معايير نشوء المدن الكُردية القسم الثاني

أ.د. فرست مرعي

تفسير نشوء المدينة

استناداً الى تقسيمات العلماء الاجانب للمدن، فان المدينة الكوردية كغيرها من المدن الاسلامية لا تخرج عن التقسيمات التي درسوها بشأن السمات المحددة لمنطقة ما كي تكون مدينة.

ومن المظاهر الاجتماعية والمدنية في العصور الوسطى نجد ظهور المدن الاوربية. وتعد المدن من العلامات البارزة التي أحدثت ثورة في العصور الوسطى في الميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم تكن المدن في العصور الوسطى امتداد للمدن القديمة في العصر الروماني بل هي مدن جديدة النشأة والتأسيس، ذلك أن المدن القديمة تحولت إما إلى مدن مهجورة أو إلى مدن ذات مركز ديني مثل رومـا.

ومن بين الآراء والتفسيرات التي تتناول هذا الموضوع، رأي يرجع أصل المدينة الى وجود القلعة Castle أو البرج Burg أو Bourougd ، وملخص هذا الرأي يتضمن بأن شاغلي هذه المراكز المحصنة كانوا يستغلونها في حالات الحروب أو الخوف من أي هجوم خارجي. فالمدينة على هذا الاساس عبارة عن قلاع اتخذت أماكن للسكن في الحالات الاضطرارية، لذلك يعلل أنصار هذه النظرية العسكرية (Military Theory) بناء الاهالي للقلاع والأسوار وحفر الخنادق زيادة في التحصين ودفع مخاطر الاعداء.

ومما تجدر الاشارة اليه ان التفسير العسكري لنشوء المدينة له صلة كبيرة وفق التفسير السياسي، حسب ما يراه العالم الاقتصدي – الانكلو – أمريكي كينيث إيوارت بولدينج (1910 – 1993م) ذلك التفسير الذي يبين إن الناس من تجار وحرفيين كانوا يجتمعون في هذه الحصون والقلاع لأجل حماية أنفسهم وتجارتهم من خطر الغزوات والهجمات، وبمرور الزمن تتزايد أهمية ذلك الموضوع بزيادة حجم التبادل التجاري، فيتحول إلى مدينة. والمدينة السياسية عند أنصار التفسير السياسي تعد من أقدم أنواع المدن وأكثرها وضوحاً. Kenneth, Bolding: The death to the city. P.133كينيث إيوارت بولدينج، موت المدينة، 1963، ص133.

وفي مقابل هذين التفسيرين هناك رأي للمؤرخ البلجيكي هنري بيرني Henri Berneh (1862-1935م) المعارض، فان بيرني المتخصص بالمدن التجارية رد على تلك الآراء بقوله: إن مدينة القلعة أو مدينة الحصن لا تتوفر فيها خصائص المدينة، وهي في حقيقتها مدينة أساقفة لا تحتوي إلا على مؤسسات أسقفية

دينية، والمهم هو ما ينشأ حول هذه الحصون والقلاع من مراكز وتجمعات تجارية حيث يجتمع التجار خارج الأسوار مستفيدين من الظروف الاقتصادية والجغرافية كمرور طرق القوافل. وهنا وعلى امتداد هذه الطرق تنبثق بعض المراكز التي تمثل مراكز مرور أو ترانسيت، فتتحول إلى مدن تجارية خارج أسوار القلاع، فالمدينة وفقاً لهذا التفسير هي مجمع التجار بالدرجة الأساس.

وعلى أية حال فليس بالإمكان اتخاذ أي نظرية محددة من نظريات نشوء المدن أساساً لبحث المدينة الكوردية، ففي كل نظرية جانب من الواقع يظهر في مدينة أو في عدة مدن، وقد يختفي في أخرى ، أو قد يعظم في فترة من الفترات، ويتضاءل في فترات تالية. فالذين حاولوا تفسير المدينة الإسلامية بصورة عامة بأن أصلها ديني أو عسكري أو سياسي أو تجاري أو محطة نقل، أو حاولوا فهمها بنظرية الإيكولوجي التي تركز على الأمور الداخلية، أو أنها تراكم سكاني لا أكثر قد جهلوها.ينظر: شاكر مصطفى: المدن في الإسلام حتى العصر العثماني، الكويت الطبعة الأولى، 1988، الجزء الأول، ص17. Weber, Max: The city, New York, P.8.

وربما كنا في حاجة إلى نظرية خاصة كردية تبرز مكانة المدينة الكردية في التطور الحضاري الإنساني، وندرسها بذاتها كوحدة عضوية حضارية متميزة.

معايير تحديد المدينة

مما لاشك فيه ان الاختلاف في تفسير نشوء المدن القى بظلاله على المعايير التي تبناها علماء الحضارة لتحديد مرتبة هذا الموضع وذاك المكان من الناحية التمدنية، وقد انعسكت هذه الاختلافات في مسألة تعريف المدينة، فما الذي يعنيه هؤلاء بالمدينة؟ فمن بين التحديدات التي توصل اليها المتخصصون الذين يميلون الى نظرية السكان والعوامل الاقتصادية، هناك تعريفات ثلاثة آنية صاغها العالم الالماني ماكس ويبر::

1. المدينة هي المكان الطبيعي للفرد المتمدن المتخصص وذلك لأنها تمثل رقعة حضارية خاصة.

