ماذا في جعبة علاء اللامي من تشويهات وافتراءات حول فاجعة الفرهود ضد اليهود في العراق؟ الحلقة الثانية

د. كاظم حبيب
ماذا في جعبة علاء اللامي من تشويهات وافتراءات حول فاجعة الفرهود ضد اليهود في العراق؟
الحلقة الثانية
الإيديولوجية القومية اليمينية المتطرفة وانقلابيو مايس 1941 في العراق
في هذه الحلقة الثانية سأطرح رؤيتي وما توصلت إليه في أبحاثي عن انقلابيي مايس 1941 وعن تلك النقاط التي أثارها بسوء نية صارخة ومسيئة علاء اللامي في مقالته المتهافتة التي حاول فيها الإساءة المقصودة لي والانتقاص دون أدلة وبراهين من البحث العلمي في كتابي المنجز عن “يهود العراق والمواطنة المنتزعة” من خلال ذلك المقال، الذي يدعي بشكل مقصود عدم الاطلاع عل ى هذا الكتاب رغم صدوره في عام 2015 ومقاله مكتوب في عام 2020 ومقالي عن انقلابيي عام 1941 منشور في عام 2011. يبدو بوضوح أن علاء اللامي مأزوم فكرياً وسياسياً ويدرك تماماً خطأ الادعاءات والاتهامات التي وجهها لي، لاسيما اتهام التملق للكيان الصهيوني ومؤسساته الإعلامية والسياسية، وسكوتي عن المؤسسات الصهيونية وإسرائيل فيما حصل من تهجير قسري للعائلات اليهودية من العراق إلى إسرائيل أو التغطية على العصابات الكردية التي كانت تساهم في تهجير اليهود سراً مقابل الحصول على أموال، وهو يعني بهم الأحزاب الكردية.
السؤال المهم الذي يستوجب الإجابة عنه هو: من هم انقلابيو أيار/مايس 1941 في العراق، وما الأهداف التي كانوا يسعون إليها؟
بعد مرور 80 عاماً على تلك الأحداث وصدور مئات الكتب التي تبحث في هذا الموضوع وفي فاجعة الفرهود ضد يهود العراق في عام 1941 تأكد بما لا يقبل الشك أن الحزب السياسي الذي كان وراء تنفيذ الانقلاب هو الحزب الذي تأسس عام 1940 باسم “حزب الشعب”i وشكل مؤسسوه لجنة سياسية وعسكرية سرية مكونة من مدنيين وعسكريين. فمن هم المدنيون ومن هم العسكريون؟
المدنيون: المجموعة المدنية الأساسية التي شاركت في الانقلاب تنحدر سياسياً من مجموعتين هما:
المجموعة المرتبطة بنظام الحكم الملكي والمؤيدة له وعملت في كل الحكومات التي تشكلت قبل الانقلاب، ولكنها تمردت عليه في أعقاب فشل انقلاب بكر صدقي عام 1936. وأغلب هؤلاء الانقلابيون شاركوا في تنفيذ سياسة النظام الملكي العسكرية المناهضة لمصالح الشعب العراقي والمؤيدة للسياسة البريطانية في العراق، لاسيما في الموقف من الحركات السياسية في الفرات الأوسط وكردستان، وفي مقدمتهم رشيد عالي الكيلاني، وزير الداخلية حينذاك، وبكر صدقي العسكري. ومن بين الجماعات التي شكلت جزءاً من النخب الحاكمة حينذاك وعملت مع رشيد عالي الكيلاني نشير إلى ناجي السويدي وعلي الشيخ محمود الشيخ علي والدكتور محمد حسن سلمان وسامي شوكت وناجي شوكت وغيرهم. ويمكن لكتاب عبد الرزاق الحسيني تاريخ الوزارات العراقية بغض النظر عن نواقصه يقدم صورة جلية عن هؤلاء السياسيين، أو كتاب نجم الدين السهروردي الموسوم “التاريخ لم يبدأ غداً”- حقائق وأسرار عن ثورتي رشيد عالي الكيلاني 41 و58 في العراق.ii ومن الجدير بالإشارة إلى أن رشيد عالي الكيلاني كان رئيساً لوزراء العرق ثلاث مرات ( الوزارة الأولى 20 أذار/مارس 1933 والوزارة الثانية في 9 أيلول/سبتمبر 1933 والوزارة الثالثة في 31 أذار/مارس 1940)، قبل أن يقود الانقلاب العسكري ويشكل حكومة الدفاع الوطني في الأول من شهر أيار/ مايس 1941.
