كيف تتكون الاخلاق والأذواق ؟

كيف تتكون الاخلاق والأذواق ؟ * د. رضا العطار

العقل الباطن هو العامل المهم في تكوين الأخلاق والأذواق . وذلك لأن العقل الواعي هو عقل المعرفة والتجربة والبرهان، اما العقل الباطن فهو عقل ألأيمان و العقيدة.
ان المعرفة المنطقية لا تحدث الاّ اضعف العواطف. بل هي تكاد تكون معدومة العواطف اذا قيست بالعقيدة التقليدية التي تبعث في النفس اقوى العواطف.

ان العواطف هي المحرك للأخلاق والباعث على النشاط. ويكفي ان يلقي الانسان نظرة على القبائل العربية التي عاشت دهورا طويلة في صحراء جزيرة العرب لم يسمع بها احد زمن الجاهلية، حتى فارت فورتها الهائلة عند بزوغ فجر الاسلام، متجهة باتجاه الدول المجاورة. كل ذلك حدث بقوة العاطفة الدينية التي اوجدتها العقيدة.

وكذلك الذوق ينشأ و يتكون في العقل الباطن. فنحن نحاكي من حولنا العادات، ونقتدي بأقرب الناس الينا، نرى مثالها يتكرر امامنا كل يوم. ونؤمن بالدين الذي نلقنه في صغرنا. ونلبس لباس العصر الذي نعيش فيه. ونأكل اطعمته على الطريقة التي نراها في غيرنا ونحن صغار. فكل هذه الشؤون انبثقت من العقل الباطن .

وللمركبات تأثير كبير في الأخلاق. ومركب النقص كثير الانواع. فقد يكون اصل الوقاحة في احد الاشخاص هو شعوره بنقص ما في رجولته، فيعوض هذا النقص بوقاحة الكلام او اثارة المشكلات و التحرش بالناس، خاصة بجنس النساء . وذلك بهدف احداث التوازن في نفسه. واحيانا نرى الفتاة التي تقدمت في السن، ولم تتزوج، تبالغ في الحياء والأحتشام. هذا لأنها تحس ان كرامتها الجنسية مهانة. فهي تعمد الى هذه الدعوى بأنها لا تفكر البته في المسائل الجنسية. وانها تستنكر كل ما يوهم بالتعارف الجنسي.

ويعزو الأديب الفرنسي – اناتول فرانس – اندفاع نابليون بونابرت الى الحروب والفتوحات الى ما كان يحس به الامبراطور من نقص في رجولته. قوله :
كان هذا الرجل قليل الرجولة. وما على المستطلع الاّ ان يقرأ تقرير الأطباء الانكليز الذين شرّحوا جثّته. فقد تولتهم العجب من المنظر الأنثوي لجسد نابليون. وما كان طول حياته يعبأ بالنساء. وانما كان يعشق امرأة واحدة فقط هي الحرب. فهو كسائر الجبابرة الطغاة سلب الدنيا راحتها.

اتعرف لماذا وضع جان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي الشهير كتابه (العقد الأجتماعي) لأنه كان ساخطا على الدنيا، يريد ان يشعل النار في كل مكان ويحرك اذهان كل شعوب الارض. ومركب النقص هذا في نابليون وجان جاك روسو جعل كلا منهما نابغة ، بل عبقريا .

فخلال السنين الأولى من حياة الطفل تغرس في عقله الباطن استغراضات تلازمه طيلة حياته، فهي تطبع ذوقه وتصوغ اخلاقه. فالطفل الذي يخشى أباه يخاف جميع الناس عندما يشب. ويبدو هذا الخوف في هيئة حياء وخجل كلما واجه رجلا غريبا يشبه والده.

وقد تحدث حوادث في الطفولة تجعل الطفل عندما يكبر يكره اشياء كثيرة لا يكرهها عامة الناس. مثل ذلك مثل الشاب الذي نشأ على كراهة التبغ، منذ سن الطفولة. لأن خادمه الذي كان يكرهه، كان يدخن اعقاب السيجاير المتخلفة من الضيوف. او ذلك الرجل الذي يخاف ويكره القطط لأن قطا قد اغار عليه وهو طفل افزعه وخطف ما كان في يده .

