لغتنا و مدارسنا

لغتنا و مدارسنا (*) د. رضا العطار

القراءة اسهل بكثير من الكتابة الانشائية. كما يتضح هذا عندما نحاول ان نكتب باحدى اللغات الاجنبية التي تعلمناها. فانه يسهل علينا كثيرا ان نقرأ مؤلفاتها, ولكننا حين نكتبها، نجد الصعوبات الشاقة في تأليف عباراتها. لهذا السبب يجب ان تكون الغاية الاولى من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية هي القرأءة دون الكتابة التي يختص بها 50% من السكان او اقل. فان العامل في المصنع او المزرعة او الخادم في المنزل او مثل هؤلاء لايحتاجون الى الكتابة الا قليلا جدا. ولكنهم كي يكونوا متمدنين, يحتاجون الى القراءة كل يوم. وحتى عندما يحتاجون الى الكتابة – – نرضى لهم ونقنع منهم بما يعبر التعبير الساذج عن افكارهم.

ولسنا نعني ان هذه الحالة سوف تكون دائمة. ولكننا نجد اننا في الوقت الحاضر في فاقة ثقافية تحملنا على القنوع بتعليم القراءة للكافة من السكان ثم الارتقاء منها الى تعليم الكتابة الانشائية للأقلية التي نحتاج اليها في المدارس الثانوية. ولهذا السبب يجب ان نقصر من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية على تمكين التلميذ من المطالعة والفهم. بلا حاجة الى اية قواعد خاصة بالنحو. وليس عليه حرج مادام يفهم ما يقرأ. حسبه ان يسكًن اخر الكلمات. كما نفعل نحن حين نقرأ. وبدلا من هذه القواعد النحوية يجب ان يتعلم الصبي اكبر مقدار مستطاع من الكلمات التي ترد في الجريدة والمجلة والمتجر والمصنع والدكان والمنزل. ولهذا السبب يجب ان تتوافر لديه كتب المطالعة السهلة التي تغذّي ذهنه بالمعارف الطريّة عن حياته الاجتماعية والسياسية وعن العلوم والفنون والدين.

اما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم اقل ما يستطاع من قواعد النحو ولا نبالي الاعراب الذي اثبت الاختبار انه لا فائدة منه بتاتا. لاننا كلنا نقرأ او نكتب دون ان نحتاج اليه. والوقوف في اواخر الكلمات اى اسكاتها هو الخطة السديدة التي يجب ان تتبع. وعندئذ يتوافر للتلاميذ الوقت لزيادة ما يدخرون من الكلمات. وهنا تدخل البلاغة, ونعني بلاغة المنطق اللغوي. للتمييز بين الكلمات من حيث الدقة والاقتصاد في التعبير. وليس من حيث الاعيب الصغار عن الاستعارات والمجازات كوجه القمر، وانت بحر .. الخ

يجب ان تكون لنا غاية اخلاقية في تعليم اللغة العربية الى جنب الغاية الثقافية. وهي تعويد التلميذ على القراءة حتى تعود حاجة ملحّة في نفسه لا يستطيع الاستغناء عنها طيلة عمره. ولهذا يجب ان تكون لديه مئات من الكتب التي تبسط له المعارف البشرية في عبارة مقتصدة تفتح له افاقا جديدة في كل عام من اعوام دراسته فثير استطلاعه
وتحمله على البحث والتسائل. ولهذا السبب يجب ان تتناول كتب المطالعة في المدرسة والبيت موضوعات البيولوجية والاجتماع والتراجم والكيمياء والاقتصاد والصناعة.

والمالوف في الوقت الحاضر ان تحتوي كتب المطالعة للاقسام الثانوية مقطوعات ادبية من كتب العرب قبل الف او خمسمائة سنة. ولكن هذه الكتب لا تثير الاستطلاع ولا تحمل التلميذ على التسائل والبحث والدراسة الذاتية ولا تعوده القراءة بعد ان يترك المدرسة بل حتى بعد ان يترك الجامعة. ولذلك يجب ان تؤلف الكتب الجديدة في المعارف العصرية التي تحث التلميذ على البحث.

