التكديش!!

التكديش!!
الكٌدش تعني السَوق والطرد والإستحثاث , ويقال : كدَشتُ الإبل أي طردتها , وكدَش لعياله أي كسب وجمع وإحتال وكدح.
وكدَشه أي دفعه دفعا عنيفا وهو السَوق الشديد.
وفي لغتا العامية نسمي الحمار (كديشا) , وعندما نغضب من عمل غبي نسمي صاحبه كديشا , ونقول لا تكّدش أي لا تكن غبيا , أو هذا تكديش بمعنى الإمعان بالغباء والفعل الضار بالفاعل.
وربما يُقصد بالتكديش الغباء وعدم معرفة المصلحة والجري الجاد نحو تدمير الذات والموضوع , وفي ذلك إقتراب إنفعالي وإعمال للعقل العاطفي الغاضب.
فإذا كنا منفعلين ويائسين فتعبير التكديش يكون أقرب للصواب , أما إذا خرجنا من شرنقة العواطف والإنفعالات ونظرنا بأسلوب آخر , وإقتربنا من صلب الموضوع وجذر الماسأة , التي تلقي بظلالها علينا جميعا وبدون إستثناء , نجد أن هناك أسباب وعوامل ذات تأثير في صناعة الوجود المضاد للوطن والمجتمع , والحارق للمستقبل والمدمر للحاضر والغارق في ظلمات الماضي وأعماق القبور.
ويبدو أن سياسة التجهيل الذاتي والوطني , والتصحير الثقافي والروحي , والتدمير المبرمج للعقل والفهم والوعي , ومنع الإقتراب الموضوعي والمنطقي قد فعلت فعلها عبر الأجيال.
فلا يمكن تفسير مسيرات الوجيع إلا بهذه الآليات التي حققت إستعباد الآخرين وإمتلاكهم ومصادرة إرادتهم وحريتهم , وأسرهم بالتبعية والخضوع المطلق لإرادة العمامة أيا كان لونها ومدرستها ومذهبها , والإبتعاد عن إرادة الله وسلطته وقوته وقدرته لأنه لا يُرى , ولا يعني الخوف منه شيئا بالمقارنة بالخوف من العمامة.
كما أن الصياغة العاطفية الإنفعالية لحالة التلقي والإدراك , قد جعلت الجميع يستلطف حياة القطيع ويخضع لقوانينها وتقاليدها , ولا يمكن لواحدٍ أن يخرج عنها , لأن الذئاب ستفترسه وتقضي عليه فورا , ولا يمكن لواحدٍ آخر في القطيع أن يرفع رأسه إحتجاجا على إفتراس غيره , لأنه أدلى برأيه وأراد أن يأكل حول عرش الذئاب.
إن الواقع الإجتماعي والنفسي يشير إلى معضلة الوعي والإدراك والتعبير عن المفاهيم , والتواصل مع الحياة وتأكيد دور الإنسان فيها , ونحن في صميم ثقافاتنا وموروثنا ندفع إلى الحزن والموت وتأنيب الضمير , واليأس والقنوط والإستسلام للحرمان والعوز والحاجة , وإلقائها على أكتاف ربنا الذي نفسر بواسطته عجزنا , ونبرر سكوننا وعدم إعمالنا لعقولنا وإنضاجنا لأفكارنا , فنجد مشجبا أو قميصا لنعلق عليه عوامل وأسباب تداعياتنا ومآسينا , فأصبح الدين قميصا والرب مشجبا , وتلك محنة حضارية ومأساة وطنية نعيشها ونئن من جورها الشديد.
والبعض في طرحه لمصطلح التكديش قد أخفق بالتعبير عن مقاصده بوضوح وعقلانية , وأمعن في إستخدامه ليحدث هزة أو يقظة ذات قيمة , وفعل يساهم في الخروج من المأزق الذي يرزخ تحت وطأته مجتمع مذبوح ومدثر بالخطايا والآثام.
وسبب المأساة الخفي أننا لا نقرأ ولا نعرف دلالات الكلمات , ونحسب القول قولا وكفى , والكلمات مجردة من الفعل , وإلا فعندنا كل شيئ مكتوب ولكل مشكلة حل في أكداس الكتب وعبر مسيرات القرون , لكننا لا نقرأ ولا نتعظ , ونتفاعل مع الأيام وكأننا ولدنا البارحة , ولسنا أصحاب تراث وثقافات غنية ومؤثرة في حياة الآخرين وبنائهم الحضاري.
وهكذا فأن التكديش كرؤية ومصطلح أسلوب إنفعالي يميل إلى التسطيح , وإستنهاض الوعي بطريقة بدائية أولية , لكنه لن يحقق هذا الهدف , لأننا لا نهتم بالكلمات ونتبع إرادة الكراسي , ونتمرغ بوحل العمائم وتراب الأسياد.
ولا بد من القول بأن المجتمعات المضرجة بالشدائد لا يمكنها أن تبني نظاما ديمقراطيا لأنها لا تستطيع أن ترى بوضوح , وهذا يدفعها إلى أن تناهض مصالحها وقيمها وأعرافها وتنكر وجودها .
فما بالك إذا إستيقظت ذات صباح ورأيت مواضع الأنهار قد تغيرت وإتجاهات جريانها تبدلت , ألا ستقف أمام ذاتك وتكرر وتنكر ما كان فيك من منظومات رؤى وتصورات , وهذا ما تحقق في مجتمعنا المصاب بالشدائد المقيمة المتواصلة المتعاظمة , التي تستنهض الذكريات المريرة في الأعماق البشرية , وتدفع بالبشر إلى السلوك المشوش والمضطرب والممعن في الضياع والخسران , وذلك هو حالنا ومصيبتنا التي بسببها لا يمكننا رؤية مصالحنا إن لم نخرج من دائرة الشدائد المريرة المغلقة التي ندور فيها. فهل لنا أن نتعقل ونرى ببصائر الذين يتفكرون؟!!

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here