العراق وإقليم کردستان ..أزمات مستدامة

العراق وإقليم کردستان ..أزمات مستدامة

تحسين قادر

مقدمة

لم يكن العراق عبر التاريخ المعاصر بلداً موحداً، إذ تم بعد الحرب العالمية الأولى ربط الولايات الثلاث، البصرة وبغداد والموصل وإلحاق جنوب كردستان قسراً بها بغرض تشكيل العراق الحالي منها. لا يمتلك أي من المكونات العراقية أي انتماء حقيقي للعراق، فكل منها ينتمي إلى نفسه وإلى الجذور الإثنية والمذهبية لھا خارج العراق، أكثر من انتمائه إلى العراق.

العراق الموحد

على مدى القرن العشرين وما مر من القرن الحادي والعشرين ظهرت أربعة اتجاهات سعت إلى تأسيس العراق الموحد وإعطاء المكونات القومية والدينية والمذهبية الهوية العراقية:

الاتجاه الأول: محاولة الإنكليز وفئات من الشخصيات البارزة للمكونات (بخاصة النخبة العربية السنية)، إذ كانوا يرومون تأسيس بلد دستوري تكون المواطنة فوق كل الاعتبارات والانتماءات الأخرى. لكن المشكلات البنیویة للمجتمع كانت عقبة أمام نجاح هذا الاتجاه، ومع حلول 14 تموز 1958 وإسقاط الملكية وتعطيل البرلمان وغروب سلطة الإنكليز.. فشلت تلك المحاولة.

الاتجاه الثاني: كان الحزب الشيوعي العراقي يسعى إلى تأسيس «وطن حر وشعب سعيد» من منظور وحدة الطبقة العاملة العراقية، إلا أن مسعى هذا الحزب لم يحالفه النجاح رغم النضال الدؤوب والتضحيات الكثيرة له. وبسبب تفاقم أسباب ذاتية وموضوعية، داخلية وعالمية، لم يستلم هذا الحزب السلطة، وفي النهاية تكبد خسائر فادحة، وراحت أتعابه أدراج الرياح، إذ تغلغله الانشقاقات والانقسامات، ورغم إخلاص الحزب ونواياه الطيبة، فإنه لا يستطيع اليوم، إلا بصعوبة بالغة جداً، الحصول على مقعد واحد في برلمان العراق أو في برلمان إقليم كردستان. ففي العراق والإقليم، يطغى ويسيطر القادة والعشائر والأحزاب المؤسسة باسم الدين والقومية والميليشيات على الوضع والموقف.

الاتجاه الثالث: الدكتاتورية والحزب الشمولي النامي بين السنة باسم الاتجاه القومي العربي، التي حكمت العراق من 1963 حتى 2003 بالحديد والنار ولم تتورع عن ممارسة العنف والإبادة الجماعية باسم عمليات الأنفال للمكون الكردي، وممارسة أقسى أنواع القتل والظلم إزاء الشيعة والمكونات الأخرى وكافة أنواع وأطياف والمعارضة! وفي النتيجة تسببوا في اشتعال حروب داخلية و خارجية متتالية.. ومن جانب آخر أبعدوا الشيعة والكرد عن السنة، وجعلوا من العراق سجناً وجحيماً للجميع (ما عدا الأقلية الحاكمة المتسلطة).

الاتجاه الرابع: وفي عام 2003 استأنفت وعاودت القوات الأمريكية المحاولة الانكليزية الفاشلة، بغية تأسيس عراق جديد يضم جميع المكونات مع الحقوق المتساوية، ومن أجل ذلك فرضت – عنوة – دستور عام 2005.

في الحقيقة، لم يكن عراق ما بعد 2003 جديداً بل كان محاكاة سافرة للعراق القديم، ولم يكن حديثاً بل كان قديماً من ثلاثة جوانب:

1- كانت النخبة وأصحاب القرار العربي يحملون الأفكار والبنى الأيديولوجية التقليدية للعراق القديم.

2- كان الطرف الكردي ملتزماً وأسيراً بفكرة الحكم الذاتي والاكتفاء به والحفاظ على وحدة العراق القديم. وما مشاركة هذا الطرف في العملية السياسية في العراق إلا من أجل المال والمحاصصة الإدارية والامتيازات الشخصية والأسرية والحزبية.

