طَرق على الجدار -1

(موقف الطاغية هو موقف ذلك الذي يقطع شجرة لكي يقطف ثمرة) مونتسكيو

المتابع لما ينشر في مختلف وسائل الإعلام من مواقف النخب والشارع العراقي والعربي ، والتي تتعلق بالحكام والأنظمة الدكتاتورية ، يراها بعيدة عن الصواب ، لأكثر من سبب لا مجال لذكرها هنا . وبدلا من أن تسلط الضوء على جوهر أنظمة الاستبداد ، باختلاف مسمياتها ، وهو الانفراد بالسلطة والقرار ، وبالتالي قمع الرأي الآخر المعارض ، يراها تبتعد وتلجأ إلى تبرير الدكتاتورية وتحسينها بمفردات رطانة خطابية مع ذكر الصفات الشخصية الإيجابية للديكتاتور ، لتوحي بأن الدكتاتور ينفرد ويتميز بها على غيره ، وكأنها المؤهلات المطلوبة لتولي مسؤولية الحكم ، أو بما تنسبه له من إنجازات ، وتجهل أو تتجاهل أن الكثير إن لم يكن أغلب الدكتاتوريين لهم انجازاتهم أيضا . أو تطالب وتدعو لتقدير ظروف الحدث ، وهذا المبرر دائم التكرار ، رغم أنه عاجز عن استبعاد وصمة الدكتاتورية .

في هذا المقال الذي حرصت على ترجمته بعض المعلومات ، منها الصفات الشخصية لسالازار وبعض إنجازاته ، وأيضا مدى شعبيته ، والتي لم تمنع أن يوصف شخصه ونظامه بالدكتاتورية . آمل أن يكون فيها ولو شيئ من الفائدة ، وتساعد في تصحيح العيب في الموقف من الطغاة حيثما كانوا .


محمد ناجي


(سيرة شخصية) جديدة تتحدث عن سالازار الفاشي المختلف



في العام الماضي 2020 مر 50 عام على وفاة ديكتاتور البرتغال أنطونيو سالازار ، الذي حكم البلاد لمدة 36 عام ، وهي أطول مدة حكم لدكتاتور في أوربا في القرن العشرين . هنريك برانداو يونسون (1) قرأ كتاب عن سيرة شخصية جديدة عن السياسي المتقشف ، الذي لا تزال أعماله تثير نقاش محموم .


القصيدة الاولى لـ(توماس ترانسترومر) (2) التي تركت أثرها في نفسي كانت ” لشبونة ” والتي نشرها الشاعر في ديوان (اصوات وسكة) عام 1966 .


في حي الفاما غنّت عربات الترام الصفراء /

على الطريق المرتفع /

هناك يوجد سجنان . أحدهما للصوص /

ها هم يلوحون بأيديهم من خلال قضبان النافذة /

يصرخون يريدون من يصوَّرهم ! /

” لكن هنا ” قال بائع التذاكر بـضحكة مكبوتة مثل انسان منكسر /

” هنا يوجد سياسيون” . انا شاهدت الواجهة ، الواجهة ، الواجهة /

وفي الأعلى هناك نافذة وشخص يقف معه منظار ويتطلع باتجاه البحر .


البناية التي يقصدها ترانسترومر هي سجن اليوبه ، مقابل الكاتدرائية في لشبونة ، هناك وضع الدكتاتور سالازار المعتقلين السياسيين . قبل خمس سنوات تحول السجن إلى متحف المعارضة لنظام دكتاتوري حكم أطول مدة في أوروبا ، امتدت من 1926 ولغاية 1974 . الجزء الأكبر من هذا الوقت – 36 عاما –  حُكمت البرتغال من قبل أستاذ الاقتصاد الدكتاتور أنطونيو دي أوليفيرا سالازار . أن لايجري الحديث عنه بنفس القدر عن بقية الفاشيين الآخرين – موسوليني وفرانكو – لا يعود فقط إلى نسيان ذكر البرتغال في التقارير التي تكتب عن جنوب أوروبا ، بل بالرغم من وجهه الشبيه بالطيور الجارحة ، كان من الصعب وضعه معهم . كان فاشيا مختلفا .


بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته أصدر المؤرخ الاسكتلندي توم كالاگر كتاب “سالازار – الدكتاتور الذي يرفض الموت” ، وهذه أول سيرة ذاتية شاملة عن الدكتاتور تكتب باللغة الانكليزية . ومنذ بداية الفصل عن الحرب العالمية الثانية ، يبين الكاتب الفرق بين أعمال فرانكو المؤيد لهتلر وبين سالازار ، الذي اتبع موقفا أكثر قربا من موقف السويد ، فكان يبيع المعدن الخاص بصناعة اسلاك التنگستين للصناعة الالمانية ، وفي نفس الوقت سمح للحلفاء باستخدام جزر الأزور كقاعدة للتحري عن الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي .

