العبر من ثورة مارتن لوثر ؟

العبر من ثورة مارتن لوثر ؟ (*) بقلم د. رضا العطار

وكما رُمي الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد بالزندقة والالحاد وحرقت كتبه في الاندلس عام 1195 ، كذلك احرق اليهود كتب ابن ميمون لنزعته الاسطوطالية.
وقد ادانت محاكم التفتيش المسيحي سيجر دي برابانت الفيلسوف الفرنسي واستاذ الفلسفة في جامعة باريس والمبشر بآراء ارسطو وبآراء ابن رشد والذي كلأ كتبه بافكار الكندي والفارابي والغزالي وابن سينا وابن باجة وغيرهم، لكن هذا الفيلسوف العظيم قد اضطر الى الهروب الى ايطاليا، لكن يد الجهالة والغدر امتدت اليه واغتالته.

ولم يقف الاضطهاد الديني المسيحي للفلاسفة في اوربا عند هذا الحد، فقد عوقب توما الاكويني من قبل البابا بخروجه من على الدين لارائه التي كانت تقول ان الملائكة لا اجسام لها. وان الله لا يستطيف مضاعفة الافراد من غير مادة – – كذلك عوقب الراهب والمصلح الديني الايطالي سافو نارولا بالحرق في فلورنسا لخروجه على طاعة البابا.

ورغم ذلك كله ظهر في المانيا النجم الساطع مارتن لوثر في القرن السادس عشر الذي جاء من الكنيسة وتنبرج في العام 1517 راهبا، لينقلب على سلطة البابا ويشعل الثورة ضدها في كافة انحاء اوربا.
وقبل لوثر كانت الارضية الاوربية مهيأة لنقد الكنيسة وتصرفاتها نقدا مريرا. وكانت هناك حركة تطالب باصلاح مفاسد الكنيسة والرجوع الى بساطة المسيحية ونقاوتها. وكان بعض زعماء هذه الحركة هم حنا روخلس والعالمان جون وكليف وجون هس، وكلهم كانوا ينادون الى تخليص الكنيسة وما شابها من بدع وخرافات والدعوة الى رجال الدين الى الدين فقط. وترك الامور الدنيوية لاهل الادارة والسياسىة والاحتماع ووضع نظام يحول دون سيطرة الكنيسة على اموال الاوقاف والتبرعات والصدقات وصرفها على مظاهر البذخ والترف.

وعاصر لوثر المصلح الديني الهولندي جيرالد ارامس الذي ساهم في اثارة الراي العام ضد البابوية، فترجم الانجيل من اليونانية الى اللاتينية، ثم نشره باللغات الاوربية الحديثة. وخلصه من سيطرة رجال الدين.
اما ثورة لوثر العارمة ضد الكنيسة والتي فعلت فعل الكهرباء في النفوس فكان ملخصها العودة الى الكتاب ورفض تعاليم المؤسسة الدينية :
ان السلام بالايمان وحده وان العمل الصحيح هو العمل الذي يستند على الكتاب المقدس على الاعمال التي يطلبها رجال الدين في روما من اتباعهم المسيحيين في اوربا.

لقد كانت هذه الثورة ردا على قرار الكنيسة بيع صكوك الغفران واصدار لائحة بالخطايا واسعار غفرانها. فكان سعر غفران خطيئة الزنى (150 دوكية) وهي تساوي الى 210 دولار امريكي. وكانت الكنيسة لا تريد معاقبة او قتل المخطي بل تريده ان يدفع ثمن خطيئته نقدا. وتم تنظيم عملية دفع الاموال الطائلة نتيجة لبيع صكوك الغفران بواسطة البنوك، ففتحت الكنيسة حسابات لها في معظم البنوك الاوربية من اجل تسهيل بيع صكوك الغفران.

ولم تكتف الكنيسة بالاموال الخيالية التي تجنيها من بيعها لصكوك الغفران هذه بل سوقت المناصب الدينية وجعلت لكل منصب ديني وحتى منصب البابوية اسعارا محدودة معلومة، بالضبط كما كان العثمانيون في الشرق حين كان السلطان يؤجر المناصب الحكومية على الراغبين، يختار منهم من يدفع اكثر. – – والغريب في الامر ان البابا كان يبيع الرخص الدينية للزواج باكثر من واحدة للفرد الواحد، مخالفة ذلك للشرائع المسيحية كما هو معلوم.

وحمل لوثر جولة شنيعة على المصالح الاقتصادية البابوية التي كان البابا يجمع من ورائها كميات هائلة من الاموال حتى ان الامبراطور الالماني مكسمليان الاول قال :
ان دخل البابا السنوي من المانيا يساوي مئة مرة دخل الامبراطور نفسه. ومن هنا هاج الاباطرة الاوربيون ضد البابا وشجعوا حملة لوثر على الكنيسة ومميزاتها المالية الجشعة التي كانت تتمتع بها.

ومن هنا يتبين لنا ان الحملة اللوثرية على الكنيسة كانت بتشجيع من الساسة الاوبيين – وان سبب التبني الاصلاح الديني كان سببا اقتصاديا في الدرجة الاولى – – فلو ان الكنيسة كانت تمنح صكوك الغفران مجانا، لما قام لوثر بحركته الاصلاحية تلك ولما كان هناك موجب لها، ولما استطاع ان يستميل في دعوته الامير والخفير والاقطاعي والفقير، ولما تبنت دعوته وحمتها قصور السياسة واباطرتها. – – – وهكذا ظهرت فئة جديدة في تاريخ المسيحية وهي فئة البروتستانت اي المحتجين على قرارات الكنيسة الكاثوليكية التي كانت قد صدرت ضدهم.

وما يهمنا من هذه الحركة هو الاثر الثقافي الذي تركته هذه الحركة في اواسط المثقفين الاوبيين – فقد ادت ثورة لوثر الفكرية والدينية الى تفتح عقول الاوبيين بعد تحررهم من سلطة الكنيسة وسلطة الاقطاع كذلك فقد انتشرت افكار لوثر في كثير من الجامعات الاوربية واصبحت من ضمن المناهج الدراسية، مما ساعد على انتشار هذه الافكار التي اصبحت منارة واضحة من منارات النهضة الاوربية.

* مقتبس من كتاب عصر التكايا والرعايا لشاكر النابلسي مع التصرف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here