هكذا كانت اوضاع الأمبراطورية العثمانية ! (*) د. رضا العطار
(* المعلومات التالية مقتبسة من كتاب عصر التكايا والرعايا لمؤلفه د. شاكر النابلسي) الذي يؤكد ان الفضل في تهيئة هذا البحث يعود الى امين كازاك، استاذ العلوم السياسية في جامعة كولورادو في الولايات المتحدة والى عزت سوبرو مدير المكتبة الالكترونية في بيروت. اللذان لعبا دورا محوريا في توفير المصادر النادرة لهذا الموضوع، علما ان معظم تاريخ فترة حكم الدولة العثمانية ما زال مخطوطا في خزائن الدول الاوربية والتركية وهي غير محقق وغير منشور.
يقول بطرس البستاني : اندفعت قبائل مغولية متوحشة من اواسط آسيا غربا واستقرت في آسيا العليا التي هي الان تركستان. فسماها الفرس توران، ومن هنا نشأ لفظ ترك، كما سماها اليونانيون تيران، ومعناها الطغاة.
أبان القرن الحادي عشر، شكل العثمانيون، وكانو افرد قبيلة واحدة سلطة في وسط الاناضول، و كانوا بدوا حديثو العهد في تشكيل كيان دولة، ولم يكن لهم علم في ادب او ثقافة او تجارة، ناهيك عن عدم معرفتهم بالسياسة و كيفية ادارة دولة. ثم توسعت سلطتهم على تخوم الساحل الاسيوي من بحر مرمرة، بقيادة جدهم الاعلى عثمان.
كانت طبيعة الارض القاسية التي نشأ عليها الاتراك ربّت فيهم القسوة والاصرار حتى رايناهم يثبتون اقدامهم على الساحل الاوربي ويهاجمون بلاد الصرب والاغريق والبلغار. وكانت القفزة الكبرى عندما استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1453
كان السلطان على راس الهرم السياسي في السلطة العثمانية. وكان حاكما فردا اوحد وكان ظل الله في الارض بكل معاني هذه الكلمة بل كان هو رب الارض. ياتي الى كرسي العرش بعد ان يخترق نهرا من الدماء التي يريقها من رقاب اخوته واولاد اخوته وبعض ابنائه من الحرائر وكافة ابنائه من الجواري، فالقانون العثماني يتيح للسلطان هذه الجرائم الشنيعة، بمباركة رجال الدين المسخرين، لكيلا ينافسه على السلطة المطلقة احد.
لم يك هيكل السيطرة العثمانية يعرف اية حدود جغرافية طبيعية، فطبقا للنظرية الكونية العثمانية، كان العالم ينقسم الى معسكرين (دار السلام) التي يسكنها المؤمنون الصادقون تحت راية السلطان. و(دار الحرب) وهي بقية العالم التي يسكنها الكفار الذين عليهم ان يخضعوا لجندالاسلام. لكن المفهوم السياسي الديني العثماني ل (دار الاسلام) تعدى هذا كله، عندما استخدم الاتراك الخبراء المسيحيين في الجيش لصنع المدافع العملاقة التي كانت تنافس غيرها بجهود الطواقم اليونانية المسيحية العاملة في البلاد الاسلامية.
كانت المفاهيم الاقتصادية هي التي تحدد المفاهيم الدينية في الدولة العثمانية. فعندما استولى السلطان محمد الفاتح على عقارات الاوقاف من اراضي ومبان واموال في طول الامبراطورية وعرضها، باركه في سرقته رجال الدين. وبالمقابل قام السلطان باشراكهم في هذه السرقة – – – فما دام رجال الدين يمررون الاوامر السلطانية ومباركتها دينيا، فإن السلطان ينفذ فتاويهم.
لقد ادى اتساع الامبراطورية العثمانية على هذا النحو الى تنشيط التجارة الداخلية وازدهار الاقتصاد من حيث ان كافة اسواق الدولة كانت مفتوحة على بعضها وموصولة ببعضها، من بلاد فارس حتى الهند ومن المغرب العربي الى المشرق العربي تتبادل السلع والمنافع بأمان، محمية بالقانون العثماني الصارم، مزودة بوسائل التجارة من خانات واستراحات للقوافل ومنازل للتجار ينزلون فيها في حلهم وترحالهم.
كانت الدولة العثمانية تدار بواسطة نظام الولايات، وكان على راس كل ولاية باشا، يعين من قبل السلطان باجور سنوية تتناسب وحجم الولاية وخيراتها، كانت دمشق اغلاها ثمنا حيث وصل المبلغ الى 400 الف قرش سنويا، يتحقق هذا المنصب عبر الغلمان والخصيان والجواري. وكانت هذه الاجور تزداد سنة بعد اخرى نظرا لتزايد الطلب عليها. وهذا الباشا يحاول ان يجور على الرعية، يسرق المال منهم بشتى الوسائل الخبيثة المتاحة، كي يسترجع ما دفعه للسلطان بل واكثر من ذلك بكثير.
