).

اعتقد اكثر مؤرخو الادب القدماء على ان بشار قُتل على الزندقة- وضمن هذا النمط سلفيو الوقت الحاضر – اما المعاصرون ومنهم المستشرقون فرسمونه شهيدا للالحاد.
لم يكن بشار مادحا ومؤيدا لرجال الحكم بقدر ما كان ناصحا وموجها وهذه علاقة معارضة تتميز عن علاقة السلطة بالتكافؤ بين الشاعر والزعيم – – ( نجد هذا النمط من الشعر السياسي المرشد نظائر في العصر الحديث تكثر بالخصوص عند احمد شوقي في مصر ومهدي الجواهري في العراق.

ان المعارضة المسلحة التي جوبه بها العباسيون بعد ان انكشف للناس وعودهم الكاذبة بالعدل الاجتماعي – – وقد عمت ثورات المعارضة بلاد فارس والعراق والحجاز وكان منها ثورة البصرة بقيادة ابراهيم بن عبد الله الحسني – وهي من اخطر ما واجهه المنصور في خلافته – – وقد حظيت بتأييد وتعاطف واسع في البصرة وعموم العراق وايدتها فرق من الشيعة والمعتزلة وفي حالة نادرة الوقوع عدد من المثقفين الكبار من فقهاء وادباء بينهم ابو حنيفة و سفيان الثوري – وانخرط في جملة انصارها بشار بن برد وكتب قصيدة في تأييد قائد الثورة.

وبعد اندحار ثورة البصرة وانتصار المنصور – خاف بشار من وصول القصيدة الى المنصور على حالها تلك – فاجرى عليها تحويرات تشعر بانها موجهة الى ابي مسلم الخراساني المقتول من قبل المنصور – – وابو مسلم الخراساني هو القائد الفارسي الذي اسقط دولة بني امية وكان سببا في قيام الدولة العباسية التي اصبح الاخير خليفتها.
ويشير ابن عاشور الى بيت شعر لبشار يحث فيه ابراهيم على القتال – فيقول : ان بشار غفل عن حذف هذا البيت الذي يتضمن التحريض على المنصور – – – والحقيقة ان المنصور لم يكن ليغفل ان القصيدة في ابراهيم وهو المعروف بدهائه وحنكته مع جودة معرفته بالشعر، وانما غض النظر عنها بالانسجام مع خطة اتبعها في تقريب المثقفين والحاقهم بدولته – -= وقد امضى بشار خلافة المنصور في سلام وانتقل بعده الى مدح المهدي ولده – لكن نزوعه المعارض في وجدانه حال دون اندماجه نفسيا – –

ومن نوادره الدالة انه كان في مجلس حاجب المهدي ينتظر الاذن بالدخول عليه- وكان معه في الانتظار آخرون. بينهم رجل من دعاة بني العباس – وكانوا يتحدثون لتزجية الوقت فسألهم الداعية العباسي : هل تعرفون معنى قوله تعالى وقرأ آية النحل التي فيها
(يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس – – – فقالوا هو العسل – قال : كلا، بل ان هذا العلم يخرج من بطون بني هاشم – – – ولم يتحملها بشار فرد عليه بلغته المعتادة (جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون بني هاشم، فقد اوسعتنا غثاثة) قالها وهو في قصر الخلافة الهاشمي ينتظر الدخول عليه لبنشده قصيدة في مدحه.

الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب شخصيات غير قلقة في الاسلام لهادي العلوي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here