في الحقيقة، لم يكن القادة الأكراد والأحزاب الحاكمة في كردستان عراقيين ولا كردستانيين في الفكر والممارسة، بل كانوا ولا يزالون يفتقرون إلى استراتيجية قومية ووطنية واضحة ومدروسة، واتبعوا سياسة يومية وقصيرة الأمد للاحتفاظ بالسلطة وجمع المال لهم ولأبنائهم وذويهم.

3- أصر المجتمع الدولي – وبالأخص أمريكا – على إبقاء العراق القديم موحداً من منظور الجيوستراتيجية القديمة للحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، بخاصة في منطقة الخليج لصد المخاطر الإيرانية.

ويتضح ذلك من خلال ملاحظة الأمريكيين أن القادة الكرد (مثلما روى ذلك بريمر في مذكراته)، كانوا يولون المال أهمية كثيرة لهم ولأحزابهم… فلجأوا إلى اتباع سياسة الترغيب، لترويضهم وإقناعهم، فتيسر لهم تشكيل العراق القديم من جديد من دون أن يواجهوا أي مشكلة.

ونظراً لغياب ثقافة الديمقراطية وعدم الإيمان بسيادة القانون، وحرية التعبير والمساواة بين الأقوام والأديان والطوائف وحقوق الإنسان، باءت هذه المحاولة أيضا بالفشل، فأهملَ المكونُ الشيعي، بحكم الأكثرية في البرلمان والحكومة، تطبيقَ معظم فقرات الدستور (على سبيل المثال تشكيل المجلس الفيدرالي والمادة 140).

وفي الوقت الراهن يتراجع الشيعة عن الدستور بشكل رسمي وفعلي، يظهر ذلك من خلال اتخاذ الموقف المتشدد والمتشنج إزاء حقوق ومستحقات الإقليم، وإهمال حل مشاكل المناطق المتنازع عليها وحسمها، وإصدار عدد كبير من القوانين التي تحط وتقلل من قيمة وأهمية حقوق الإنسان!

ويشكل ذلك إحباطاً كبيراً لأمريكا بعد أفغانستان، خلال العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين، لذلك يُعد انسحاب أمريكا وقواتها أمراً متوقعاً.

يسلط المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه الموسوم (بناء الدولة) الضوءَ على ذلك الإحباط والتراجع الأمريكي.

ومن الأهمية بمكان، أن نذكر الجميع في هذا السياق، أن المفكر الكردي الدكتور برهان ياسين (الأستاذ الجامعي في السويد) قد أطلعَ القادةَ على مجموعة من التوقعات والسيناريوهات، في رسالة له وجهها إلى الحزبين الحاكمين في كردستان، منها مخاطر إعادة وتكرار المشروع البريطاني في ثوب أمريكي وتوقع إحباط هذا المشروع، مثلما وجدنا فشل المشروع البريطاني مع انهيار النظام الملكي السابق.

لقد صاغ الدكتور برهان ياسين توقعه هذا في سؤال: إذا كان المشروع البريطاني العراقي الداعي الى توحيد العراق قد انتهى في الثمانين سنة الماضية بتاريخ مليء بالدماء. فما الذي يضمن أن يكون المشروع نفسه ناجحاً في ثوبه وصيغته وصبغته الأمريكية. وفي الرسالة نفسها يثير الدكتور برهان سؤالاً مهماً أمام قيادة الحزبين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حين يقول متسائلاً: هل يشترك الكرد ويسهم في تأسيس وتشكيل دولة من جديد ثم ينصرف بعدئذ الى المطالبة بحقوقه من الدولة نفسها؟

بإمكان القارئ قراءة الرسالتين في الرابط أدناه:

http://burhanyassin.com/2%20name%20bo%20hkumetekan

ولابد من القول، أن الدكتور برهان قد انصرف منذ سنوات الى التنظير لخيبات أمل ثلاث: (ولمزيد من التفاصيل، ممكن الاطلاع على الرابط أدناه:

http://burhanyassin.com/Helbijardinekan-dr.%20Burhan%20Yassin

1- خيبة الأمل الناجمة عن موقف السنة ازاء الشيعة وموقف الشيعة ازاء السنة.

2- يأس الكرد من موقف الشيعة والسنة على حد سواء.

3- خيبة أمل أمريكا من مشروع العراق الموحد (عراق الشيعة والسنة والكرد)، أي اليأس من وهم العراق الجديد الذي أرادت أمريكا تشكيله لتضمن فيه مصالحها وتسعى إلى الحفاظ عليه.

