العمى أمام عودة الفاشية

لا يزال حادث اقتحام مبنى الكابيتول في واشنطن ، وهو مقر السلطة التشريعية الأمريكية ، يثير ردود أفعال متسارعة ومتباينة ، تجاوزت مكان الحدث وامتد صداها ليصل مختلف دول العالم ، من بينها الدول العربية ، التي تتفاعل مع الحدث بصورة مختلفة ، تتناسب مع أنظمتها السياسية ومصالحها ، وطبيعة وواقع شعوبها .

في هذا المقال للكاتب (إريك بيريگران) ، المنشور في مجلة سويدية متخصصة بالصحافة الثقافية ، وجهة نظر تستحق الاطلاع والمتابعة ، فهو وغيره ممن يشاركه الرأي ، وبناءا على مايذكره من معطيات ، يرى الحدث كظاهرة (فاشية) .

ومع أن (الفاشية) كحركة منظمة أسسها موسوليني في إيطاليا عام 1920 ووصلت بقيادته إلى السلطة عام 1922 ، وأخذت اسمها من رمز روماني ، فإن أفكارها وقيمها واساليبها لا تنحصر بزمان ومكان معين ، بل نرى الكثير من سماتها ومعالمها موجودة في موروثنا السياسي والثقافي ، خاصة في العقود الأخيرة ، ولذا فاطلاع القراء على (الفاشية) لا يخلو من فائدة ، فهي في الجوهر والمضمون ، وبدون مبالغة ، واقع يومي ، وان اختلفت التسميات ، بحكم اختلاف الموروث /الاجتماعي/الثقافي/الديني .

محمد ناجي

انقلاب ! كان رد الفعل المثير للدهشة لسماع خطاب ترامب التحريضي ، والهجوم على مبنى الكابيتول الأسبوع الماضي . لقد كان متوقعًا وسبق ووعد به ترامب بوضوح قاعدته الصاخبة والمتطرفة بشكل متزايد ، لكن رغم ذلك يبقى الحدث مثير للذهول . يبدو وكأننا لم نتمكن حقًا من استيعاب كل الإشارات الواضحة بأن فاشيًا كان جالسًا في البيت الأبيض منذ أربع سنوات .

ربما يحتج البعض على مثل هذا الوصف ، بينما يهز البعض الآخر رأسه بقلق . “فاشية”، الكلمة مرنة . قد يكون هناك تمتمات عرضية حول رئيس مفرط الحماس . لكن من النادر أن تستخدم في الوقت الحالي عن الفاشيين الحقيقيين : السياسيين الذين يخرجون إلى الشارع كعصبة قتال فاشية ويلوحون بالقضبان الحديدية ، والوزراء الذين يبنون الجدران والمخيمات ، ويصنفون الناس حسب أعراقهم ، أو الرؤساء الذين يهاجمون الصحافة ويدافعون عن قوات الشرطة العنصرية . حتى الآن ، لم تُستخدم الكلمة حتى لوصف من يرفضون قبول نتائج الانتخابات ، لكنهم بالمقابل يحبذون الانقلاب – أسلوب فاشي بامتياز . يتم استخدام هذه الكلمة بشكل عشوائي وبلا مبالاة وقليل جدًا . وفي تحليل السياسة المعاصرة ، اعتدنا بدلاً من ذلك على سلسلة من العبارات الملطفة : الشعبويون ، والشعبويون اليمينيون ، وأحزاب الاستياء ، والسلطوية أو القومية فقط .

ربما ترجع صعوبة التعرف على الفاشيين عند ظهورهم ، بشكل كبير الى الصدمة النفسية الأوروبية . فالقبول بعودة الفاشية بعد الهولوكوست هو أمر مزعج للغاية ، باعتباره انتهاكًا لقيمنا وكرامتنا . لذا تم رفع سقف ما يمكن اعتباره فاشية بعد الحرب العالمية الثانية . التعريف العام لإرنست نولته ، في ستينيات القرن الماضي ، كاد أن يقيد المفهوم بنماذج هتلر وموسوليني . حينذاك كانت الصورة الأوروبية بحاجة للترميم . وظهرت في السياسة والأوساط الأكاديمية ، نظريات حول “موت الأيديولوجيات” و “نهاية التاريخ”. أفكار تقول إن الغرب شبه كامل . الآن يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها كانت ضمادات نفسية على جرائم يجب نسيانها : معاداة السامية والامبريالية والاستعمار والفاشية والإبادة . حلم نهاية التاريخ هو بالطبع حلم صمت الذاكرة .