وهنا يجب ان نذكر حادثا له قيمته العلمية. فقد حدث ان قصد فوج من طلبة احدى الجامعات الامريكية الى المانيا للتعلم. وكان منهم من شاء التخصص في اللغة والادب, ومن قصد الى التخصص في العلوم كالكيمياء او البيولوجية او الطبيعيات. فبعد عام من الدراسة اتضح ان الذين قضوا عامهم في دراسة اللغة والادب بالذات لم يحسنوا تعلم هذه اللغة لا كلاما ولا كتابة, كما احسنها اولئك الاخرون الذين قضوا عامهم في دراسة الكيمياء والبيولوجية والطبيعيات. وذلك لان الفريق الاول قضى وقته في دراسة نحو اللغة وبلاغتها في حين ان الاخرين قصدوا الى مادة علمية درسوها بالالمانية. فأتقنوا اللغة عن طريق دراسة هذه المواد.

يجب ان نسترشد بهذا المثل في تعليم اللغة العربية . فاننا نحسن تعليمها بقراءة الكتب التي تختلف موضوعاتها. لان هذا الاختلاف في الموضوعات يخصب الذهن تفكيرا وفهما كما انه يوفر للتلميذ مئات الكلمات التي تثير استطلاعه وتفهمه فيستزيد من القراءة ويستنير ويعرف اللغة بل يعرفها هذه المعرفة المتفاعلة المتجددة مع مجتمعه وعلومه وفنونه. اما اذا قصرناه على دراسة قواعد النحو والبلاغة وكتب الادب القديم . فانه يزهد ويقل استطلاعه او ينعدم لانه يجد انه قد تعب في استظهار كلمات لا تتفاعل مع مجتمعه وعلومه وفنونه.

اذن يجب ان تكون لنا غاية اخلاقية في تعليم اللغة العربية. الا وهي تعويد التلميذ القراءة بحيث لا يستطيع الكف عنها طيلة حياته. وغاية اخرى نتوخاها وهي تكوين شخصيته بالمناقشة والخطابة. ولا نعني بالخطابة تلك الحركات المثيرة البهلوانية التي تعتمد على قوة الذراعين والحنجرة اكثر مما تعتمد على الفهم والتمييز. وانما نعني ان نكثر من الموضوعات التي يطالعها التلاميذ مع المعلم. فتنشأ المناقشة المنيرة التي يتعلم منها التلميذ كيف يناقش وينتقد.

واذن يجب على معلم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية والثانوية ان يكون موسوعي المعارف يستطيع الشرح للموضوعات الاجتماعية والبيولوجية والسيكولوجية والتاريخية والفلكية. وعليه ايضا ان يعرف على الاقل لغة اجنبية او لغتين. كي يقارن بين العربية وبينهما. ويجدد في لغتنا بمقدار انتفاعه من الجديد فيهما. وانه لزهو مضحك ان يعتقد احدنا ان لغتنا تستطيع ان تعيش مستكفية. لا تستمد التعبير الحسن من الانكليزية او الفرنسية. وان عليها ان تجتر نفسها دون ان تتزود من المعارف العصرية, وهذا الاعتقاد من اكبر الاسباب للفاقة الثقافية التي نعاتيها في وقتنا الحاضر.

اذا كان الاساتذة في كلية الاداب في الجامعة او في كلية العلوم او كلية اللغة العربية راضين عن اللغة العربية. فرضاهم يمكن ان يعلل ويفسر من الناحية الاقتصادية الاجتماعية ولكنه لا يفسر من الناحية الثقافية. لان هذه اللغة لا ترضي رجلا مثقفا في العصر الراهن . اذ هي لا تخدم الامّة ولا ترقيها، لانها تعجز عن نقل نحو اكثر من مئة علم من العلوم التي تصوغ المستقبل وتكيفه.

وهذا السخط الذي يتولانا كلما فكرنا في حالتنا الثقافية, وتعطيل هذه اللغة عن الرقي الثقافي , تزيد حدته كلما فكرنا، وادى بنا التفكير الى اليقين بان اصلاحها مستطاع. والقلق عام، لكن الجبن عن الابتكار اعم. ولذلك قلما نجد الشجاعة للدعوة الى الاصلاح الجرئ الاّ في الرجال النابهين.

* مقتبس من البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here