لعب سالازار دورا في إنقاذ اليهود ، ليس فقط بتوفير امكانية هروب المئات منهم من جبل طارق إلى جزيرة ماديرا ، بل أنه فسح المجال لمبعوثه إلى بودابست – الدبلوماسي كارلوس دي ليز تيكسيرا برانكوينهو – وأطلق يده للقيام بنفس العمل الذي قام به الدبلوماسي السويدي راؤول فالينبري . وخلال خريف 1944 أنقذ الدبلوماسي اكثر من الف يهودي من معسكرات الاعتقال بواسطة تزويدهم بوثائق سفر برتغالية .


السيرة الشخصية القت ضوء جديد على سبب حدوث حرب المستعمرات في أفريقيا ، التي وقعت ما بين سنوات 1962-1974 في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو . فعندما اندلعت انتفاضة الاستقلال في شمال أنغولا طلب الرئيس الامريكي جون كندي من البرتغال بأن تغادر المستعمرات ، والا فان الولايات المتحدة ستطرح القضية في مجلس الامن التابع للامم المتحدة وسوية مع الاتحاد السوفييتي تطالب بانسحاب البرتغال من المستعمرات . شعر سالازار بالجنون ، فهو يرى المستعمرات كجزء من الجسد البرتغالي ولا يمكن أن تقطع جزءا من الجسد . في اليوم التالي لتصريح كندي جمع الديكتاتور عشرة آلاف متظاهر خارج سفارة الولايات المتحدة وهم يهتفون ( أمريكا لسكانها الأصليين) .

وكان لدى سالازار الورقة الرابحة في كُم معطفه . فمنذ بداية الحرب العالمية الثانية سمحت البرتغال للولايات المتحدة بوجود قاعدة جوية في جزر الأزور . والاتفاقية تُجدد كل خمس سنوات ، واذا استمرت الولايات المتحدة بالتدخل بالمصالح البرتغالية في أفريقيا فسوف لن يجدد سالازار الاتفاقية ، وحينها ستفقد الولايات المتحدة أهم قاعدة من قواعدها الجوية خلال الحرب الباردة . لعب سالازار أوراقه واستخدمها بقوة وبمستوى عالي وربح . ومن ذلك الحين لم تذكر الولايات المتحدة حرب المستعمرات البرتغالية ولا بكلمة واحدة ، وهي لاتزال باقية حتى اليوم في قاعدة لاجيس الجوية في جزر الأزور . هذه التسوية الجيوسياسية كانت على حساب أرواح مئات الآلاف من البشر في افريقيا ، واجبرت عشرات الآلاف من البرتغاليين على الهرب من البلاد لينجو من الخدمة العسكرية .


أحد الاعتراضات على السيرة الشخصية هو أن الكاتب گالاگر لم يخصص مساحة كافية لنتائج حرب المستعمرات ، وكتب أن البرتغال فقدت 8.290 جندي في الحرب ، وقارنها مع عدد ضحايا حوادث السير ، التي بلغت 9.694 شخص بين سنوات 1990-1994 . لقد شعرت بالاستفزاز من هذه المقارنة . كما لم يذكر المؤلف في أي مكان (من الكتاب) عدد الضحايا الأفارقة ، ولم يذكر أيضا أن ما بين 120.000 – 140.000 برتغالي لا يزالوا يعانوا من الآلام والآثار البدنية والنفسية لما بعد الحرب .


سالازار كان ذو شخصية قريبة من التوحد ، وكان صارم ، ومتحفظ ، ولا يملك سكن خاص به . ملكيته الوحيدة بيت ريفي لا يساوي كثيرا . كان مثل الرئيس مازاريك أول رئيس لجيكوسلوفاكيا – سياسي متقشف ، ذو موقف بعيد عن مظاهر الفخامة والترف والمنفعة الشخصية . وهو لم يتزوج ولم يكن له أطفال او عشيقات . الشخص الأقرب له كانت المسؤولة عن ادارة شؤون المنزل ماريا دي يسوس ، وعلاقة الحب الوحيدة لديه كانت مع الصحفية الفرنسية كريستين غارنييه التي ألفت كتاب ” عطلة مع سالازار ” ، بعد عطلة نهاية أسبوع قضتها معه في بيته الريفي .


وفاة سالازار لم تكن مثيرة أيضا . قبل ظهر يوم 3 آب/أغسطس 1968 استلقى على كرسي الاستلقاء للتشمس ، الذي تحطم وسقط على ارضية الشرفة في القلعة التاريخية في المنتجع البحري استوريال ، الذي كان مقر إقامته الصيفية . ارتطم رأس سالازار بالأرض ، وأصيب بجلطة دموية وبعدها بنزف في الدماغ ، وفقد النظر بإحدى عينيه ، والشلل في احدى ذراعيه . على إثرها سلّم السلطة إلى أستاذ جامعي وقانوني مخلص له . بعدها بسنتين في 27 تموز/يوليو 1970 توفي سالازار وهو بعمر 81 سنة . وعندما حققت الدولة في تركته وجدوا أن له مبلغ لا يساوي أكثر من قيمة شقة بثلاث غرف في لشبونة في ذلك الوقت .