يعتقد الباحث أن أحد السيناريوهات القوية المتوقعة هو وصول تلك الخيبات الثلاث إلى القمة في وقت واحد، حينئذ يصبح تفكك العراق أمراً حتمياً).

ويبدو أن المصالح الأمريكية والفرص والتهديدات في الشرق الأوسط التي تتمثل في (النفط والغاز، الأمن الإسرائيلي، الأسلحة النووية الفتاكة والعنف والإرهاب الإسلامي) يعاد النظر فيها، بمعنى أن الحكومة الأمريكية لا تتخلى عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، بل يتم العمل والتعامل معها بوسائل وسبل مختلفة، منها تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية التي بدأت بالإمارات والبحرين، والتي بالتأكيد ستعقبها سيناريوهات أخرى.

تجربة جنوب كردستان

كانت كردستان على مدى التاريخ ضحية المعادلات الدولية والإقليمية، ناهيك عن العوامل الداخلية. ولقد طرأت تغيرات على المعادلات الدولية منذ عام 1991 لصالح جنوب كردستان، وإن أهم ما تمخض عن هذا التغيير هو انتخابات البرلمان وتشكيل حكومة إقليم كردستان في عام 1992.

ومنذ عام 2003 استطاع الكرد بسط سيطرتهم على غالبية جنوب كردستان، من ضمنها مدينة كركوك، وسنحت الفرصة الذهبية لبناء حاضر ومستقبل مشرق للجميع. ولكن لعدم وجود قيادة تاريخية، والتحزب والصراع بين الأحزاب الحاكمة على السلطة والمال، لم يوضع ويُشرّع دستور لإقليم كردستان، وكنا نأمل ذلك، بعد أن توفرت آنذاك فرص ثمينة، قبل وضع الدستور للعراق.

ولم يُبذل (في السنوات الخمس عشرة الأخيرة) أي جهد باتجاه تحقيق ذلك، حيث لم تؤسس أجهزة ومؤسسات دستورية، ولم تفصل السلطات عن بعضها البعض، ولم تتحول الأحزاب إلى أحزاب مدنية مجردة من السلاح، ولم تُوحد قوى البيشمركة في إطار جيش نظامي وطني موحد، وأُهمِلَ تشيكلُ محاكم عادلة جريئة ونزيهة، ولم يكترثوا لإجراء الانتخابات في أجواء حرة ونزيهة، ليتم تداول السلطات في جو سلمي آمن.

ومن جانب آخر لم تتم صياغة البنى الاقتصادية والمالية المنتجة. وإضافة إلى ذلك لم يوضع نظام مصرفي وضريبي لضمان معالجة البطالة، ولم نجد تحركاً جدياً بهدف إنشاء سوق حرة، ولم تجر إحصائية، من جانب آخر لم يتم الحفاظ على حرية التعبير وحقوق الإنسان والسعي لتحقيق المساواة بين الجنسين…..

صفوة القول إنهم حالوا دون تحويل المجتمع المتحزب المسلح إلى مجتمع مدني حقيقي!

التشاؤم إزاء مستقبل العراق والإقليم

سأكون متشائماً في هذه الظروف بصدد توجه العراق، في ظل هذا النهج والبنى الطائفية المسلحة، نحو التمدين ومعالم الدستور، وقس على هذا النحو كردستان حيث لا نرى في ظل حكم القادة الجائرين والأحزاب المسلحة أي أفق رائق وواضح يبشر بالخير.

لقد عانينا الدمار ورأينا أشباح الحروب وعمليات الأنفال العسكرية والإبادة الجماعية، وهذه كلها تجارب مريرة في ماضينا، يُتَوَقَعُ ونتوقع حدوثها في راهننا ومستقبلنا کما جرى للإيزيديين.

إنها تجارب تسبقنا وتعيش معنا، حيث اقترفت جرائم إبادة بنوايا وأغراض طائفية ومذهبية مختلفة في بداية ظهور داعش وزواله. وبعد استفتاء 25 أيلول وهجمات 16 أكتوبر 2017 على سكان كركوك والمناطق المتنازع عليها.

