صراع الأجيال، أحد أسباب تدهور الواقع الصحي في العراق

صراع الأجيال، أحد أسباب تدهور الواقع
الصحي في العراق
بقلم: طبيب عراقي
هناك الكثير من المراقبين للشأن العراقي، مـَـن ْيعتقد أن السبب الرئيسي لتدهور الواقع الصحي في المؤسسات الحكومية في العراق هو نقص التمويل أو التقشف أو نحوهما، أو أن السبب الرئيسي هو انتشار الفساد المالي. نعم هذه عوامل مؤثرة جداً، غير أنها، من وجهة نظرنا، ليست هي الرئيسية، لأن هناك أسباب أخرى، نعتقد هي الرئيسية، لكنها، من المؤسف، خفية، غير منظورة، لعامة الناس، لا يعرفها إلا بعض الذين يعانون منها أو المتأثرين بها، من الكادر الطبي، وهي: الفساد الإداري والفني والأنانية واعتماد الكسب المادي على حساب صحة المواطن.
فالمواطن البسيط حينما ينظر إلى الواقع الصحي، سيجد هناك مؤسسات صحية مهترئة، متخلفة، لا تؤدي واجباتها الإنسانية والمهنية، كما ينبغي. والمفارقة هنا أن هذا المواطن يعزو هذا الواقع المتدهور إلى الفساد العام المستشري في البلاد، الذي ينخر مجمل مؤسسات الدولة، لكن هذا المواطن لا ينتبه إلى وجود فساد آخر مختلف تمارسه فئة معينة من الأطباء، يساهم، مساهمة كبيرة، في إعاقة تنفيذ الخدمات الصحية بوجهها الصحيح، فضلاً عن ذلك منعها من التحسين والتطوير. إن هذا النوع من الفساد، هو الذي يمنع التقدم وإصلاح الخدمات الصحية، وسيستمر في ذلك حتى بعد القضاء على الفساد المالي بطريقة أو بأخرى، في عموم هذه المؤسسات.
وعلى هذا الأساس، وحسب استقرائي للواقع الطبي في العراق، ومن خلال ملاحظات زملاء مهنة الطب من مختلف الأجيال، وصلت إلى نتيجة، أود أن أطرحها في هذا المجال، أعتقد أنها هي السبب الرئيسي في التدهور والتراجع المستمر على مدى العقود الأخيرة، سواء في الواقع الصحي أم في مستوى الخدمات التي تقدمها المؤسسات الصحية كافة، يعود في مجمله إلى التنافس السلبي الذي يحصل بين الأطباء، لأن بعضهم تمكنّوا من السلطة والنفوذ بسبب القِدم أو الشهادة أو المحسوبية أو المحاباة أو نحوها، وبدلاً من أن يقوموا بمساندة ودعم زملاءهم من الأطباء الجدد، أو الذين ليسوا ذوي سلطة أو نفوذ، نجدهم يقومون بمحاربتهم ومنعهم من تطوير أنفسهم، وبالتالي يمنعوهم من تطوير الواقع الصحي، كنتيجة نهائية من ذلك. وكمثال على تلك الممارسات والأساليب، هو أن بعض الأطباء لا يقدم العون والمساعدة والمساندة إلى زملائه، من خلال نقل علمه وتجاربه وخبرته بصوره كاملة إليهم. لكننا نجد هؤلاء الأطباء يعملون عكس ذلك، في إبقاء هؤلاء الزملاء، قليلي المعرفة والخبرة، كي لا يتفوقوا عليهم.
