المجتمع العراقي بين ثقافة الأعتذار ولغة العنف

المجتمع العراقي
بين ثقافة الأعتذار ولغة العنف

علاء كرم الله

أرى أن الثقافة هي العنوان الأبرز والأساس لكل تطور وتقدم بالحياة، فلو بحثنا عن أسباب تفوق وتقدم دول أوربا عن باقي دول العالم لوجدنا أن ثقافة شعوبهم كانت أساسا متينا والعامل الأقوى لذلك التطور. وتعد ثقافة الأعتذار واحدة من أهم الثقافات الأنسانية والمجتمعية الأخرى، كما وأن الثقافة الحقيقية بشكلها العام تطهر نفس صاحبها من الأنانية والغرور وحب الذات وتزرع فيه كل قيم الخير والمباديء الأنسانية. فالمثقف الحقيقي لا يعرف الطائفية ولا العشائرية ولا المذهبية، ولا يؤمن بالعنف كحل لمشاكل الحياة التي تواجهه، كما أنه يكون مخلصا شريفا نزيها صادقا يحب للغير كما يحب لنفسه، كما أن الثقافة تقوي عزيمته أمام الفساد مهما كانت الأغراءات ومهما كثرة الضغوط عليه. وقد يتفق معي الكثيرين بأن أكثرية هذه الصفات والقيم تجدها مغروسة لدى الغالبية العظمى من شعوب أوربا ولهذا دائما ما تتصدر هذه الدول قائمة الدول النظيفة من الفساد ( الفساد فيها يكاد يكون صفر)!، كما أنها دائما تتصدر قائمة الدول الأكثر سعادة في العيش، فهل سمعنا في الدانمارك على سبيل المثال أو النرويج أو سويسرا أو النمسا أو اليابان أو ألمانيا فضائح فساد كالتي نسمع عنها في دولنا العربية وتحديدا في العراق!، التي دائما تتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا وكذلك الأكثر سوء في العيش على مستوى العالم، أستثناء من بعض دول الخليج . وهنا لا بد من الأشارة بأن كل هذه القيم وغيرها الكثير هي القيم التي بشر ونادى بها أسلامنا العظيم، ولهذا قيل وعلى لسان أحد كبار فقهاء المسلمين الأمام (محمد عبدة) الذي زار باريس عام 1881 لحضور مؤتمر هناك بأنه (وجد في أوربا الأسلام ولم يجد المسلمين!). أعود الى مجتمعاتنا العربية وتحديدا مجتمعنا العراقي، فيبدوا أن قساوة الصحراء وجفوتها وأرث الجاهلية لازالت تضرب بأطنابها فينا، ولا زالت متجذرة في جيناتنا وأمتزجت معها التقاليد البالية من موروث التخلف عبر السنين التي مرت علينا، وموضوع الكرامة والعزة بخشوم الرجال! وغيرها من هذه الصفات والمظاهر الصوتية!، في حين أن الحقيقة تقول بأنه لم يذل أنسان وتمتهن كرامته وتدمره آفة الجهل والأمية والمرض بقدر الأنسان العربي ومن قبل حكامهم وقادتهم تحديدا! والعراق ولبنان وسوريا واليمن ومصر وليبيا والسودان والجزائر والمغرب وتونس خير مثال على ذلك!!. أمام كل هذه الحقائق الدامغة، لا أدري لماذا يرى غالبية العراقيين بما فيهم المتعلمين والذين يدعون الثقافة والمعرفة!، أن في الأعتذار أمتهان وتنازل عن كرامته المسلوبة أصلا!، وهو يعرف ومتيقن تماما من أن كرامته ليست في مأمن من الأمتهان، في أزدواجية نفسية فكرية غريبة عجيبة!، ورغم أنه يعرف أنه على خطأ وعليه أن يعتذر ولكنه لا يفعل ذلك!. فتحن لم نتعلم لحد الآن ولم نعي بأن الأعتذار هو قمة الثقافات كلها وتدل على رقي صاحبها أضافة لطيبته وحبه للسلام والخير، وأن الشخص الذي سرعان ما يعتذر أذا أخطأ سيكسبه ذلك الأعتذار مهابة وأحتراما بين الحاضرين ويكبر في نظرهم!، ألا ممن في قلوبهم مرض حيث يرون في الأعتذار الضعف والجبن!