لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! (*) في 5ح ، انشرها متتابعا ، ح1

لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! (*) في 5ح ، انشرها متتابعا ، ح1 د. رضا العطار

لقد انعم الله على شعب روسيا والعالم اجمع ثلاثة من الأدباء العملالقة. كانت تواريخ
رحيلهم متعاقبة, يفصل احدهم عن الاخر بنحو ثلاثة عقود. بدأها دستوفسكي عام 1881 , ثم تلاه تولستوي عام 1911, وغوركي الذي مات عام 1936.

كان تولستوي مثاليا ولم يكن ماديا. انه كان من طبقة النبلاء, لكنه رغم معارضة عائلته الشديدة, وزع املاكه الموروثة على فلاحيه, ثم انصرف الى تعليمهم القراءة والكتابة. طردته الكنيسة الروسية من حظيرتها لانه نظر الى الدين بعقله. وقال عن السيد المسيح انه لا يجد فيه غير رجل انساني عظيم.

يعتبر تولستوي ودستوفسكي هما اعظم كاتبين للقصة في العالم, لكن الاخير كان يتمرغل في الألم ويستلذ به . كان ابطال قصته شخصيات فذة, بل فلاسفة او مجرمون او حتى مجانين وكلهم اذكياء عباقرة. لكن عبقريتهم كانت في الاحساس اكثر مما هي في العقل, كما في قصة الجريمة والعقاب.

اما ثالثهم فهو مكسيم غوركي الذي يشترك معهم في النزعة الانسانية لكنه يفترق عنهما كونه اديب الثورة. ففي زمانه كان الشعب الروسي منقسما على نفسه, فمنهم من ينادي بان تبقى روسيا وفيّة لمبادئها الشرقية وآخر يطالب بالأخذ بأساليب الغرب. وهذا التردد اوقع الشعب الروسي في بلبلة, استغلها الرجعيون القيصريون واتباع الكنيسة. فكان القول بتحرير العبيد وتعليم المرأة والتفكير الاجتماعي في معاني الدين بل ايجاد برلمان للبلاد, يعتبر خيانة للمبادئ الشرقية الروسية.

ليس هناك قارئ عصري مستنير في اي بقعة في العالم يجهل احد هؤلاء الثلاثة.
و من بتأمل الثورة الروسية لا يجد مناحا من الاعتقاد بأن ادباء روسيا هم الذين زرعوا بذرتها وهيأوا النفوس لكي تفور فورتها على حكم القياصرة. ومن الناس من يعد الثورة الروسية شرّا ومنهم من يعدها خيرا. و الحكم متروك للقارئ. علما ان النظم الاجتماعية تقاس بنتائجها ومقدار ما يجنيه الناس من فوائدها الاقتصادية والكرامة الانسانية.

لا شك فيه ان ادباء روسيا هم الذين كشفوا حقائق الامور وهم الذين وصفوا مساوئ الفقر ومضاره الاجتماعية والصحية والثقافية والنفسية. خاطبوا القلوب والعقول. فأستناروا النخوة, فكانوا لثورة روسيا مثلما كان فولتير ورفاقه لثورة فرنسا وقد بقي من هؤلاء الادباء واحد هو مكسيم غوركي الذي رأى ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 بعينيه, والذي كان له اليد الطولى في احداثها.

نشأ مكسيم غوركي في بيئة عائلية تكفي لتخريج الف مجرم. فقد مات ابوه وهوطفل, وعندما نشأ, علم عن طريق جدته ان اباه كان في غاية الخسة والوضاعة, اذ كان يستجدي وهو ليس في حاجة الى ذلك. وكان ينصب ويغش. وكان يقسو على زوجته ويضربها. وعرف اعماما كانوا وحوشا. عاش بداية حياته متشردا, بلع ريق الجوع اياما وشهور وعانى شتى انواع التبذل الانساني في جميع مساوئه.

ولكن شيئا واحدا كان يسنده في كل هذه الحياة التي كان يعانيها بجفافها وقسوتها , هي الجدة التي ربته على الحب و الحنان والذوق والشرف . وهو يذكر انه كان يستمع اليها وهوصغير وهي تقص عليه قصص القديسين, انها كانت مؤمنة تعتقد بالخرافات.
فكان مما قالته ان جثمان القديس في القبر لا يبلى بل يبقى سليما مهما توالت عليه السنون, فقال لها من فوره : وهل يبقى جثمانك يا جدتي سليما في القبر لا يبلى ؟ –
وضحكت الجدة . وسعد الطفل . هذه الجدة كانت تتسول لفقرها كي تطعم مكسيم.