لذلك أرى أن هذا الأمر هو السبب الرئيسي الذي أدى الى التراجع التدريجي في مستوى العلوم والمعارف الطبية. إذ أننا لازلنا نسمع هنا وهناك، أن الطبيب الفلاني كان مستواه العلمي والعملي، في السبعينات، يوازي مستوى الطبيب في إنجلترا أو في أمريكا. وأيضاً كان الطبيب في الثمانينات كذا وكذا. لكن الأمر المحزن، أنه رغم كل هذه المستويات العالية التي يتمتع بها هؤلاء الأطباء، إلا أننا نلاحظ أنهم لا ينقلون علومهم ومعارفهم الى الأطباء المتدربين لديهم. وبالنتيجة تكون الاجيال المتلاحقة في تراجع تدريجي من ناحية الخبرة والمعرفة العلمية. ومن المؤسف أن هذه الحالة قد استمرت في العراق الى ما نحن عليه الآن، إذ نجد الهبوط التدريجي في مستوى نقل المعلومة، وهو أحد وأهم أسباب التدهور الصحي.
أما في السنين الأخيرة، وبعد التأخر الذي حصل في المؤسسات الصحية في العراق، بالتزامن مع الانفتاح على العالم وسهولة السفر وتوفر الدورات والخبرات، وسهولة الوصول الى الكتب والمراجع العلمية ووسائل التعليم المرئي والمقروء، مثل الفيديوهات والكتب في الإنترنت، من مختلف المصادر الموثوقة، وبسبب شحة التعليم الداخلي للأسباب أعلاه، كل ذلك دفع الأجيال الجديدة من الأطباء إلى تطوير أنفسهم بصوره ذاتية دون الاعتماد كلياً على الأجيال القديمة من الأطباء، الذين ما زال بعضهم مستمر في نهجه التقليدي، بالتنافس السلبي ومحاولة منع أو عرقلة أي تطوير يقوم به زملاءهم من الأطباء الآخرين.
ومع وجود هذا الواقع المؤلم، فإننا نلاحظ كثير من التطورات في الآونة الأخيرة، كما نشهد إنجازات رائعة في مختلف الصُعُد، وظهور إبداعات متنوعة، هنا وهناك، تقوم بها الأجيال الجديدة من الأطباء، لكن بصعوبة شديدة، لأنها مكبلة بمقاومة وعرقلة ومحاربة مستمرة من قبل بعض الأطباء. لذلك، عندما يكون هدف الطبيب هو إعاقة التطوير والتجديد والحداثة، فسينتج عنه حتماً، تدهور في مختلف الخدمات الطبية العلمية والعملية والمادية.
وفي هذا المقام لابد من التأكيد على أن هناك مفاهيم وآراء، مترسخة عند بعض الأطباء، تدفعهم إلى القيام بممارسات وأفعال غير سليمة، كأن يقول أحدهم لنفسه: (أنا تغربت وسافرت وتعبت كل هذه السنين، وفي النهاية أعطي هذه الخبرة الى هذا الطبيب على طبق من ذهب، لا وألف لا، إلا أن يتعذب مثلما تعذبت، ويبني نفسه من الصفر).
ويقول طبيب آخر: (هذا البارحة كنت أنا أستاذه، وهو اليوم زميل لي، حاله من حالي في نفس المستشفى، يمارس نفس أعمالي، لا وألف لا، سوف أجعله يذهب إلى مستشفى أو مكان آخر كي لا يتنعم بما أتنعم به من سمعة وتقدير، حتى لا يصبح رأسه برأسي).
وعندما يسمع، أحد الأطباء، أن مريضاً ذهب إلى زميل له كي يتعالج، يستشيط غضباً، ويردد: ((ونحن ألا نُقنع (أيها المريض) لتذهب إلى من كان متدرباً لدي)). بمعنى آخر: ونحن ألا ننفعك لتذهب إلى من كان يتدرب عندنا. ألسنا بالكفاءة والخبرة اللازمة لتتركنا أيها المريض وتذهب إلى غيرنا.
بالإضافة إلى ذلك، أنه عندما يقوم أحد زملاء أولئك الأطباء، بإلقاء محاضرة في مكان ما، نجد بعضهم يستشيط غضباً ويعزف عن الحضور ومن ثم يهاجم الشخص والجهة المُنظمة للفعالية، وربما يقاطعها أيضاً.
كما يقوم طبيب آخر، بصب الواجبات المتعبة غير المجدية (من وجهه نظره) على زملائه لإشغالهم عن تطوير أنفسهم وتطوير المؤسسة التي يعملون بها.