المدنيون القوميون العرب الذين تبّنوا الفكر القومي اليميني والمتأثر بالفكر القومي النازي وبسياسات ألمانيا الهتلرية. وهنا ترد أسماء كثيرة من العرب العراقيين ومن عرب من دول عربية أخرى. من بين العراقيين نشير إلى: يونس السبعاوي، الذي أول من قام بترجمة ونشر كتابي كفاحي لأدولف هتلر في عام 1933، وناجي شوكت وسامي شوكت ومحمد مهدي كبة، وفائق السامرائي، محمد صديق شنشل وصائب شوكت وخالد الهاشمي ومتى عقراوي ودرويش المقدادي ومحمد علي محمود، وداود السعدي وآخرين. وجدير بالإشارة إلى أن محمد مهدي كبة وفائق السامرائي ومحمد صديق شنشل هو الثلاث الذي شكل في عام 1946 حزب الاستقلال القومي العربي الذي بدا معتدلاً ولكنه حمل ذات الأفكار التي برزت في عام 1935 في نادي المثنى بن حارث الشيباني. ويمكن الإشارة إلى مجموعة كبيرة ممن كانت في حزب الشعب (العربي) السري أو مؤيدة له من العراقيين والعرب منهم قاسم المفتي وغربي الحاج احمد وكاظم الصلح ودرويش المقدادي وقسطنطين زريق وفريد السعد، وعز الدين الشوا، وممدوح السخن ورشاد الشوا وخلوصي خيري وواصف كمال وفريد يعيش وسليم ألنعيمي وصلاح الدين الصباغ ومصطفى الوكيل وغيرهم.iii
كما شكلت لجنة من مجموعة عربية تساند القوميين العراقيين العرب قبل وأثناء الانقلاب، منهم: الحاج محمد أمين المفتي، رشيد عالي الگيلاني وناجي شوكت وناجي السويدي ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة والعقيد إسماعيل حقي من العراق وشكري القوتلي وعادل أرسلان وزكي الخطيب من سورية، ويوسف ياسين وخالد الهود من العربية السعودية”.iv والجدير بالذكر أن الحاج محمد أمين الحسيني، الذي ترك القدس بعد ثورة الشعب الفلسطيني بين 1936-1939 إلى لبنان، ومن ثم إلى العراق عام 1940، كانت له علاقة مع المبعوث الألماني بمدينة القدس الدكتور فرتز غروبا،قام في حينها بترويج فكرة “الجهاد الإسلامي” ضد الاحتلال البريطاني واستقلال الدول العربية وضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين من خلال الادعاء بدعم ألمانيا لهذين النهجين.v مع واقع إن مناهضة الوجود اليهودي في ألمانيا قد دفع لمن استطاع الهروب من المانيا التوجه إلى أوروبا ومنها إلى أمريكا ومنها إلى فلسطين أيضاً. لقد كان لفرتس غروبا علاقات مع عرب فلسطين والحاج أمين الحسيني حين كان مبعوثاً لألمانيا بمدينة القدس بفلسطين قبل تعيينه في العراق. وبعد فشل الانقلاب وهروب رشيد عالي الكيلاني والحاج أمين الحسيني عينت وزارة الخارجية الألمانية فرتز غروبا مسؤولاً عن العلاقات معهما.
