مواجهة كوفيد -19 بمساعدة الفلسفة القديمة

بقلم: مارتن فيرغسون سميث

ترجمة: د. رمضان مهلهل سدخان

في هذا الوقت الذي يقتل فيه وباءُ كوفيد-19 عشرات (ربما قريباً مئات) الآلاف، ويعطّل اقتصادات الدول المزدهرة وحيوات البلايين من الناس، ويولّد الكثير من الخوف، ربما يكون من المفيد أن ننظر إلى الوراء إلى التراث اليوناني والروماني ونرى ما هو التوجه الأخلاقي الذي يمكن للمرء أن يستشفّه من مدرسة الفيلسوف أبيقور (341-270 قبل الميلاد).

إن الأوبئة والأمراض كانت شائعة في العالم القديم. وأشهر تلك الأوبئة ما أصاب أثينا عام 430 قبل الميلاد، أي في السنة الثانية من الحرب البيلوبونيسية، التي خاضتْها المدينة وحلفاؤها ضد سبارطا وحلفائها. وهذا الوباء وثّقه توثيقاً واضحاً المؤرخ ثوسيديديس، الذي لم يشهده فحسب، بل أصيب به وتعافى منه. وعلى الرغم من أنه يصفه بالتفصيل على أمل أن يكون وصفه مفيداً في حال حصل المرض نفسه في المستقبل، فإن السلطات الحديثة كانت غير قادرة على الموافقة على تحديده.

في سلوكه وأعراضه وتأثيراته، كان [المرض] يحمل بعض أوجه التشابه مع كوفيد-19. إذ قيل بأنه نشأ في بلد بعيد، في مكان ما جنوب مصر، وأنه قد أثّر على مناطق أخرى قبل وصوله إلى أثينا، مما أحدث خراباً سيما وأن الناس كانوا يزدحمون معاً. وكانت أثينا ضعيفة بشكل خاص لأن الحرب أجبرت الكثير من سكان البلاد على البحث عن مأوى في المدينة. كان المرض شديد العدوى. فالأطباء، الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مثله من قبل، لم يعرفوا كيفية علاجه، وكان تعرّضهم له يعني بأنهم سيتكبدون أعلى معدل من الوفيات. وكان الناس الأكثر عرضة للإصابة هم الذين يعانون من مشاكل صحية سابقة. وشملت الأعراض الحمى والسعال والقيء والإسهال. وإذا لم يُزَر المرضى خشية الإصابة، فإنهم يموتون بسبب الإهمال؛ أما أولئك الذين دفعهم الإيثار الى الزيارة كانوا من المرجح أن يدفعوا حياتهم ثمناً لذلك. أما أولئك الذين أصيبوا بالمرض لكنهم تعافوا منه فقد أصبحوا محصنين ضد هجوم آخر، على الأقل لهجوم مرض قاتل.

حدث وباء أثينا قبل قرن من ولادة أبيقور. لكن معظم كتاباته الكثيرة تلاشت، لذلك لا نعرف ما إذا كان هو نفسه كتب حول هذا الوباء. لكن أشهر أتباعه فعل هذا. ذلك هو الشاعر الروماني لوكريتيوس، الذي، كان يكتب في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، يختتم كتابه السادس والأخير من

ملحمته الرائعة في الكون بعنوان، “حول طبيعة الأشياء”، بتقرير يتبع جزءٌ كبيرٌ منه تقريرَ ثيوسيديدس، لكنه يمثل الأثينيين الذين يعيشون في وقت لم تكن فيه تعاليم أبيقور متاحة بعد، لكونها من الناحية الأخلاقية وكذلك من الناحية الطبية، غير مؤهلة للتعامل مع النكبة. وبرغم أن لوكريتيوس لم يقل ذلك صراحةً، فمن المحتمل بأنه رأى الحالة الجسدية لضحايا ذلك الطاعون ترمز إلى الحالة الأخلاقية للإنسانية غير المتعلّمة.