2. المدينة هي أي مكان مستقر ينشغل فيه أكثرية شاغلية بانماط انتاجية غير زراعية.

3. المدينة هي أي مكان محدد من الأرض يجتمع فيه الناس من مختلف الأجناس، وان تكون نسبة تجمعهم كثيفة.Weber, Max: The city, New York, P.8.

لم ترضى هذه التعريفات أنصار النظريات الأخرى فأضاف بعضهم مسائل النقل والمواصلات معتقدين انها تعتبر القاعدة الاساسية في التمييز بين المدن عبر المراحل التاريخية، فبينما صارت بعض المراكز مدناً لكونها في الاساس مؤسسات دينية أو لكونها قلعة أو حصناً، فان هناك بالمقابل مراكز اخرى قد تحولت الى مدن بفعل موقعها من وسائط النقل أو طرق المواصلات، كأن تكون واقعة على نهر أو بحر على طريق مرور القوافل البرية والنهرية.

حدث التحول الرئيس للمدينة ما قبل الصناعية مع قيام العالم الصناعي، وجاءت المدن الجديدة نتيجة

لاجتماع التغير التقني وخلق نظام اقتصادي جديد، نظام لا يعتمد على التجارة، بل على تكوين الثروة من خلال استخدام رأس المال. وقد شهد القرن التاسع عشر نشوء شكل جديد من التمدين، هو المدينة الصناعية. فحمل ١٣ مدينة رئيسة في منظومة المدن العالمية على شكل ع – من بينها ُ هذا مجموعة جديدة من المدن إلى المقدمة، مانشستر، وشيكاغو، وديترويت، وبتسبورغ، ومدن منطقة الرور في ألمانيا (إيسن، ودورتموند)، وشمال شرق، كانت لندن عام ١٨٠١ هي المدينة الوحيدة التي يزيد عدد سكانها على ١٠٠٠٠٠ نسمة، وكان هؤلاء يشكلون ٧.٤ %من سكان المملكة المتحدة. وكانت لندن أيضا في ذلك الوقت أكبر مدينة في أوروبا. وفي عام ١٩٠١م، أي بعد مائة سنة، كان هناك خمس وثلاثون مدينة يزيد عدد السكان في كل منها على ١٠٠٠٠٠ نسمة، ويشكلون ٩.٢٥ %من السكان. وقد حدث النمو بسرعة أكبر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي فرنسا (كمدينة ليل). كان نشوء هذه المدن الصناعية سريعا.

أما عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر(1864 – 1920م) فكجزء من جهوده الشاملة لفهم التطور الفريد للعالم الغربي أنتج دراسة عامة مفصلة للمدينة كموقع مميز للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والترتيبات السياسية، والأفكار التي جاءت في النهاية لتعريف الغرب. نتج عن ذلك دراسة بعنوان “المدينة” ، والتي ربما قام بتجميعها من بحث أُجري في 1911-1913م، نُشرت بعد وفاته في عام 1920م، وفي عام 1924م ، تم دمجها في الجزء الثاني من كتابه (الاقتصاد والمجتمع)، باعتباره الفصل السادس عشر ، “المدينة (الهيمنة غير الشرعية)”.

وفقًا لـ فيبر، فإن المدينة كمنظمة مستقلة سياسيًا للأشخاص الذين يعيشون على مقربة من بعض، ويعملون في مجموعة متنوعة من الحرف المتخصصة، ومنفصلون جسديًا عن المناطق الريفية المحيطة، تم تطويرها بالكامل فقط في الغرب وشكلت إلى حد كبير تطورها الثقافي.

ومن جانب ووفق مفهومه، يرتبط أصل الأخلاق الدنيوية والعقلانية في الغرب بظهور المفكرين والأنبياء … الذين تطوروا في سياق اجتماعي كان غريبًا على الثقافات الآسيوية. ويتألف هذا السياق من المشكلات السياسية التي أحدثتها مجموعة الوضع البرجوازية في المدينة والتي بدونها لا يمكن تصور لا اليهودية ولا المسيحية ولا تطور الفكر الهلنستي.

وجادل فيبر بأن اليهودية، والمسيحية المبكرة، واللاهوت، ثم الحزب السياسي والعلم الحديث، كانت ممكنة فقط في السياق الحضري الذي وصل إلى تطور كامل في الغرب وحده. كما رأى في تاريخ المدن الأوروبية في العصور الوسطى ظهور شكل فريد من “الهيمنة غير الشرعية” التي تحدت بنجاح الأشكال الحالية للهيمنة الشرعية (التقليدية، والكاريزمية، والعقلانية القانونية) التي سادت حتى ذلك الحين في العصور الوسطى في العالم، استندت هذه الهيمنة الجديدة على القوة الاقتصادية والعسكرية العظيمة التي كان يمارسها المجتمع المنظم لسكان المدن، وباعتبارها مراكز ارتباط حيث تتجمع فيها عدة أطراف ينظر: Max Weber, The City, P.18.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here