الطب والشعر / مشاهد من الكرم العراقي

الطب والشعر / مشاهد من الكرم العراقي
المشهد الأول
في ستينيات القرن الماضي، قمنا بسفرة إلى إيران عبر البصرة وكنا خريجي الصف الرابع بكلية طب بغداد. السفرة كانت بإشراف الأستاذ الدكتور غازي حلمي إختصاصي العيون والجراح الأستاذ الدكتور خالد القصاب، وكنا نحو خمسين طالباً. عند وصولنا البصرة مررنا بمكتب المتصرّف (المحافظ) للسلام عليه وتدبير مبيتنا لحين التوجه إلى عبادان في اليوم التالي. رحّب المتصرف بنا وبدأ محاولة جدية لتوفير السكن ولو في إحدى مدارس المدينة (حيث أن دار الضيافة كان مشغولاً لآخرين) ولكنه لم يفلح. في هذا الظرف والحيرة على وجوه الجميع، دخل شخص مربوع القامه متوسط العمر بلحية خفيفة يدعى الحاج كاظم بْـرَيج وكان أحد تجار المدينة. وبعد تقديمنا إليه كوفد طبي من بغداد واطلاعه على الموقف، انبرى قائلا للمتصرف “الأطباء ضيوف عندي، لا تقلق وتشغل فكرك”. أجابه بارك الله فيك. تلفن على سيارتين واصطحبنا مع ولديه إلى دارين عامرين جاهزين للضيافة وكل أستاذ مع مجموعة من الطلاب. بعد فترة قُـدّم العشاء المتكامل مع إشراف الحاج كاظم وولديه، ثم ودعنا الحاج بطيب القول “ناموا واستراحوا واعذرونا من التقصير”.
بعد النوم المريح وتناول الفطور المعتبر والخدمة الكافية بإشراف ولدَي الحاج، قدم الحاج كاظم، وبعد التحية ممزوجة بالابتسامة العراقية الأصيلة، قائلا “أطبائي الأعزاء كل شيء جاهز، السيارات والسفينة لتوصلكم إلى عبادان، راجيا إخباري يوم عودتكم لكي نقوم بخدمتكم”، ثم قاموا بتوديعنا عند السفينة فرداً فردا.
سافرنا من عبادان إلى طهران بالطائرة وكانت سفرة مريحة. قضينا معظم الوقت للتمتع بآثارها التاريخية والمعالم الحضارية والثقافية والضيافة من قبل الجهات الرسمية. خلال جلساتنا المسائية كنا نستذكر مواقف الحاج كاظم وما يليق به من هدية، وتم الاتفاق مع الأساتذة على مزهرية فضية صناعة يدوية ينقش عليها اسم الحاج والوفد الطبي والسنة، تقدم له عند العودة، وفعلا تم ذلك وقدمت الهدية من قبل الأساتذة باسم الوفد بعد عودتنا إلى البصرة واستقبالنا من قبل الحاج كاظم بريج.
المشهد الثاني
أثناء تطلعي للوحات تراثية وتاريخية معلقة على جدران صالة الاستراحة جلبت انتباهي إحداهن وهي صورة الحاج كاظم على سجادة متوسطة الحجم جميلة جدا وصناعة يدوية فاخرة؛ سألت الحاج عنها فأخبرني بقصتها. في أحد الأيام كان عائداً من القرنة إلى البصرة بسيارته الخاصة، وشاهد سيارة خصوصي بطبلة إيرانية واقفة على الجزء الترابي من الشارع، وعائلة من أب وأم وثلاثة أولاد. وقف عندهم وإذا إنهم في ورطه والسيارة فيها خلل ويفترض أن يعودوا في اليوم التالي إلى ديارهم عن طريق البصرة. توجه الحاج كاظم لهم قائلاً ” أنتم ضيوفي بكل ترحاب وسيارتكم ستكون جاهزة لكم عند باب الدار”، وترك مرافقيْه عند السيارة المتعطلة ليقوما باللازم. وبعد الاستضافة الكاملة والتوديع الحافل وإبداء شكرهم للجميع، طلب رب العائلة صورة شخصية للحاج للذكرى؛ ولبّى الحاج كاظم طلبه بكل احترام.
يتابع الحاج كاظم القصة ويقول أنّه وبعد أشهر قليلة جاءه إلى المكتب شخص وقدم له هذه السجّادة كهديّة من الضيف والذي تبين إنه تاجر سجاد قدير ومعروف وأوصى عليها عند عودته، وعبر الحاج كاظم عن اعتزازه بها للذكرى المتبادلة.
أدناه بعض الأبيات الشعرية بحق الحاج كاظم بريج والذي علمت لاحقا أن هناك ساحة باسمه في البصرة كتكريم له لأعماله الطيبة.
حـاج بْـريج شْـعـنـده مِـن دَلاله
جـود وكـرم مِـن اروع خِـصاله
***
تْـعلـَّـم عَـل كـرم من صغـر سنّه
مِـن يـعـمـل الـخـير بْـدون مِـنّـه
جـيل الـبَـعـده أخـذو شَمره مِـنّه
كـريم الـنـفِـس نِـعمه مِـن جلاله
***
جَـمْع الـمال ما يـجـلـب سـعـادة
لا جـاه وحُـكـم ومـركــز قــيـاده
بَـس نـومـك بْـراحه عَـل وِساده
سعـادة روح اْلَـك مـا مـنها لاله (بمعنى أكيدة)
***
بَعْـضِ الناس تُشْعُر لَـنهه مسئوله
تْـوفّي الوَعَـد تِحمي خَلگ معلوله
نَـفِسهه تْعـوِّدت عَـل خير مجبوله
سَـنَـد لِـلـطاح وِلـخـذلـوه عـذّالـه
وإلى اللقاء

د. حسن كاظم محمد
استشاري جراحة العظام والمفاصل

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here