وفكرة أن غير المتعلمين هم “مرضى” ويحتاجون إلى “دواء” الابيقيورية موجودة [أي الفكرة] في مكان ما آخر في لوكريتيوس وفي مصادر أبيقيورية أخرى. ويُعلن أبيقور نفسه قائلاً:

باطلة هي كلمة الفيلسوف الذي لا تشفى عن طريقه معاناة البشر؛ لأن الطب وحده يكون بلا جدوى إذا ما فشل في القضاء على أمراض الجسد، لذلك تكون الفلسفة بلا جدوى إذا ما فشلت في القضاء على أمراض العقل.

ثمة أربعة أقوال يلخص فيها أبيقور المبادئ الأساسية لمنظومته الأخلاقية كانت معروفة لدى أتباعه باسم “العلاج بالعقاقير الأربعة” tetrapharmakos.

ووفقاً للمتحدث الأبيقوري في رسالة شيشرون الموسومة “حول نهايات الخير والشر”، فإن أمراض العقل هي أكثر تدميراً للسعادة من أمراض الجسد. وتشمل مثل هذه الأمراض الرغبات غير المحدودة والتافهة نحو الثروة والشهرة والسلطة و الملذات الحسية. في القرن الثاني الميلادي، يؤكد الفيلسوف الأبيقوري ديوجين من أوينوانداOinoanda ، وهي مدينة صغيرة في جبال جنوب آسيا الصغرى (تركيا)، في معرض توضيحه لمهمته الخيرية والعالمية لمواطني ذلك المكان وزواره في أكبر نقش يوناني معروف في العالم القديم، [يؤكد] بأن:

غالبية الناس يعانون من مرض شائع، كما هو الحال في الطاعون، وفق مفاهيمهم الخاطئة عن الأشياء، ويتزايد عددهم، لأنه في المحاكاة المتبادلة يصابون بالمرض من بعضهم البعض، مثل الغنم.

ويسمّي المذاهب الأبيقورية التي يطرحها [يسمّيها] بـ “الأدوية التي تجلب الخلاص”.

إن أبيقور، الذي أسّسَ مدرسته في أثينا عام 307/306 قبل الميلاد، كان ينظر إليه اتباعه ويوقرونه، سواء في عصره أو بعد قرون من وفاته، على أنه مكتشف الطريقة التي تحقق الصحة الأخلاقية والسعادة الحقيقية. وبينما يوضّح بأن المتعة هي أعظم خير، فإنه حدّد المتعة في أنقى صورها بوصفها أبونيا (أي التحرر من الألم) في الجسد، والأهم من ذلك، أتاراكسيا (أي التحرر من

الاضطرابات) في العقل. وتعدّ الأتاراكسيا استعارة من الماء والطقس الهادئين، أي الفكرة والوجود المثالي الذي يجعل عقلك هادئاً مثل مياه المرفأ التي لم تزعجها التيارات والمدّ والرياح. ولا يمكن دائماً تجنب الآلام والأمراض الجسدية. إذا كانت معتدلة القوة، عندها يمكن تحمّلها ويمكنها أن تسمح بتفوق المتعة الجسدية على الألم. وغالباً ما ينطبق الشيء نفسه على الشكاوى المزمنة. ومن البدهي بأن الألم الشديد يحول دون المتعة الجسدية، ولكنه غالباً ما يكون قصير الأمد، أي أما التعافي أو الموت. وتنطوي العقيدة المهمة جداً على أن المتعة اللذة العقلية لهي أهم من اللذة الجسدية. عندما يتألم الجسد، فإن العقل بإمكانه تجربة اللذة وتخفيف الألم الحالي عن طريق تذكر ملذات الماضي وتوقع الملذات القادمة.

يقوم الحكماء باستغلال قدرة العقل على النظر إلى الوراء وإلى الأمام لصالحهم، ولكنها تدمّر حيوات أولئك الذين يكون موقفهم من الأحداث الماضية مريراً، والذين تهيمن على موقفهم من المستقبل مخاوف لا داعي لها، وخاصة المخاوف المتعلقة بالآلهة والموت، والرغبات غير الضرورية، لاسيما تلك التي تخص الثروة والسلطة.