لقد ارتبط مكسيم بالانسانية. وصار رجلا طيبا لانه عرف جدة طيبة. وصار بعد ذلك يختلط بالمجتمع ويوليه الاحساسات الجميلة التي كانت توليها له جدته, فأحب المجتمع
لأن الحب دخل قلبه وهو صغير, وبقى هذا الحب يشده الى هذه الدنيا. فأحب الناس واخذ يستنهض فيهم روح الرفعة والاخلاق والمروءة والشرف.

انه اديب الفقراء. نشأ فقيرا. له وجه العامل, بل وجه الفاعل الخشن. تبرز عظام وجنتيه بروزا طينيا. ولا يرتاح الاّ في ملابس العمل. وكان لا يكتب الاّ عن احوال الفقراء . وكان في روسيا احزاب تتباغض, يلطخ بعضها بعضا بالمثالب لكنها تجمع على حبها لمكسيم وترى فيه الاديب اللبيب والزعيم الروحي لطبقة الكادحين.

ومنذ موت لينين لم يعد لروسيا رجل له المكانة الادبية مثلما كانت لهذا الاديب العظيم .
فقد طبع من مؤلفاته خلال ثلاث سنوات اكثر من مليونين مجلد . ولم تكن علاقة غوركي بالحكومة الشيوعية الناشئة علاقة جيدة. وذلك بسبب عدم توافقه مع برنامج لينين بخصوص سياسته تجاه الفلاحين. الذي لم يكن يرغب في نشر الماركسية بين طبقة العمال والفلاحين بأسلوب القسوة. وقد كتب عام 1922 مقالا اتهم فيه الزعماء الجدد بانتهاجهم اسلوب حكم غير مقبول, يضحّون فيه بمصالح عمال المدن في سبيل ارضاء قطاعات اخرى من الشعب. وعلى اثر ذلك ترك روسيا مغتاضا محتجا ورحل الى ايطاليا. حيث مكث فيها يقرأ و يكتب لسنوات. وعندما عاد الى وطنه بعد موت لينين لاحظ بعض المنجزات قد تحققت في الريف كما شاهد ان النظام قد ترسّخ . فأيد سياسة الحكومة وابدى تعاونه معها. ومكسيم غوركي يكره الاشتغال في السياسة، العملية شأنه شأن كل المفكرين , ولهذا عندما اناطت الدولة اليه مسؤولية الاشراف على تنفيذ مشاريع حكومية كبرى, قبلها على مضض.

ولد مكسيم غوركي في مدينة – نجني جورود – من اب صباغ . وعندما ترعرع بدأ يرحل من مدينة الى اخرى في طلب الرزق. يبيع صورا للقديسين يرسمها بنفسه, ثم تحول الى الشارع متشردا يلتقط الخرق ثم صار جوّالا يبيع التفاح ويصيد الطيور ثم خفيرا للسكك الحديدية ثم وقادا للقاطرة الى ان تعرف على خباز فاشتغل في مخبزه . وكان الخباز هذا مشبّعا بروح الثورة, خلقتها سياسة القمع والارهاب التي كان القياصرة يمارسونها بحق الشعب المغلوب على امره.

كانت انكلترى انذاك تمارس سياسة ديمقراطية, فكانت الحياة الاجتماعية والسياسية تجسدها احزاب محافظة ومعتدلة, فكانت النفوس هناك راضية مطمئنة, على عكس الحالة في روسيا, حيث كان الجو العام مكهربا بالخوف والريبة والحذر من غدر السلطات التي كانت لا تركن الى قانون, لذلك كان الشعب يتطلع الى الثورة بلهفة حراقة. وكان الحديث عن تحسن الاوضاع امام مظالم الدولة ضرب من الخيال , كانت الحكومة تبطش بالشعب , والشعب يعمل على اسقاطها.

وفي هذا السياق يقول كاتب السطور : تعتبر مدينة يالطا التاريخية الروسية في الجنوب مدينة سياحية. يتصدر كورنيشها الواسع الذي يعج دوما بالسواح، تمثال برنزي شاهق ضخم يطل على البحر , تدل قسمات وجهه وتعابير اعضاء جسمه على انه كان صاحب شكيمة عالية وقوة شخصية عظيمة، ويضيف بانه كان في ستينيات القرن الماضي سائحا في مدينة مالطا، وهناك عند المساء كان من عادته ان يتجول في كونيشها الجميل متنزها ومستمتعا بطيب رائحة البحر ونسائمه العليلة، وعندما مرً بالتمثال وسأل احد الماره عن اسم صاحبه ! اجاب مزهوّا : انه المعلم مكسيم غوركي.

*مقتبس بتصرف من كتاب (مختارات) للموسوعي سلامة موسى.

الحلقة التالية في الغد !

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here