ففي ظروف كهذه تتخلف الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للعراق وكردستان وتتفاقم أكثر حد الوصول إلى الانهيار والانحلال. ولا تثمر علاقات سلطات المركز مع سلطة الإقليم شيئاً لصالح الطبقات المسحوقة في كلا الطرفين، بل تصب في مساومات رخيصة وقصيرة الأمد للذود عن الامتيازات الشخصية والعائلية والحزبية لحكام كلا الطرفين، العراق والإقليم معاً.

ينال الشعب المظلوم في كردستان والعراق بشكل عام القسط الأوفر من البؤس والفاقه والعوز وخصوصا سكنة مناطق كردستان الخارجة عن حدود الإقليم، والأقليات القومية والدينية للمنطقة.. فيكونون الضحية الأولى في الصراع مثلما كانوا في الماضي.

بصيص أمل

إن توعية الفرد وتقويته لينال حريته وليتمتع بها، والوصول إلى قناعة تفيد ضرورة تَكَّون وبناء المجتمع من أفراد أحرار في ظل المساواة والعدالة على أساس المواطنة، وتمييزهم وتنظيمهم في إطارات مدنية متنوعة، خارج الحزب والسلطة المستبدة الفاسدة في العراق وكردستان، وبناء الحوار وتوطيد جسر العلاقات المتنوعة بين الأكاديميين والناشطين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني في العراق والإقليم، تكون مفتاحاً لحل الأزمات.

إن إحدى المشاكل الكبرى التي خلقت البؤس للشعب الكادح من كلا الطرفين، هي هذا الإطار العراقي المصطنع قسراً! الذي لا يستفيد منه سوى القادة الفاسدين والأحزاب والميليشيات العائدة لكلا الطرفين، لقد جعلوا من هذا الاطار حجة لعسكرة المجتمع وإشعال الحروب المتتالية التي لا يقف وراءها أي مبرر. «فالفاشية تولد الحرب.. وتخلق الحرب الفاشية».

من جانب آخر نرى أن كل طرف يلقي باللائمة على الطرف الآخر لإخفاء عيوبه ونواقصه الصارخة في الإدارة والحكم الرشيد. فعلى سبيل المثال تجعل الحكومة العراقية مسألة النفط والمعابر الحدودية وعدم تسليم الموارد الداخلية من قبل الإقليم حجة لإخفاء مساوئ حكمها الطائفي والفاسد، فيستشهد بأن الإقليم كله لا يساوي محافظة البصرة من حيث سعة الموارد!.

ومن جانب آخر اتخذت حكومة الإقليم من قطع رواتب الموظفين من قبل بغداد حجة تغطي بها إحباطها وعجزها في إدارة الحكم وفسادها المستشري في كردستان منذ ثلاثين عاماً!

ففي ظرف كهذا فشلَ المجتمعُ السياسي وأجهزة الحكم في العراق وكردستان في إدارة حكم البلد، وتطبيق الدستور، وحماية السلم والوئام الاجتماعي وحفظ حقوق الإنسان، وتأمين الحياة والعيش وضمان رواتب الموظفين. نعم فشلت في حماية الحدود وسيادتها على سماء وأرض البلد… والأخطر والأنكى من ذلك كله عدم تحقيق المساواة والوئام بين المكونات، بل على العكس من ذلك خُلقت وتُخلق أزمات مستدامة بينهما، إلى حد النزاع العنيف والحروب التي راح أبناء الفقراء ضحايا فيها وأصبحوا وقوداً لنارها.

من هنا ولهذا، سيكون حوار المفكرين والأكاديميين والنشطاء والمنظمات المدنية والنقابات الحقيقية والمتظاهرين لكلا الطرفين حول المواضيع كلها، بخاصة ما يتعلق بحق تقرير المصير وتفكيك هذا الإطار الخالق للأزمة والجور، شيئاً مصيرياً للجميع. وإن تحقيق حق تقرير المصير لشعب كردستان وكافة المكونات العراقية يخدم الجميع من دون أي تمييز.

وأود أن أقول بالتحديد، بقدر ما يكون استقلال كردستان مفيداً وضرورياً لشعب كردستان، بقدر ما يكون، بل على نحو أكثر، ضرورياً لتحرر شعب العراق وكافة مكوناته.

إن تغيير السلطة ونجاح النضال المدني والتخلص من هؤلاء القادة المستبدين والأحزاب الفاسدة والميليشيات العائلية والطائفية سيكون أسهل ويتيسر لكل مكون، إذا استقل الأكراد و کل مکون و أصبح لهم كيانهم الخاص.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here