إن مفتاح التخلص من هذه الاضطرابات وتحقيق الهدوء العقلي هو دراسة علمية للكون. وباعتماده وتكييفه للنظرية الذرية لديموقريطس، أظهر أبيقور بأنه في كونٍ باقٍ وسرمدي متكونٍ من عدد لا حصر له من الذرات ومدى غير متناهٍ من الفراغ (وهو يحتوي على عدد لا يُحصى من العوالم) لا مكان للآلهة في خلق عالمنا أو التحكم به، ذلك العالم الذي هو على أية حال غير كامل إلى حد بعيد بحيث لا يمكن أن تكون قد صَنَعتْه الآلهة لصالح الإنسان: أنظر، على سبيل المثال، الى المناخ العدواني في كثير من المناطق، والظواهر المدمرة مثل العواصف العنيفة والزلازل والإنفجارات البركانية وبالطبع الأمراض. ليس ثمة إمكانية لوجودِ مكانٍ تعيش فيه الأرواح ويمكن أن تُعاقَب بعد الموت. إن الروح والعقل البشريين، مثل الجسد، ماديان وعندما يموت الجسد الذي هما [أي الروح والعقل] بالفعل جزء منه، فإنهما يموتان أيضاً. الموت ليس مدعاة للخوف: طالما نحن موجودون، فهو ليس معنا: وعندما يأتي [الموت]، فنحن غير موجودين. ولا يوجد الجحيم إلاّ بالمعنى الذي يقوم فيه الحمقى بجعل حيواتهم جحيماً على الأرض. وفي الوقت نفسه، فإن أولئك الذين يعيشون بحكمة يمكنهم الاستمتاع بسعادة إلهية.

هذه السعادة يلمسها أولئك الذين يعيشون حياة بسيطة، وهم يُشبعون تلك الرغبات الطبيعية والضرورية، مثل الأطعمة الأساسية والشراب والملبس و المأوى، ويُقصون تلك الرغبات المتعلقة مثلاً بالثروة والمكانة والمتع الحسية، التي تكون غير ضرورية، ولأنه من المستحيل إشباعها، فمن المؤكد أنها تنطوي على ألم.

وفي مواجهة وباء كوفيد-19، كان يحدو أبيقور الأمل في أن تساعد تعاليمه المرضى على تحمّل مرضهم برباطة جأش وتساعدنا في مواجهة همومنا ومخاوفنا وإحباطاتنا وخيبات أملنا، بأن نكون هادئين وإيجابيين قدر الإمكان، عن طريق الإبتهاج بصحتنا الجيدة إذا كنا محظوظين بما يكفي للحفاظ عليها، وبشكل عام علينا ان نعدّ نِعمنا، بما في ذلك نِعَم الحب والصداقة، التي يكون امتلاكها مهماً جداً له ولمدرسته. ربما كان يمنّي النفس أيضاً في أن تساعدنا تعاليمه على أن نراجع الطريقة التي يتّبعها الكثير منا في العيش وأن نعيد تقييم أولوياتنا وقيمنا.

من المؤكد بأن الوباء سيُحدث قدراً كبيراً من الضرر الاقتصادي، ولكن بالنسبة لأبيقور فإن الإزدهار المادي والثروة هما أقل أهمية بكثير من الرفاهية الأخلاقية. وبالفعل فإن السعي وراء الثروة والمكانة والسلطة يتعارض مع راحة البال التي تكمن فيها المتعة الحقيقية والسعادة. وكما كتبَ إلى صديق بخصوص مُريدٍ شاب:

إذا كنتَ ترغب في جعل بايثوكليس Pythocles غنياً، فلا تزيد من إمكانياته، بل قلّلْ من رغباته.

وإذا كانت جائحة كوفيد-19 قد أدّت الى إقناع بعض الناس ممَن “ابتلوا” بآراء خاطئة لتغيير طرق حياتهم، فإن خيراً كبيراً سيتمخّض عن هذه الجائحة.

*** *** ***

مارتن فيرغسون سميث: كاتب بريطاني ولد عام 1940. ومنذ العام 1995، عاش في جزيرة فاولا النائية والوعرة في أرخبيل شتلاند. في فترة “التقاعد”، واصل نشاطه في البحث والكتابة، ليس فقط في الموضوعات الكلاسيكية، ولكن أيضاً في الموضوعات الحديثة.

المصدر: جريدة The Shetland Times الأسبوعية، 10 نيسان 2020، ص. 16.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here