يؤدي احيانا النزهة القصيرة في الريف وما يلازمها من سرور، سببا في ان ينشأ الطفل وهو يحب حياة الريف. وقد يبدد امواله في قرية بعدئذ، بدلا من ان يستثمرها في المدينة . وكذلك الفتاة التي تستحسن من كان على صورة والدها، كما نشأ الفتى على استحسان من كان في صورة امّه. وحتى الطفل الرضيع، ينظر الى امه نظرة جنسية ضعيفة باهتة توازي في حسّه لذة الحليب. ويغار من ابيه عليها. فتنطبع صورتها في ذهنه. وتلعب هذه الصورة في مخيلته عندما يبلغ سن الرشد ويحين الوقت لأختيار زوجته. وكذلك الفتاة، فأنها وهي طفلة تغار من امها على ابيها وتنشأ على استحسان صورته.

والأخلاق والأذواق تتسرب الى العقل الباطن ايام الطفولة الاولى في البيت وبعدها في المدرسة. ولذلك فإن البيت مكان التربية، والمدرسة مكان التعليم. فشأن المدرسة ان تغرس في العقل الباطن للطفل مجموعة من المعارف . لذلك لا يستطيع التعليم ان يغير الاخلاق. فالمعارف المنطقية العلمية تحدث في النفس عواطف تدفع باتجاه مسلك خاص. وقد يكون اثر الصحيفة اليومية اكثر نفعا في صوغ الاخلاق والاذواق من المدرسة. لان في الصحيفة مبدأ التكرار الذي يغرس العقيدة في النفس ويحيلها الى عاطفة تعمل وتحرك الأرادة التي تنتهي بالفعل.

ولذلك فمن العبث ان نعلم الاخلاق عن طريق الكتب. فنقول للصبي مثلا يجب ان تكون صادقا كي يحترمك الناس، او يجب ان لا تتزوج اكثر من امرأة واحدة. فإن الاخلاق الفاضلة عادات يتعودها الانسان منذ عهد الطفولة من البيئة البيتية. وهي ليست معارف تحتاج الى برهان. وانما هي توحى الى العقل الباطن عن جملة وسائل.

وقد ادرك الاتراك زمن مصطفى اتاتورك مغزى هذه الحقيقة، فتركوا الطربوش واتخذوا القبعة مكانها. لان المحاكاة من الشروط الاساسية في الايحاء. فإذا حاكى التركي الاوربي في لباسه، حاكاه ايضا في اخلاقه. فينبذ عن نفسه التواكل الشرقي ويعمد الى العادات الاوربية ويصطنعها. فتنتشر حضارة جديدة في البلاد لا تجد مقاومة.
وقيمة اللباس في الايحاء واضحة عندما نتأمل الفرق في الاخلاق بين أخوين احدهما شيخ والأخر افندي , او حين ننظر الى السوري المتفرنج الذي يلبس القبعة والسوري الذي يلبس العمامة . فكلاهما من سلالة واحدة ولهما سحنة واحدة ولكن شتان ما بينمها في السلوك الأخلاقي .

واذا تأملنا سلوك الناس. وقفنا على البواعث التي تبعثهم على غير ارادتهم الى التفوه بالفاظ لم يقصدوها. او التحرك بحركات تبدوا لنا سخيفة. او اتخاذ لباس خاص او نحو ذلك. فهناك نيات مكبوتة في العقل الباطن تفلت احيانا خارج ارادتنا. وقديما كان الناس يتوجسون من الغلو في التعبد وذلك لان هذا الغلو ينطوي على غلو آخر في الاستسلام للشهوات. ومن اغرب ما يثبته التاريخ ان الرهبانية تفشت في العالم المسيحي خاصة في اوربا بعدما تفشت الرذائل والموبقات واطلق الناس شهواتهم من معاقلها. كما انه ليس من مجرد الصدف ان يقوم المماليك، رجال الحكم في مصر ببناء ابهى وافخم المساجد الاسلامية في القاهرة، مع انهم كانوا يقضون لياليهم الحمراء في اجواء نتنة من الموبقات متسمة بالفُجر والمجون حافلة بالمفاسد الاخلاقية.
* من أعمال الكاتب الاجتماعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here