يبدو أن هذا التوق إلى النسيان قد خلق عمى فعالا لعودة الفاشية ، والذي ساعدته التعريفات التي تقول أن الفاشية هي ما يحدث خارج النظام الديمقراطي ، بهدف تدميره . لقد واجه علماء الاجتماع وضعا صعبا في تصور أن الفاشيين في عصرنا يتصرفون ضمن النظام الديمقراطي ، وهم على استعداد لتدميره إذا لزم الأمر . بدلاً من ذلك ، تم تصنيف الفاشيين الذين عملوا داخل النظام على أنهم “شعبويون”. إحدى مزايا ترامب تتمثل في أنه أكثر وضوحًا من العديد من “الشعوبيين” المرحبين به ، فقد جعل البناء المعقد واضحا مرئيًا من خلال تحريضه ، وسلسلة أكاذيبه اللامتناهية ، ونرجسيته وكراهيته المميزة للضعفاء و”الخاسرين”.

ولكن على الرغم من حقيقة أن كلمة الفاشية تطوف في جو كل اجتماع جماهيري ، حيث يتم الدفاع والإشادة بإطلاق الشرطة النار على السود ، وانتقاد المعارضين ، وأن البلاد ستصبح عظيمة مرة أخرى ، إلا أن القليل من المعلقين استخدمها لوصف ما يحدث . بعد أن أصبح ترامب رئيسًا ، ربما واجه الصحفيون الذين غالبًا ما يرغبون في إعطاء الرئيس الأمريكي لقب “زعيم العالم الحر” صعوبة في إضافة عبارة “فاشية”، ليس لأنها تحدت صورة ترامب ، ولكن لأنها ستنال منهم ايضا ، فالكلمة ستشوه الصورة أمام العالم وبالتالي صورتهم الشخصية أيضا .

ربما كان هناك أمل آخر بعملية نضج متأخرة : قد يكون قادرًا على أن يصبح “رئاسيا”. لكن خلال السنوات الأربع التي مرت ، انتهت هذه الآمال بعمل مخزي . ومع ذلك ، لم يأتِ ما يسمى بوسائل الإعلام الجادة بفكرة وصفه بالفاشي ، وكأنها لم تعد موجودة في مفرداتنا السياسية – النظرية .

ابتعد منظرو الفاشية اليوم عن فكرة التعريف المعياري الصارم للفاشية . استنتج روبرت باكستون في كتابه (Anatomy of Fascism) تشريح الفاشية ، ومايكل مان في كتابه ( Fascism) الفاشية (كلاهما صدرا عام 2004) من تحليلات تاريخية من القرن العشرين أن فاشية اليوم لا تشبه فاشية الأمس . وذكرا كيف أن الحركات الفاشية غالبًا مانمت في ظل الديمقراطيات ، وطوّرت أسلوبها الخاص على وجه التحديد ، لأنها كانت بحاجة إلى كسب الرأي العام . وهذا بعبارة أخرى ، يشير إلى الشعبوية في الفاشية .

يقدم تحليل كاترين فيشي للجبهة الوطنية الفرنسية (1) فكرة مماثلة في كتابها Fascism, Populism and The French Fifth Republic: in the Shadow of Democracy (2004 الفاشية والشعبوية والجمهورية الفرنسية الخامسة : في ظل الديمقراطية (2004) . بالنسبة لفيشي ، فإن أجندة الجبهة الوطنية هي تعبير عن حركة فاشية تريد البقاء على قيد الحياة في ظل الديمقراطية الفرنسية : “توفر الشعبوية جسرًا بين المثل العليا المتكافئة والمساواة والنخبوية للتفكير الفاشي . “الشعبوية تجعل الناس يتخيلون أنهم جزء من نخبة ، في بلد يُنظر إليه على أنه متفوق على البلدان الأخرى .” (ترجمتي) (2)

على الرغم من أن هؤلاء المنظرين يتجنبون التعريف الحاصل على براءة اختراع للفاشية ، إلا أنهم يسلطون الضوء على بعض سماتها المتكررة ، ومفاهيم القومية العضوية وفكرة بعث الأمة . وغالبًا ما يقدم الفاشيون وعودًا وتهديدات بالتطهير السياسي و/أو العرقي بتحريض كبير وعدواني بشكل لا يضاهى ، وعجز تام عن قبول النقد . وغالبا ما يحبذوا النظام شبه العسكري من خلال ثنائية كلاسيكية بين الفرع البرلماني وقيادة الشارع ، مع أنهم ينكروا الترابط بينهما مرارًا وتكرارًا ، وهذا حتى يتمكنوا من الاستمرار في تعزيز عبادة قوة الفعل والرجولة .