المجموعة العسكرية: العقداء الأربعة زائداً مجموعة من الضباط القوميين العرب العراقيين، منهم العقيد إسماعيل حقي.
جميع المدنيين القوميين العراقيين والعرب الذين عملوا في بغداد كانوا أعضاء في نادي المثنى الشيباني الذي تأسس عام 1935 واستمر رسمياً حتى عام 1937، وواصل نشاطه غير الرسمي حتى فشل الانقلاب العسكري في نهاية حزيران/يونيو 1941،vi كما ساهم بتنظيم الوفود إلى ألمانيا لاسيما الطلائع والمشاركة والدفع بتشكيل نظام الفتوة في المدارس العراقية على طريقة تنظيم الطلائع في المانيا وشباب هتلر التي أسست في عام 1922-1945 والتي تشكلت منها فرق العاصفة في ألمانيا وكذلك في إيطاليا. ومن شبيبة العراق القوميين، الذين انتظموا في كتائب الشباب، شكّل منها يونس السبعاوي ميليشيا “فدائيو السبعاوي” التي قامت على صيغة تنظيم وفكر شبيبة ألمانيا الهتلرية وشبيبة موسوليني الإيطالية. كما كان النادي يستورد الأفلام من ألمانيا التي تقدم حياة الألمان في زمن النازية وتروج للفكر النازي الألماني.
لقد كان موقف هذه الجماعات، كما هو حال بقية العراقيين والعراقيات، مناهضاً للوجود البريطاني في العراق، والذي تبلور في ثورة العشرين وفي مناهضة معاهدة 1930 مع بريطانيا وضد تدخل السفارة البريطانية في الشأن العراقي حتى بعد إلغاء الانتداب البريطاني على العراق عام 1932. وكانت علاقة العقداء الأربعة ممتازة بالبيت الهاشمي للعالة المالكة ومع نوري السعيد. إلا أن وصول هتلر إلى السلطة باعتباره حزباً قومياً ومعاداته لبريطانيا بشكل خاص، دع عنك عداءه للسوفييت والشيوعية، قد ساهم ببروز تيار قومي يميني متطرف في صفوف القوميين العرب أعضاء النادي وفي القوات المسلحة العراقية الذين سعوا لتعزيز العلاقات مع ألمانيا أولاً، ومن ثم مع إيطاليا التي تسلَّم الفاشيون الحكم في وقت مبكر وفرضوا نظاماً شبيهاً بالنظام القومي النازي الألماني فيها.
من الصحيح القول بأن القوميين العرب كانوا ضد الهيمنة البريطانية على العراق. ولكن هذا الموقف ضد الهيمنة البريطانية قد اقترن منذ النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين بتحول في الفكر والممارسة السياسية إلى:
1) تبني الفكر القومي اليميني المتطرف من خلال تنشيط وتطوير العلاقات السياسية لنادي المثنى مع الجهات الرسمية والحزبية والشعبية الألمانية عبر القنصل الألماني؛
2) إقامة تشكيلات سياسية وشبه عسكرية في المجموعة العراقية مماثلة لما هو موجود في ألمانيا بشكل خاص؛
3) تعزيز العلاقات الثقافية بين نادي المثنى والشخصيات الفكرية القومية مع المؤسسات الثقافية الألمانية لاسيما الدعاية، ومنها الإذاعة والصحافة ونشر الكتب والأفلام الألمانية، وتنظيم المحاضرات في النادي لشخصيات عراقية وعربية وألمانية التي تتضمن دعوة مكشوفة للفكر القومي النازي المناهض لليهود والشيوعية والإنكليز ولصالح ألمانيا الهتلرية. وتنامى هذا النهج في عامي 1939-1941.
