لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! ح2

لنقتدي بوطنية مكسيم غوركي ! ح2 (*) د. رضا العطار

كان الخباز في موسكو يجمع الشباب المتحمس للثورة في مخبزه . فقد جعل منه وكرا. حريصا على تغيير مجموعته بأنتظام. متخذا من بقاء المخبز مضاء طوال الليل لتهيئة العجين وعمل الخبز. لذا لم تدخل الريبة قلوب المخبرين من الشرطة السرية. فكان المخبز خير وسيلة للأيهام. وهذا المخبز كان البناء الوحيد في المدينة الكبيرة الذي يخرج منه الدخان. حيث لم يجرأ احد في الشتاء القارص من اشعال النار داخل بيته بهدف
التدفئة لئلا يحرك شكوك افراد الشرطة بأن ساكنيه يحرقون كتبا ممنوعة, فيتعرضون الى الاعتقال.

ولما علم صاحب المخبز ان مكسيم شابا شغوفا بالمطالعة, اعطاه جميع ما عنده من الكتب الثورية. وبذلك انغرست في نفس مكسيم روح الثورة الوهاجة. وشرع منذ ذلك الحين يؤلف القصص حول حالة الفقراء. فأحست به السلطات واعتقلته مرات عديدة. وعندما كان طليقا كان تحت رقابة جاسوس يلازمه. فلجأ مكسيم الى فكرة فريدة, انه عيّن هذا الجاسوس موظفا عنده براتب مقطوع, وبمرور الوقت نشأت بينهما صداقة. فكان مكسيم يزوده بالتقارير الازمة يوميا, ليسلمها الى مسؤوليه في دائرة الأمن.

وحدث عام 1905 ان قاد الاسقف جالون مظاهرة صاخبة في بطرسبرغ يطالبون القيصر بالدستور . فما كان منه الا ان قتل اعدادا كبيرة منهم بالمدافع. وسُجن غوركي سنة. وعندما افرج عنه سافر الى ايطاليا وبقى هناك, لكن بعد ان اشعلت نار الثورة بعد اثنى عشر سنة عاد الى روسيا واستقبل من قبل جماهير الشعب استقبال القائد المظفر. .

لقد ارتبط سلوك مكسيم غوركي بالانسانية, فصار رجلا طيبا, لان جدته كانت منهلا للطيبة. صار بعد ذلك يختلط بالمجتمع ويوليه الاحساسات الرقيقة التي كان يوليها اليه جدته. فاحب المجتمع والمجتمع احبه. لأن الحب دخل قلبه من ابوابه العريضة وهو صبي. فكان ردود الفعل عنده متعددة الجوانب, شملت نواح كثيرة من الحياة, ابرزها اخلاق الانسان و بهاء الشرف و عظمة المروءة وجمال المرأة ولمعة الافكار السامية والشغف الجارف في مساعدة الفقير وعمل البر والاحسان. كما انه احب جمال الطبيعة وروعة الكون و رهبته.

رحل مكسيم الى اكثر من عشرين بلدا شملت الدول الاوربية وامريكا, يدرس احوال شعوبها ويكتب, فقد تجلت مؤلفاته بروح الجاذبية, طفحت بحبه واحترامه للانسان, تفيض موضوعاته بالنعم وتلفظ معانيها بأهتمامات اخلاقية رائعة. ومن عباراته :
لا تحملوا الشباب على حياة رخيصة تافهة بل دعوهم يحبون كل شئ صالح يبهجهم, شجعوهم على حب المرأة وحب المجد وحب الوطن –

ان العزلة النفسية التي عاشها مكسيم لم تنتهي به الى الاجرام او الى الجنون وانما انتهت بمؤلفات يغمرها الحب و تلهج معانيها بالشهامة وتلفظ موضوعاتها بقيم الفضائل.
كان يقول : ما الذي ينقص شبابنا ؟ وما الذي يهوى بهم الى الجنون اويحملهم على الاجرام او الانحدار ؟ .

ان الشباب الذي يرتبط بالدنيا بهموم الحب او باهتمامات ذهنية لا يمكن ان يفكر في جريمة ولا يمكن ان يلجأ الى الانحراف. اننا يجب ان نهيء لشبابنا اجواء يشعرون من خلالها انهم في ميناء السلام , يختبروا فيه فرصتهم في الحياة ويكافحون من اجل خيرهم وسعادتهم.

ان حياتنا تعود رخيصة تافهة حين لا نحب ولا نهتم. اي حين لا نحب المرأة, ولا نبالي بالوطن, ولا نكافح الاستعمار, ولا نصطدم بالاستبداد. افسحوا لحياة الشباب ميادين الحب البشري حتى يرتبطوا بالمجتمع لان الشاب الذي لا يجد في المجتمع ما يحبه او يربطه به هو الشاب المجرم الذي لا يبالي ان يقتل انسانا من اجل روبلات معدودة .

كثيرا ما تصادم مكسيم غوركي مع لينين بهدف منعه من استعمال العنف في معاملة معارضيه ودعاه الى الرفق واللين. ومن اعماله المجيدة تأليفه لجنة لصيانة التحف وتأسيسه – دار العلم – كما قام بأنشاء شركة لترويج الاداب العامة . وهذه الشركة كانت تطبع الكتب الروسية وتترجم التراث الاوربي وتبيعه للشعب بأبخس الاثمان الى حد كان سعر الكتيب لا يتجاوز قيمة علبة كبريت.

وقد لامست هذه الحقيقة لمس اليد, اثناء زيارتي الاولى للأتحاد السوفياتي خلال القرن الماضي, فقد شاهدت كثيرا من جمهور المسافرين في قطار المترو في موسكو يحملون في ايديهم كتيبا منهمكين في قرأته, فمنهم من هو جالس ومنهم من هو واقف و عندها سألت الذي بجانبي عن سعره اجابني ان سعره يساوي سعر الايس كريم.

الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب مختارات للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here