هناك اتفاق كبير حول هذه السمات الفاشية . لكن الشيء المهم هو أنه ليس كلها يجب أن يتحقق . فيمكن للحركات والسياسيين أن يكونوا فاشيين إلى حد ما ، حتى لو كانوا جميعًا متحدين في ترديد النغمة الأساسية “إنهم سيخرجون”. وإذا طبقنا هذه السمات على ما يسمى بالشعبويين اليمينيين ، فإنها ستبين أيضًا اللائحة المثيرة للقلق من أيديولوجية وأساليب هذه الأحزاب .

لا ، بالطبع لم ينجح ترامب في إعادة تشكيل الولايات المتحدة في اتجاه فاشي . لكن الخطاب والديماغوجية والجريمة موجودة ، والتكهنات عن الحرب الأهلية والانقلاب العسكري استمرت لفترة طويلة ، وقد حاول تحويل قوة الشرطة إلى ميليشيا شخصية ، وتجذرت نظريات المؤامرة التي ابتدعها ونشرها ، وبالكاد أعطي انطباعًا بالرغبة في العمل ضمن النظام الديمقراطي . على العكس من ذلك ، فقد دأب على تنظيم انقلابات مجهرية تحدّت المؤسسات العامة وقواعد اللعبة الديمقراطية . كان الغرض ، كما هو الحال مع الثنائية الفاشية ، ووفقًا للمنطق الذي كتبته فيشي عن الجبهة الوطنية بأنه – في نفس الوقت الذي يشغل فيه أعلى منصب في الدولة ، أرسل إشارة “شعبوية” بأنه ليس جزءًا من النظام ، ولكنه واحد من الشعب . “قف للخلف واستعد ” .

هل هذا حقيقة أم مسرح ؟ الجواب مهم . ولكن بنفس القدر من الأهمية فهو غير مؤكد . لأنه في عالم الفاشية يندمج المسرح والواقع ، بالنسبة لهم ولكل المشاهدين والمتضررين . والنفور من الكلمة وعدم القدرة على تحديد الفاشية بمجرد عودتها ، فهو في الواقع ، يخدم اتباعها . ولكن بالنسبة للمترددين ، من الضروري أن يلاحظوا النغمة الأساسية – “سيطردون خارجا !” . في هذه النقطة ، الفاشيون صادقون دائمًا .

على الرغم من النفور من الكلمة بين المعارضين وفي وسائل الإعلام ، فإن السؤال عما إذا كان ترامب يمثل الفاشية في عصرنا قد أثير بالطبع . في عام 2018 صدر كتاب How Fascism Works. The Politics of Us and Them (كيف تعمل الفاشية . سياسة نحن وهم) للفيلسوف جيسون ستانلي . كتب ضد تطبيع العنصرية والشوفينية ، الذي حدث في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة ، وربط الفاشية في الولايات المتحدة بحركات أخرى مشابهة في العالم . في نفس العام ، نشرت مادلين أولبرايت أيضًا (Fascism: A Warning) (الفاشية : تحذير) . هذه الكتب والتي هي مجرد تحذيرات ، انطلقت بسبب الرئيس الحالي .