وفي هذا السياق يقول الباحث الاجتماعي د. علي الوردي في كتابه لمحات من تاريخ العراق الحديث : ان الجباة الاتراك كانوا يهددون الفلاحين العراقيين الفقراء بكوي اجسادهم بالاسياخ الحامية ان لم يدفعوا لهم الضريبة المطلوبة.
كانت المؤسسة الدينية متشكلة بنسغ التنظيم الانكشاري ذو العقيدة الصوفية، المؤثرة في السياسة العثمانية وهي صاحبة القرار في تثبيت السلطان او خلعه، فاذا غضب الانكشاريون على السلطان، اصبح الاخير في خبر كان – – اما رجال الدين فقد كانوا في السلطة العثمانية يشكلون مع السلطان وحدة حكم واحدة – – وكان المجتمع ينقسم الى وحدتين واضحتين، السلطان ورجال الدين كطبقة حاكمة. وكان على راس المؤسسة الدينية شيخ الاسلام، وهو بمثابة البابا في المسيحية، وكانت علاقته بالسلطان علاقة موظف برئيسه، يغدق عليه لقب خليفة المسلمين و امير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين. – – وكان رجال الدين يمنعون تدريس العلوم الوضعية كالطب والهندسة والفيزياء والرياضيات واطلقوا عليها (العلوم الدخيلة) – – وعندما بنت الدولة مرصد فلكي، دمره رجال الدين. ولم يسمحوا بانشاء المطابع الا بعد ظهورها في اوربا بوقت طويل جدا.
اما من الناحية الاجتماعية فكانت الامبراطورية العثمانية تضم في داخلها خليطا متعددا من القوميات والاديان واللغات. فسكانها يتكونون من الاتراك والعرب والاوربيين والارمن واليهود والفرس. وكان فيها المسلمون والمسيحيون واليهود والوثنيون والملاحدة وعبدة النار. وكانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية بينما كانت اللغة العربية، لغة المؤسسة الدينية. والفارسية وهي لغة الادب والثقافة، والعبرية وهي لغة المال والتجارة.
افتتح اورخان ابن عثمان مؤسس الدولة اول مدرسة ابتدائية عام 1331 وتبع ذلك افتتاح مدارس اخرى، والى جانب ذلك انتشرت المساجد والمكتبات الدينية.
لكن عندما احتل العثمانيون العراق عام 1533 حرموا الطائفة الشيعية من التعليم الاولي طيلة حكمهم البغيض الذي دام اربعة قرون، وقبل سقوطهم بخمسة سنوات فقط سمحوا للشيعة لاول مرة من ان يفتحوا لهم مدرسة ابتدائية في بغداد اسموها بالمدرسة الجعفرية.
وفي هذا الصدد يقول كامل الجادرجي :
( رغم ان الطائفة الشيعية تشكل اغلبية سكان العراق الا ان السلطان العثماني اعتبرهم اقلية ونظر اليهم بعين العداء ولم يفسح لهم مجال العلم و الثقافة وحرمهم من المناصب الحكومية )
اما في مجال الموسيقى، فكانت خليطا من الموسيقى اليونانية والفارسية والهندية، اما الموسيقى التركية فكانت امتدادا الى الموسيقى السلجوقية. الا ان الموسيقى التركية تظل في كافة عهودها مدينة للموسيقي العبقري (عطري) الذي الف اكثر من الف مقطوعة موسيقية وابدع فيها.
اما في مجال الفن التشكيلي، فاقتصر على فن الخط الذي اسست له مدرسة خاصة.
اما ما يتعلق بالثقافة الغربية فقد اقتصرت على العلوم العسكرية. بعد ان كانت الاستانة قد اطلعت على الاكتشافات الجغرافية التي تمت في عصر النهضة.
اما العمارة التركية في الاناضول فكانت من اهم وابرز فنون العمارة التي خلفها لنا العثمانيون من حيث النقاء الفني حيث لم تختلط باي فن اخر من فنون العمارة للشعوب الاخرى. ففي الاناضول وجد الاتراك الصخور الضخمة الصلدة، استعملوها في بناء المساجد والمنارات والزخرفة الداخلية في القصور السلطانية و هي اهم مظاهر العمران البادية للعيان.
وفي اواخر القرن الحادي عشر بُنيت مدرستان في كل من خراسان ونيسابور، كان الهدف منهما هو تعليم اهل السنة الاساليب الكفيلة للحيلولة دون انتشار المذهب الشيعي.
ويذكر المؤرخون ان هذه الامثلة الثقافية التي جاء ذكرها في مختلف مراحل الامبراطورية، جاءت على شكل نبتات هنا وهناك، متفرقة غير مجتمعة، لم تستطع ان تشكل تيارا ثقافيا مميزا ومؤثرا في الثقافة الانسانية، خاصة ان هذه الثقافة لم تك قابلة للتلاقح مع ثقافات الانسانية للشعوب الاخرى، ما عدا الثقافة العربية، لكن بشكلها السلبي. هكذا بقت الثقافة العثمانية محصورة ومتقوقعة على نفسها، لهذا السبب عجزت الدولة العثمانية ان تنشأ حقول خصبة مثمرة في العالم العربي الاسلامي.