حركة إبراهيم (ع) 2

حركة إبراهيم (ع) 2، الدكتور صالح الورداني
———–
قدمت لنا سورة الأنبياء فصلاً جديداً من فصول المواجهة بين إبراهيم وقومه أو مجتمعه كشف لنا مدى عبقريته وحنكته وذكاءه..
وهى الصفات التي يجب أن يتصف بها الدعاة..
وكشف لنا أيضاً خبرته وإحاطته بواقعه..
وهى الأدوات التي يجب أن يملكها الدعاة..
وقد حوى هذا الفصل العديد من المشاهد المثيرة والملفتة التي نخرج منها بالعديد من الدروس في فن الدعوة والدعاية والمواجهة مع الواقع..
المشهد الأول الحوار
قال تعالى :وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ .
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ .
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ .
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ .
والنتيجة الواضحة من خلال هذا الحوار هى البلاغ..
والبلاغ هو أساس مهمة الرسل..
إلا أن إبراهيم تجاوز حدود البلاغ وقرر الدخول في مواجهة مع الأصنام وحماتها من الحكام والكهان..
وهو ما سوف نتبينه من خلال المشهد القادم..
المشهد الثاني الخطة
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ .
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ .
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
وقد كشفت التحريات أن الفاعل هو إبراهيم لما له من سوابق في مواجهة الأصنام..
والسؤال هنا : لماذا ترك إبراهيم الصنم الكبير ولم يحطمه كما حطم بقية الأصنام..؟
والجواب نعرفه من خلال المشهد القادم..
المشهد الثالث المحاكمة
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ.
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ .
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ .
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ .
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ .
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ .
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ .
ويظهر لنا من خلال هذا المشهد أن المحاكمة علنية وفي حضور الجماهير كما هو حال يوم الزينة في قصة موسى(ع)..
وقد وضع إبراهيم قومه في مأزق شديد الحرج وكشف على الملأ حقيقة الأصنام وكونها مجرد أحجار تستغل من قبل الكهان والحكام في تضليل الناس وابتزازها..
وهو قد وضع الكهان والقوى الحاكمة بين أمرين كلاهما مر :
إما أن يستنطقوا الأصنام..
وإما أن يقروا بأن الصنم الكبير هو الذي حطم الأصنام الصغيرة..
وإذا نفذوا الأمر الأول فسوف تنكشف حقيقة الأصنام..
وإذا نفذوا الأمر الثاني فسوف تنكشف حقيقة الأصنام أيضاً..
وهم قد وقعوا في الفخ الذي نصبه لهم إبراهيم وهموا بسؤال الأصنام ثم تراجعوا بسرعة حتى لا يفتضح أمرهم أمام الناس..
وحاولوا التمويه والتعتيم بتوجيه السؤال لإبراهيم :لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ..
وهنا قام إبراهيم بإلقاء الكرة في ملعبهم وأعلن حقيقة الأصنام وكونها لعبة واهية لا تستطيع الدفاع عن نفسها..
وكان يجب على العقول أن تنتبه وتستيقظ من غفوتها..
وهو ما دعا إليه إبراهيم..
والسؤال هنا هل اهتزت الجماهير لهذا الحدث..؟
والجواب سوف نعرفه من خلال المشهد القادم..
المشهد الرابع الحكم
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ .
قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ .
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ .
وصدور الحكم بإعدام إبراهيم حرقاً كان السبيل الوحيد أمام الحكام والكهان للخلاص من هذه الورطة..
وهو ما تفعله القوى الحاكمة دائماً في مواجهة الدعاة والمصلحين بمباركة الكهان..
التخلص منهم تحت أي مسمى..
وباسم أي صنم..
المشهد الخامس الرحيل
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ .
ويكشف لنا المشهد الأخير أن إبراهيم لم يحقق النصر لدعوته..
وأن المنتصر كان القوى الحاكمة وكهانهم، وإن كانوا هم الأخسرين..
فهم لم يتمكنوا من التخلص من إبراهيم..
وخسروا القيمة والمكانة العالية في ظل دين الله..
والأهم من ذلك أن الجماهير لم تحرك ساكناً..
ولم تتأثر بمعجزة إبراهيم وخروجه من النار حياً..
تماماً كما لم يتأثر الجمهور المصري يوم الزينة بعصا موسى..
وهو ما يكشف لنا أن الناس تقف دائماً مع الأقوى حتى ولو كان طاغياً فاسداً..
ولا تقف مع الضعيف حتى ولو كان رسولاً..
وهو ما يفسر لنا سر هجرة الرسل والأنبياء لمجتمعاتهم..
والرسل أو الأنبياء لا يملكون المعجزات التي تحول الناس لمؤمنين ، إنما يملكون الحجج والبراهين التي تنبه العقول وتوقظ النفوس ولا تكسر سنن الله في خلقه..
والمجتمع لا يمكن أن يتحول من الكفر إلى الإيمان بمجرد معجزة إلا إذا ملك الإرادة..
والإرادة هنا مسلوبة بفعل الحكام والكهان..
والحل هو التمرد..
وفي مجتمع إبراهيم لم يتمرد سوى لوط..
إلا أن الله سبحانه عوض إبراهيم فيما بعد بإسحاق ويعقوب ليكونا امتداداً له ولدعوته..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here