4) تبني متشدد مناهض لليهود في العراق بهدف الإساءة لهم وجعل وجودهم في العراق جحيماً لا يطاق، بسبب تفاقم الكراهية والحقد ضدهم. ولم تكن فاجعة الفرهود لتقع لولا تلك الأجواء المسمومة ضدهم، وكانت البداية التي انتهت بصدور قانون إسقاط الجنسية، والذي تناغم مع جهود الحركة الصهيونية العالمية وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في هدف إخراج اليهود من العراق ونقلهم إلى فلسطين، وفيما بعد إلى إسرائيل.
جدير بالإشارة إلى أن من الخطأ اعتبار كل القوميين العراقيين العرب قد تبنوا الفكر النازي حينذاك، إلا إن موجة الفكر النازية قد تفاقمت بحيث لم يعد يمكن التمييز بين من هم نازيون ومن هم غير نازيين.
إن قراءة التقارير الألمانية حول العلاقة بين القيادة الهتلرية والمجموعة القومية العربية العراقية، وكذلك المجاميع القومية في الدول العربية، ومنها فلسطين حينذاك، وكذلك كثرة من الكتب الصادرة باللغة العربية عن الجهات التي كانت مرتبطة بهذا التيار الفكري القومي وغيرهم، تكشف بوضوح تلك العلاقات المشبوهة التي تؤكد الموقف الكاره لليهود كيهود، رغم كونهم مواطنين عراقيين يحملون الجنسية العراقية (أ)، ولم يقوموا بما يستوجب أصلاً تلك الكراهية والمعاداة.
الحركة الصهيونية في العراق
لم يكن فكر وممارسة الحركة الصهيونية العالمية متغلغلين في أوساط اليهود العراقيين قبل مجيء الملك فيصل الأول إلى العراق. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى أن بدايات النشاط الصهيوني في العراق تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بمبادرة فردية محدودة تبناها اليهودي العراقي آهرون ساسون بن الياهو ناحوم الملقب بالمعلم. إلا إن هذه المبادرة لم تتعد حدود قراءة الصحف الصهيونية التي كانت تصل إلى العراق من فلسطين والولايات المتحدة وبريطانيا. وعند متابعة الأدبيات المتوفرة حالياً يظهر بأن النشاط الصهيوني في العراق كان أوسع من هذه المحاولة بدليل وجود ملف يحمل عنوان (النشاط الصهيوني في العراق 1899) في أرشيف جمعية الأليانس الإسرائيلية في باريس، يضم بين طياته مجموعة حوادث بضمنها رسالة كتبها آهرون المعلم.”vii فماذا جاء في هذه الرسالة؟ تقول الرسالة المؤرخة في شهر نيسان/أبريل من العام 1919 ما يلي:
“إننا نتشرف بإعلامكم بأن الفكرة الصهيونية قد رسخت جذورها في قلب كل واحد من أبناء طائفتنا، وتلبية لطلب الجمهور فقد قررنا أن نؤسس جمعية صهيونية حتى لا يكون نصيبنا في مساعدة الشعب أقل من نصيب بقية أخوتنا، من ألواضح أن المهمات الأساسية لأعضاء جمعيتنا هي إعطاء المعلومات الكافية، ومساعدة أولئك الراغبين في الهجرة إلى البلاد بهدف الاستيطان وإحياء اللغة العبرية في أوساط شبان طائفتنا في العراق التي يربو عددها المائة ألف نسمة”.viii لقد كانت هذه الرسالة مبالغ فيها جداً، إذ لم يكن أهرون المعلم نفسه قد تيقن تماماً من أهداف الحركة الصهيونية من جهة، ولأن غالبية يهود العراق لم تكن قد عرفت شيئاً عن طبيعة الحركة الصهيونية من جهة أخرى.