ومع أن الجميع ليسوا مقتنعين . فقد أثار روس دوثات السؤال حول ما إذا كان ترامب فاشيًا في عمود في صحيفة نيويورك تايمز في وقت مبكر من ديسمبر 2015 . وحين قارن بينه ومرشحين سابقين كانت عليهم شبهة الفاشية – بوكانان وبيرو و والاس – وجد دوثات أنه بينما كان من سبق ذكرهم أبرياء من الشبهة ، فمن المحتمل أن ترامب يستحق التسمية . ومع ذلك ، وجد أن الكلمة لم تكن دقيقة ، أو بالأحرى لم تكن صحيحة من الناحية التكتيكية . كانت الأسباب هي أن ترامب (آنذاك) لم يكن قد أسس أي حركة بعد : “فهو لم يفز حتى في الانتخابات التمهيدية ! وفيما يتعلق بقوله حينذاك في احدى لقاءاته الجماهيرية إن أحد ناشطي (3) BLM يستحق الضرب ، قال دوثات أنها كانت لا تزال “درجة قليلة من” القبح ” وإشارة لفاشية فعلية ، تتطلب تنظيم قوة شبه عسكرية تخرج في الشوارع “. والسبب الآخر هو حتى لو ان ترامب لم يجرِ تلقيحه ضد الفاشية ، “فمن المحتمل جدًا أن يتم تلقيح الحزب الجمهوري ضده”. كان ذلك قبل خمس سنوات ، اليوم نحن نعرف أفضل .

ترامب جاء من عالم صناعة الاستعراض والترفيه . أعماله مربحه إلى حد كبير ، ونجاحه الأكبر – The Apprentice – هو عرض واقعي مبني على خيال القائد الاستبدادي العظيم . تلفزيون الواقع هو الشكل الأكثر فاشية في الثقافة الشعبوية . تستند كل من Robinson و The Farm و Big Brother و Paradise Hotel وغيرها إلى دغدغة المشاعر والإذلال والإقصاء والجنس بشكل متكرر . جزء لا يستهان به من الإنتاج هو ازدراء الجمهور لأولئك الذين يفشلون في المشاركة . لا أحد يهتم حقًا باللعبة أو القواعد أو الفائز . لكننا سنكون غوغاء لبعض الوقت ونشاهد “الخاسرين”.

تنبأ بيير باولو باسوليني بالإذلال التلفزيوني بفيلم Saló أو Sodom’s 120 Days . وفيه يتطرق لبعض الرجال من البرجوازية العليا يختطفون مجموعة من الشباب و يحبسونهم في منزل . هناك ، يتم إجبارهم على ممارسة طقوس مهينة مختلفة ، ويتعرضون للتعذيب والاغتصاب ، ويتعرضون لمحاكمات صورية وطقوس زواج تنتهي بالاغتصاب . وإذا حاولوا الهرب ، يتم قطع رقابهم . كل ذلك يحدث في جمهورية سالو الصغيرة ، والتي كانت آخر تجسيد للنظام الفاشي الإيطالي تحت حكم موسوليني . نظم

باسوليني المعسكر باعتباره لعبة ومسرح لسلطة منحرفة ، لإظهار كيف تبني الفاشية المجتمع وفق رؤيتهم الخاصة .

أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب “المجتمع كمسرح” وهو ما كتبه انگمار كارلسون وأرني روث في كتاب كلاسيكي . ” امنعها من الدخول ! امنعهم !” كانت صرخته المسرحية (؟) ، خلال حملته الانتخابية وفترة ولايته ، مزوقة بأكاذيب ووعود كاذبة ، وتشويه وهجمات لا معنى لها ضد كل من لم يصفق ، وحتى مقترحات أشد بالاغتيالات السياسية والعنف من قيادات الشارع التي تبناها . لكنه كرئيس ، قام ايضا بفصل أكثر من 4000 طفل عن آبائهم المهاجرين . أجبرته الاحتجاجات على إنهاء ذلك رسميًا ، مع مطالب بإعادتهم لعوائلهم في غضون 30 يومًا . لكن إدارة ترامب رفضت صرف أي أموال ، لذلك حتى اليوم يُحتجز مئات الأطفال دون طعام مناسب أو اتصال مع اشخاص بالغين أو ملابس نظيفة .

ايريك بيريگران – Opulens

2021-1-11

ملاحظات من المترجم :

(1) تغيّر اسم الجبهة الوطنية منذ عام 2018 إلى التجمع الوطني .

(2) كلمة ترجمتي تعود لكاتب المقال ايريك بيريگران ، الذي ترجم النص بين القويسات .

(3) BLM هي الحروف الأولى لاسم منظمة Black Lives Matter التي تأسست سنة 2013 ، وهي تدافع عن حياة الزنوج وحقوقهم ضد التمييز العنصري .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here