بشار بن برد اكثر من شاعر (*) ح 3

بشار بن برد اكثر من شاعر (*) ح 3 د. رضا العطار

اصطدم بشار بوزير الخليفة المتنفذ يعقوب بن داود، فهجاه وهجا الخليفة في مقطوعة واحدة – ثم هجا شقيق الوزير الذي كان واليا على البصرة وختم بهجاء الخليفة ببيتين فاحشين انشدهما علنا في مسجد البصرة – – ووصل الهجاء الى الخليفة فأمر بقتله تحت السياط والقي بجثمانه في احد اهوار البصرة ثم حمل الى مدفنه – – وتقول الرواية ان اهالي البصرة فرحوا بقتله لانهم كانوا يخشون من هجائه لهم وربما التحريض عليهم، لذا لم يشيعه احد سوى امه التي كانت تسير خلف نعشه الذي حمله الحمالون وهي تصيح : واسيداه واسيداه.

بشار والفرزدق : لقد كان بين الشاعرين خصال مشتركة كلاهما كانا يمتلكان حساسية شعرية عالية سواء في معالجة الشعر او في ممارسة الحياة العامة، وكلاهما ماجن فاسق سليط اللسان من غير ان يجعله الفسق والفجور ينعزل عن الصراع السياسي والاجتماعي لمجتمعه – – وقد تجلى ذلك عند الفرزدق الذي هجا الولات نفورا من مسلكهم الدموي – وعند بشار هجاء الخليفة وارباب دولته – ويختلفان في ان فرزدق اظهر تحسسا ضد المظالم الاجتماعية، اما بشار فتورط في مناصرة ثورة مسلحة ضد الخليفة. ويختلف الشاعران في المجون : الفرزدق لم يكن عفيف الغزل بخلاف بشار – لكن بشار يزيد عليه في بذاءة شعره الهجائي.

اما الفارق الاكبر بينهما فهو ان فرزدق ظهر مع بدايات علم الكلام والنشاط الثقافي للمسلمين – وبشار عاصر طور النضج واتساع الثقافة – – ومن هنا ياتي وصفنا لبشار كشاعر مثقف وهي صفة يتعذر اسباغها على الفرزدق فهو شاعر جاهلي استمد حس المعارضة من تمرد قبيلته وتأثر هجاءه السياسي بافكار المعارضة الاسلامية، فقد كان الفرزدق مؤمنا. بينما بشار يمثل نموذجا للرجل المثقف الحر، لا يوافق على المسلمات الايمانية. وفي تقديري على اية حال – لو ان الفرزدق ادرك عصر بشار لكان يصدر عن قلقه الفكري – – فبين الشاعرين تقارب عجيب يندر ان يتكرر في نموذج ثالث.

لا بد اخيرا من الالمام بالشعوبية الموصوف بها بشاربن برد وهو كما نعلم فارسي وادعى الانتساب الى ملوك فارس اي الطبقة التي سماها (قريش العجم) تأسيسا على قريش التي تسيدت على العرب في الجاهلية وتسلطت عليهم في الاسلام. وكان في الوقت نفسه قد ولد وتربى في قبيلة بني عقيل العريقة في جاهليتها – فكانت مصدر تأهيله كشاعر وكشخصية اجتماعية ، فنشأ متمردا مكابرا شديد الاعتداد بنفسه.
كان بشار يمثل القيم الجاهلية في الاباء والكرم والشجاعة – فصار شعره معرضا لمفردات الشخصية الجاهلية يباري نظائره في الشعر الجاهلي – الاموي وخضع لتأثير بيئته حتى في غزلياته التي قاومت اندفاعه المجوني فحافظت على عناصر الحب العفيف – وصرح صادقا بان ما يريده من حبيبته (عبدة) لا يتعدى الحديث، انسياقا مع شرط الصداقة عند الجاهليين – – لكن بشار لم ينسى انه فارسي وانه سيق مسبيا من بلاده الى العراق.

لقد كان بشار في شبابه يحرض مجانسيه الموالي (المسلمين من غير العرب) على رفض الولاء العربي والعودة الى الاصل. – – وينعكس ذلك في شعره – قصائد افتخر فيها بحضارة الفرس وامجادهم وندد بماضي العرب في بدائيته وجهله وشظفه في العيش – – هذا هو القدر المشمول بمعنى الشعوبية – كما عرفها القدماء – وهو انسياق طبيعي لشاعر حساس وجد نفسه يعيش في وسط غريب لا يملك فيه غير والديه الغريبين بدورهما وغير اخوانه الفقراء – – – ومع ان قبيلة بني عقيل عدّته شاعرها المنافح عنها – فادمجت بشار في عصبيتهم بحيث ترتب على من يتحرش به ان يواجه القبيلة واحتمالات الثأر.

ان تأصل بشار في العرق الفارسي وقرب عهده به ابقاه على صلة حية بالاصل – – وهذه نزعة مبررة ان لم تكن ضرورية لمن هو في مثل موقعه. ويمكنني القول بهذه المناسبة ان الشعوبية كانت يقظة ضمير لدى اهلها – بل هي رد فعل طبيعي يصدرعن الانسان السوي في اي ظرف مماثل – مما نجد عليه امثلة حية لدى بعض المثقفين المغاربة في رفضهم للفرنكونية.

والابيات التالية نموذج من شعر بشار بن برد في الأرشاد الرصين : الذي كان يحث على الفضائل قوله:

اذا كنت في كل الامور معاتبا * * * صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا او صل اخاك فإنه * * * مفارق ذنب تارة ومجانبه

اذا انت لم تشرب مرارا على القذى * * * ظمأت واي الناس تصفوا مشاربه

* مقتبس من كتاب شخصيات غير قلقة في الاسلام لهادي العلوي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here