الموسوعيون وحركة الحضارة والتقدم

الموسوعيون وحركة الحضارة والتقدم (*) د. رضا العطار

الموسوعيون مجموعة من العلماء الفرنسيين قرروا منذ العقد الرابع للقرن الثامن عشر، انشاء موسوعة فرنسية تكون قاموسا قائما على ترتيب عقلي للعلوم والاداب والحرف.
وكان على راس من اضطلعوا بها ديدور ودالامبير. فانها كانت حدثا مهما في تاريخ الحضارة الغربية، لان الذين قاموا بتحقيق مشروعها كانوا من ابناء الجيل الجديد من المثقفين الفرنسيين الذين آمنوا بالفكر والتقدم والحرية – وهاجموا القديم بعنف دون توقير لشئ من الموروث مثل الملكية والدين وما اليها من المؤسسات القديمة الكبرى – لذا عانا هذان المفكران في سبيل تحقيقها كثيرا، واوقف طبعها اكثر من مرة، وحورت كل مادة فيها من قبل السلطة الحكومية والمؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة.

ومع ذلك فقد جاءت هذه الموسوعة التي وصفت بدائرة المعارف الفرنسية بشئ جديد جدا في كل فرع من فروع العلوم، وكتب فيها نفر من اعلام النهضة الفكرية الفرنسية في القرن الثامن عشر من امثال جان جاك روسو وفولتير وسان لامبير وغيرهم من اعلام عصر الانوار – – – تهمنا هذه الموسوعة هنا لانها غيرت المفاهيم المتوارثة في اكثر من ميدان من ميادين المعرفة، لان المشرفين على تحريرها وكل الذين كتبوا موادها كانوا من المتفائلين الذين نفضوا ايديهم من الماضي واشتركوا معا في صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان قائمة على العقل والعلم والحرية. ولهذا فقد وقفت الدولة والكنيسة منها موقف العدو وصادروا الكثير من اجزائها قبل صدوره، وفرضت الحكومة الملكية الفرنسية رقابة شديدة على كل ما كتب منها، علما ان الاقلام التي كتبت موادها هي نفس الاقلام التي قامت بالتمهيد الفكري الواعي للثورة الفرنسية.

ان بعض مواد هذه الموسوعة صدر عن فكر ملحد، ولكن البعض الاخر صدر من عقل مؤمن بالله، ولكن ذلك الايمان لم يكن نابعا عندهم من الكتاب المقدس، بل ارتكز على ما تبينوه من كمال الكون واحكام صنعة الله فيه – فكان ايمانهم بالمخلوق سبيلا الى ايمانهم بالخالق – – اي ان ايمانهم كان صادرا من العقل لا من القلب، وهذا تغير في الفكر، له قدره واهميته.
ومن الحقائق المقررة ان مفكري عصر الانوار هم الذين حركوا عجلة التاريخ في الطريق السليم بعد طول تعثر وركود. لقد كانت البداية في انكلترا حيث حققت الطبقة نجاحا ظل يبهر ابصار اهل اوربا زمانا طويلا. هناك تحددت في وقت مبكر – والى حد كبير – سلطات الدولة وحقوق الناس. ولم يعد من الممكن ان يغضب الملك على مواطن فيلقي به في السجن دون محاكمة. واطلقت الحرية الكاملة للتجار فنهض الاقتصاد الانكليزي نهضة واسعة، وتمكن التجار والصناع والملاحون من انشاء شركات كبرى ذات رؤوس اموال ضخمة وضعوها في البنوك وهم آمنون من ان الدولة لن تمد يدها الى شئ منها. بل اصبحت الدولة في خدمة هذا النشاط الاقتصادي الواسع الذي عاد على الملوك والدولة بموارد كبيرة من الاموال.

ولهذا نجد الاسطول االحربي البريطاني يضع نفسه في خدمة الاسطول التجاري البريطاني – – وفي احيان كثيرة كانت الدولة كلها وعلى راسها الملوك، تكرس جانبا كبيرا من قواها لمعاونة التجار على فتح اسواق لمتاجرهم بهدف الاستيلاء على مناطق غنية بالمواد الخام الضرورية للصناعة والتجارة الانكليزية. وكسب الناس حرية الحركة وحرية العمل وحرية القول – وهذه الحريات كانت اكثر ما بهر عقول رجال الفكر الفرنسيين من امثال فولتير وروسو – – فقد ادركوا دون صعوبة ان الازدهار المادي الذي كانت تتمتع به انكلترا كان قائما اساسا على الحريات وشعور الامان وانحسار سلطة الدولة ورجال الدين، مما ادى الى انتقال مركز الثقل في المجتمع الى الطبقة الوسطى من مياسير البرجوازيين ومساتيرهم – اي ان ذلك الازدهار تم في اطار رأسمالي كما قلنا.

* مقتبس من كتاب الحضارة لمؤلفه الدكتور حسين مؤنس.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here