إلا إن هذا قد تغير نسبياً بعد تولي فيصل الأول عرش العراق. فالمعلومات المتوفرة والوثائق المنشورة تؤكد أن اتفاقاً وقع بين حاييم وايزمن وفيصل الأول قبل تسلمه عرش العراق وبرعاية بريطانيا بأن يفسح الملك فيصل الأول المجال للحركة الصهيونية بالعمل في العراق. (أنظر الملحق رقم 1 اتفاق وايزمن وفيصل الأول). وكانت باكورة الأعمال التي قام بها الملك فيصل الأول بعد اعتلائه عرش العراق هي دعوته لوجهاء الطائفة اليهودية ببغداد ومنهم السر ساسون حسقيل وزير المالية، والسيد مناحيم صالح دانيال عضو مجلس المبعوثين في الاستبانة سابقاً، والسيد ألياهو العاني عضو المجلس التأسيسي العراقي فيما بعد وغيرهم وطلب منهم تأسيس جمعية لنشر الآراء الصهيونية وتعاليمها بالعراق. فما كان من الوجهاء إلا أن أجابوه بصوت واحد وبلا تردد أنهم يعارضون الفكرة جملة وتفصلاً معلنين له أنهم عراقيون يخلصون للعراق وحده ولا يرضون عن العراق بديلاً”ix. لقد كان هؤلاء الوجهاء من يهود العراق قد عرفوا وأدركوا النية التي تعمل لها هذه المنظمة اليهودية الدولية والتي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة على يهود العراق والتي تبلورت في ثلاث أهداف أقرها المؤتمر الدولي الأول لهذه المنظمة بمدينة بازل في سويسر في 29 أغسطس/آب 1897 بقيادة تيودور هيرزل (1860-1904م)، وهي:
1. جمع التبرعات لضمان إرسالها للمنظمة الدولية لغرض شراء المزيد من الأراضي ودور السكن في فلسطين لصالح اليهود،
2. والتشجيع على تعلم اللغة العبرية وقراءة الصحف والمجلات بالاقتران مع تأسيس جمعيات صهيونية،
3. وثم تشجيع اليهود العراقيين على الهجرة إلى فلسطين والسكن فيها لمن يرغب بذلك وتوفير مستلزمات هذا السفر.
يشير الدكتور فرتز غروبا إلى “أن الملك فيصل الأول قد تسلم في عام 1933م خلال زيارته للندن اقتراحاً بتوطين مائة ألف يهودي في منطقة دجلة السفلى في موقع بين العزيزية والكوت وعرض على الحكومة العراقية في حالة قبولها الاقتراح فوائد مالية وقروضاً كبيرة بشروط سهلة! ولم يرفض الملك العرض بل أحاله إلى الحكومة العراقية للنظر فيه!”x. وقد رُفض هذا الطلب من جانب الحكومة العراقية.
بعد وفاة الملك فيصل الأول تغير الموقف إزاء اليهود من جانب الحكومة العراقية الذي أشرنا إليه حين أقدم أرشد العمري على فصل 150 مواطناً يهودياً من وظائفهم في عام 1934، وبدء التحرش الفعلي المتزايد بهم في الدولة والمجتمع. يشير الكاتب الشيوعي العراقي، الذي رفض العيش في إسرائيل وبقي في لندن منذ تهجيره من العراق حتى وفاته في عام 2018 والذي وقف طيلة حياته ضد الفكر القومي الصهيوني، حسقيل قوجمان، الى تنامي العداء لليهود حينذاك بما يلي:
ويشير إلى ذلك المواطن العراقي والشيوعي المعروف حسقيل قوچمان في إجابة له عن واقع الجالية اليهودية بالعراق، إذ كتب يقول: ” منذ سنة 1937 بدأنا نحن الطلاب نشعر بوجود دعاية نازية بين الطلاب والمدرسين في المدارس المتوسطة والثانوية. كان ببغداد ناد يسمى نادي غروبا على اسم السفير الألماني بالعراق. كان هذا النادي يدفع لكل طالب ينتمي إليه 250 فلسا في الشهر وكان هذا المبلغ يكفي الطالب للسينما وشراء السجاير وحتى لتناول بعض وجبات الطعام خلال الشهر كله. وكانت تدفع للمدرسين مبالغ تتناسب مع رواتبهم الشهرية لدى الانتماء لهذا النادي. وطبيعي أن التثقيف في هذا النادي كان تثقيفا نازيا ومعادٍ لليهود بصورة خاصة. وفي العطلة الصيفية لسنة 1936 كان مهرجان رياضي في برلين اشترك فيه وفد عراقي يضم عددا من المدرسين والمثقفين والرياضيين العراقيين. وقد شعرنا بعد رجوع هذا الوفد بتأثير الاتجاه النازي عليهم. فأحيانا كان المدرس يلقي علينا محاضرة في صف به أغلبية يهودية موضوعه “كيفية إبادة اليهود في ألمانيا” بدون مراعاة لإحساسنا نحن اليهود الموجودين في الصف. وكان مدرس الفيزياء مثلا يلقي علينا محاضرة في قدرة الشعب الألماني على الاكتفاء الذاتي بزراعة البطاطا في بيوته إذا نشبت الحرب. ولم تكن هذه الثقافة عميقة في نفوس الطلاب. فلم نكن نشعر بيننا بالفرق بين الطالب اليهودي والطالب المسلم أو المسيحي. كنا جميعا كإخوان لا فرق بيننا. كانت تحدث حالات قد تكون مضحكة. فقد يكون طالب غير يهودي ممسكا بأخيه الطالب اليهودي بيده اليسرى وبيده اليمنى قطعة طباشير يكتب فيها على الجدار “كافحوا الذباب اليهودي” بدون أن يشعر أن في هذا مساس بمشاعر صديقه اليهودي الذي يسير معه كأخيه”xi
والمعلومات والوثائق المتوفرة تشير إلى أن الرفيق فهد، سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي، قد توجه برسالة إلى رئيس وزراء الانقلاب رشيد علي الكيلاني، وقبل وقوع فاجعة الفرهود، تتضمن احتجاجاً ضد أعمال العنف والاعتداء التي يتعرض لها اليهود خلال تلك الفترة وتطالبه بضرورة وأهمية عدم التمييز في التعامل ضد اليهود. وجاء في نص الرسالة ما يلي:
“أولاً، يأسف الحزب الشيوعي، بل يشمئز من الأعمال الاستفزازية المدبرة ضد اخوتنا اليهود من قبل أدوات الاستعمار البريطاني من جهة ودعاة الاستعمار الألماني من جهة أخرى. إن الاعتداء على الحريات واقتحام البيوت وسلب الممتلكات وضرب الناس وقتلهم ليست، يا صاحب الفخامة، مخالفة للقانون والعدالة فحسب، بل إنها أمور تتعارض مع النزعة الطبيعية لهذه الأمة إلى الكرم والبسالة والنبل … إن أمثال هذه الأعمال الإجرامية تؤذي سمعة الحركة الوطنية وتؤدي إلى إحداث شرخ في صفوف الجبهة الوطنية الموحدة، وبالتالي إلى الفشل، ومن يستفيد من هذا غير الاستعمار؟ وإننا إذ نعبر بهذا عن عدم موافقتنا، فأننا لا ننكر بشكل من الأشكال وجود خونة ينتمون إلى الطائفة اليهودية وقفوا مع عصابة عبد الإله ونوري السعيد وأتباعهما الشريرة، ولكننا نشعر أن العقاب يجب إلا يعمهم جميعاً، استناداً إلى مواد القانون.