، وهؤلاء أن دققت فيهم أكثر تراهم هم أساس البلاء وأساس كل مشكلة وعقدة وفشل في كل مناحي ومفاصل الحياة!. ومع ذلك فأنا ألتمس العذر للعراقين في ذلك!، فلا أعتقد أننا سمعنا وفي كل مراحل دراستنا من الأبتدائية وأنتهاء بالجامعية مرورا بالمتوسطة والأعدادية، أن تطرق لنا أحد معلمينا يوما أو سمعنا من مدرسينا مصادفة، من علمنا وشرح ووضح لنا ماذا يعني الأعتذار عندما يخطأ أحدنا بحق الغير؟. في حين أنه وفي اليابان ضمن تقليد أساسي ونهج أخلاقي وتربوي يسيرون عليه يقوم الأساتذة بدأ من مدير المدرسة الى بقية المعلمين والمدرسين بالأشتراك مع كل التلاميذ أسبوعيا كتفا بكتف ويد بيد، للقيام بتنظيف المدرسة وغسلها بما فيها الحمامات والمغاسل!، ليعلموا الجيل الجديد ثقافة التواضع وعدم الكبرياء الأجوف!، وبالمقابل يقوم الطلاب في نهاية العام الدراسي ضمن نفس النهج الأخلاقي والتربوي بغسل أرجل الأسلتذة وهم جالسين على الكراسي ليعلموهم ثقافة أحترام العلم والمعلمين وتقديسهم)!. وهنا لا بد أن نؤشر وبشكل واضح أنه، ومنذ ثمانينات القرن الماضي ( الحرب العراقية الأيرانية) والخط البياني للثقافة بالعراق ، بكل صورها وأشكالها أخذ بالأنحدار والنزول، حيث أختزلت كل الثقافات بثقافة واحدة هي ثقافة الحرب والدفاع عن الوطن التي غرست في أجيالنا روح القساوة من حيث لا يعلمون!، فتم أهمال كل شيء وصار أبنائنا وهم في مراحل الدراسة الأبتدائية، يتعلمون ثقافة الموت وسماع الرصاص والأطلاقات النارية وأناشيد الحرب والموت وتحديدا يوم الخميس في رفعة العلم!، عند الأصطفاف الصباحي وصار هذا نهج الدولة في تربية وتعليم أبنائنا، بدل أن تعلمهم الموسيقى والأناشيد الطفولية الصباحية البريئة!. ومع الأسف الشديد أزداد سرعة أنحدار الخط البياني للثقافة بعد الأحتلال الأمريكي اللئيم للعراق ووصل العراق الى ما وصل أليه، فصارت لغة السلاح هي البديل عن لغة التفاهم في أية مشكلة تحدث، وصار لا يمر يوم ألا ونشهد تراشقا وتبادلا مرعبا رهيبا، بكل أنواع الأسلحة بين عشيرتين على أية مشكلة صغرت أم كبرت!. أما تقبل الأنتقاد من الآخر وهي تحتاج أيضا الى ثقافة وفهم خاص فتلك الأصعب عندنا، والتي من المستحيل قبولها لدى الكثير الكثير من العراقيين،! رغم أننا نؤكد على عدم توجيه النقد للشخص المخطيء أمام الآخرين لكي لا يتم أحراجه، فكلما كان توجيه النقد منفردا مع الشخص المخطيء، كلما كان النقد مجديا أكثر ويكون فعلا من أجل الأصلاح والبناء الأنساني. فكم من مشاجرات وخصام حدثت بين الأصدقاء والجيران وحتى بين الأخوة بسبب عدم المبادرة والأعتذار والأعتراف بالخطأ وعدم تقبل الآخر للنقد!. أخيرا أقول : أن أمنياتنا كثيرة في بلد ضاع فيه كل شيء، وأصبحت أمانينا ضالة منسية!، ومع ذلك أتمنى أن يستيقظ الضمير الأنساني لدى حكومتنا وطبقتنا السياسية الحاكمة ويعيدوا قراءة المشهد العراقي بشيء من الرحمة والأنسانية بعيدا عن أية أطماع سياسية وفئوية وحزبية وقومية ومذهبية وعشائرية وشخصية ضيقة، محاولين غرس هذه القيم والثقافات الأنسانية في مجتمعنا وفي مدارسنا وتحديدا وتأكيدا من المراحل الأبتدائية في محاولة لنشر لغة التسامح والمحبة والأعتذار والعفو وتقبل النقد البناء بدل ثقافة ولغة العنف ولغة العشيرة والمذهب والطائفة التي صارت ومع الأسف سمة مجتمعنا. ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here