 قبل 13 عام عرض RTP (راديو وتلفزيون البرتغال) مسلسل وثائقي عن شخصيات البلد التاريخية ، حيث صوت المشاهدون وبفارق كبير لصالح سالازار فكان (البرتغالي الأكبر على مر العصور) ، وجاء بالمركز العاشر فاسكو دي غاما . هذه النتيجة تفصح عن علاقة غير عادية يكنها البلد للدكتاتور المتوفى .

رغم أن البرتغال هي إحدى البلدان القليلة في أوروبا التي تديرها حكومة اشتراكية ديمقراطية منذ عام 2015 ، مع ذلك لا يزال ظل سالازار موجود ، والبعض يراه أب البرتغال ، بينما يرى آخرون أنه كان جلادا ، وفي سجن اليوبه ، الذي كتب عنه ترانسترومر قصيدته ، كان شرطة الأمن PIDE  يعدموا او يعذبوا آلاف المعتقلين السياسيين .


عندما زرت المتحف في الخريف الماضي اعجبني المظهر الحديث للمعرض وسألت موظف الاستعلامات عن انطباع جيل الشباب عن المتحف ، فأخبرني أن غالبية طلاب المدارس معجبون بالمعروضات ، لكن غالبا ما يظهر أحد الطلاب ويقول أن المعرض مزيف ، أحدهم قال لي : ” سالازار كان رجل جيد ” ، سألته : ” كيف عرفت ” أجاب : ” هذا ماقالته جدتي ” .


هوَس الحنين لسالازار في الفترة الأخيرة أثار جدل ساخن في البرتغال . الذي أشعل فتيل النقاش كان مقترح لتأسيس متحف في كومبا داو مسقط رأس سالازار في وسط البرتغال . الفكرة كانت أن المدرسة التي درس فيها كطفل ، أرادت عرض الحاجات الشخصية للدكتاتور ، وخوفا من أن يتحول المتحف إلى مكان يحج إليه الفاشيين ، وقّع 11.000 برتغالي على نداء طالبوا فيه بوقف المخطط . استمر النقاش ووصل إلى البرلمان حيث شكلت لجنة . أحد الأعضاء من الحزب اليميني PSD  دافع عن المشروع :” الذاكرة مهمة ، كلاهما الجيدة والسيئة ، كليهما ينبغي أن تُتذكر ” . كلماته جعلت رئيسة اللجنة ، التي تنتمي للحزب الاشتراكي PS ، أن تقول بتهكم ” عندما كنت مؤخرا في ألمانيا لم اشاهد اي متحف تذكاري للنازية .


الحنين لسالازار استدعى بالمقابل ما كان مكبوتا لدى الكثيرين ، ومنها أن موقفه المعادي للتعليم هو السبب في أن البرتغال لا تزال أكثر بلدان غرب أوروبا تهميشا – مع أدنى مستوى للأجور . فسالازار لم يريد ان يكون البرتغالي ذكيا . في احدى المقابلات  قال “الكثير من أي شيء ، غالبا ما يسبب الفساد” . دولة سالازار الجديدة (3) خلقت جو رمادي منقبض ، جعل البلد وكأنه أشبه بموقع امامي لدول أوربا الشرقية في شبه جزيرة ايبريا ، فأكثر من نصف مليون برتغالي ، ربع السكان تقريبا هربوا من دكتاتوريته . اكثريتهم ذهبوا إلى فرنسا ، لهذا تسمى باريس ثاني أكبر مدينة برتغالية .


عندما تركت سجن اليوبه ، الذي يسمى حاليا متحف المقاومة والحرية ، حجزت سيارة تكسي سائقها مولود بعد ثورة القرنفل عام 1974 . عندما عبرت عن أسفي للتعذيب الذي حدث في السجن حدّق في المرآة الأمامية ونظر إلي قائلا :

  • لكنهم كانوا شيوعيين !

حين يدافع الذين نشأوا في ظل الديمقراطية عن سالازار ، فهذا يشير إلى أن البرتغال هي أيضا أصيبت بحالة الاستقطاب السياسي في الوقت الحاضر ، وكل شخص يختار المعلومات التي تناسبه .


هنريك برانداو يونسون


صحيفة (داغنس نيهتر) السويدية  27 – 12 – 2020



( الملاحظات والروابط إضافة من المترجم م.ن. )

1- هنريك برانداو يونسون مراسل الصحيفة في اميركا اللاتينية .

2- توماس ترانسترومر 1931-2015 شاعر سويدي ونفساني ومترجم .

3- الدولة الجديدة أو الجمهورية الثانية هي التي أعلنها سالازار عام 1933 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here