وعندما تُطرح فكرة معينة من قبل زميل أحد الأطباء، يقوم هذا الطبيب، على الأغلب برفضها أو تهميشها والتقليل من أهميتها، كي لا يقول قائل أن فلانا قام بتطوير كذا وكذا.
وعندما تحصل فرصة للتطوير، وكان أحد الأطباء لا يرغب بها، يقوم بإلغائها ورفضها دون أن يرشح أي زميل له، كي لا يستفيد منها ويتطور ويصبح أفضل وأعلى شأناً منه.
وبعد كل ذلك إذا قام أحد الأطباء، بجهوده الذاتية وتضحياته الشخصية، بتطوير نفسه (التي ستكون، بالطبع، بصعوبة شديدة بمثل هذه الظروف والمعوقات)، على سبيل المثال، إجراء عملية نوعية أو الحصول على خبرة معينه خارجية، غير متوفرة في البلد أو المدينة، بعد ذلك رجع إلى مكان عمله، لعلاج المرضى، يجد نفسه محارباً على جميع الصُعد: التسقيط المباشر، التشكيك بالكفاءة والشهادة، عدم إرسال المرضى إليه(في مجال خبرته الجديدة طبعاً)، عدم توفير البيئة المناسبة لعمله كالأجهزة والمعدات والمتطلبات الأخرى للعمل، لأن أغلب الموافقات لكل هذه الأمور تمر من خلال الطبيب القديم المتنفذ السلبي.
ومن الأمثلة الأخرى لمثل هذه الحالات، هي أنه قد تجد طبيباً مختصاً يراجعه مريض بحاجة إلى عملية من نوع ما، ويصدف أن هذا الطبيب المختص لا يجيد اجراء هكذا نوع من العمليات، وأنه يعلم أن زميلاً له يمكنه القيام بها، لكنه، مع الأسف، لا يحيل إليه المريض، كي لا يقول عنه المريض أنه طبيب غير كفوء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، حتى لا يبرز اسم زميله أكثر منه.
مما تقدم، قد يتبادر الى الذهن، سؤال هام، هو لماذا تقوم، هذه الفئة من الأطباء، بمثل هذه الممارسات والأفعال التي تعود على الناس وعلى النظام الصحي بالأذى والدمار؟ هل هو الحسد؟ هل هو حب السلطة؟ الجواب: كلا، كلا، كلا!
إن أهم سبب من أسباب هذه التصرفات، وقد يستغرب منه العديد، هو العيادات الخاصة (نعم العيادات الخاصة). لأنه، وببساطة شديدة، أن الكثير من أصحاب هذه العيادات، من الأطباء، قد تقدم به العمر، وعجز أو كسل عن القيام بتطوير نفسه طبياً، ومواكبة عجله التطور الطبي المتسارع في العالم، ولا يستطيع أيضاً مجاراة الأطباء من الجيل الجديد في ذلك. ومع كل هذا، يسعى هؤلاء الأطباء، للحفاظ على زخم مراجعي عياداتهم الخاصة، ومن أجل إبقاء مدخلاتهم المادية مرتفعة، فإنهم يقومون بالممارسات التي ذكرناها أعلاه من خلال أساليب متعددة، قد لا تخطر على بال القارئ، كالتشبث والاحتماء بالسلطة ومراكز القرار لمنع أي تطوير يقوم به غيرهم، الذي قد يخرجهم من دائرة الضوء والشهرة في المجتمع، ويخسرون مراجعيهم وبالتالي يخسرون الأموال التي اعتادوا الحصول عليها.
وفي الختام، أود أن أشير إلى أن بعض الأطباء، لكن ليس جميعهم، هم الذين يتميزون بالصفات السلبية التي ذكرناها. وبالطبع تجد هنا وهناك، مَن يتميز بأخلاق عالية، تجعلك تقف إجلالاً لهم ويستحقون أن يكونوا قدوة للجميع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here