ثانياً، إننا من أصحاب الرأي القائل، في ما يخص الدعاية أنه يجب على الإدارة المختصة أن توجه العراقيين على أساس خطوط وطنية صحيحة، ولكننا لاحظنا مؤخراً، وبقلق غير قليل، … أنها انحرفت إلى سبل لا يمكنها إلا إيذاء الناس … لم نسمع مؤخراً إلا قرعاً للطبول حول “القضية العادلة” لقوى المحور … وإنكم تتفقون معنا، بلا شك، يا صاحب الفخامة، أن القوى المذكورة ليست أقل إمبريالية من بريطانيا.”.xii
لم تستطع الحركة الصهيونية في العراق الحصول على موطئ قدم فعلي واسع لها الأوساط اليهودية في البلاد، بسبب العلاقة الحميمية التي نشأت بين يهود العراق الذين جُلبوا سبّياً من مدنهم في السامرة ويهودا وأورشليم القدس وغيرها إلى بلاد ما بين النهرين منذ ما يقرب من ثلاثة ألاف سنة وعيشهم في العراق، الذي اعتبر وطن الغالبية العظمى منهم، وبالتالي أصبح العراق وطنهم الأول دون أدنى ريب. وكانت مشاركتهم واسعة في الفترة التي سبقت فاجعة الفرهود في النشاطات الثقافية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. إلا أن فاجعة الفرهود قد أوجدت شرخاً وخلقت أوضاعاً جديدة، بحيث برزت ثلاث ظواهر ملموسة:
أ. تنامي الخشية لدى جمهرة واسعة من العائلات اليهودية من احتمال تفاقم العداء ضد اليهود وعجز الحكومة العراقية عن الدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم.
ب. بروز نشاط جديد للعناصر الصهيونية بصورة سرية ونشوء أرضية صالحة لعملهم في أوساط اليهود العراقيين واتساع الرغبة في تعلم اللغة العبرية.
ت. بروز أجواء مناهضة للصهيونية أيضاً والتحاق المزيد من المثقفين والمثقفات والعمال اليهود بالحزب الشيوعي العراقي الذي كان يدافع عن حرية وحقوق اليهود ومساواتهم ببقية العراقيين والعراقيات، والذي تبلور في تشكيل عصبة مكافحة الصهيونية في عام 1946، التي دعا إليها وعمل لقيامها الحزب الشيوعي العراقي بمبادرة من فهد (يوسف سلمان يوسف) بهدف التصدي لعمل القوى الصهيونية في العراق، ودعم بقاء اليهود في البلاد والعمل على مكافحة التمييز ضدهم ومساواتهم ببقية المواطنين. xiii
ورغم إن هذا النشاط الصهيوني لم يبرز بشكل واضح في فترة الحرب العالمية الثانية، إذ بذل يهود العراق جهداً لاعتبار فاجعة الفرهود ذدهم حالة استثنائية بأمل العود إلى الحياة الطبيعية وعلاقات سوية مع بقية بنات وأبناء الشعب العراقي. إلا لإن الفترة التي أعقبت الحرب قد أبرزت ظاهرة تشكيل جماعات إرهابية عمدت إلى تنفيذ بعض التفجيرات لبث الرعب في صفوف اليهود واتهام المسلمين بها، والتي ماثلها قيام بعض القوميين المسلمين العرب العراقيين بأعمال مماثلة ولنفس الهدف، أي بأمل دفع اليهود لمغادرة العراق، إضافة إلى تنامي النشاط الصهيوني من جهة، والنشاط القومي العربي المناهض لليهود من جهة أخرى، والذي تفاقم بعد إعلان تقسيم فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل. ومن هنا يمكن أن يلاحظ بأن اتجاهين قوميين متطرفين كانا يقودان إلى نتيجة واحدة هي إخراج اليهود من العراق!

الحلقة الثانية ستتضمن استكمالاً للنقاط التي لم تبحث في هذه الحلقة لاسيما الإجابة عن السؤال التالي: من عمل على تهجير العائلات اليهودية من العراق؟
الملاحق
الملحق رقم 1

الملحق رقم 2
في الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر 1917 وجه أرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد (1868-1937م) البريطانية الجنسية ، كما جاء نصها في الموسوعة الحرة ويكبيديا:
وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح
.
المخلص
آرثر جيمس بلفور

الهوامش والمصادر

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here