المكالمة الاولى….

كنت متأكدا قبل تلقي تلك المكالمة الهاتفية من انه لاتوجد ام في العالم تكره وليدها. وفي الواقع مازلت حتى اليوم اشك بوجود ام لاتحب فلذة كبدها. لكن ربما تجدر الاشارة الى مايُقال “ان لكل قاعدة شواذها”.

تبادرت الى ذهني هذه الخاطرة منذ ان وضعت سماعة الهاتف في عشها بعد تلك المكالمة التي اخبرني خلالها صوت نسائي ان صاحبة هذا الصوت تكره ابنتها وهذا الشعور ينغص عليها حياتها.

===

لتوضيح الامر، اقول انا اعمل في مطبوعة اسبوعية تصدر في استكهولم، وخلال ساعات معينة من وقت الدوام اتلقى مكالمات من قراء لايتكلمون السويدية وبدوري احاول الاجابة على تلك الاسئلة او اقوم بنقل كلام هؤلاء الى المختصين في الجريدة الذين يقومون بدورهم بالاجابة على الاسئلة اذا كانت في نطاق صلاحيتهم، اما اذا كانت خارج هذا النطاق فان المحرر المسؤول يحول الاسئلة الى جهات مختصة. ولكن تلك المكالمة الاخيرة لم تكن تتضمن سؤالا وانما مجرد خاطرة تشير الى ان المتكلمة تكره ابنتها ..ولكن لماذا وكيف؟ لااعلم.

استمرت تلك الخاطرة وانا على متن قطار الانفاق (المترو) في طريقي الى منزلي بعد انتهاء دوام العمل. انتقلت بخيالي الى سنوات خلت وتذكرت ماقاله احد اصدقائي، وكان ايضا زميل الدراسة وجاري في محلتنا الشعبية في بغداد،: “هل تعلم انني اكره بنت الجيران تلك” مشيرا باصبعه الى طفلة صغيرة واقفة امام باب دارها وتنظر الينا باعجاب بل وباكثر من اعجاب الى صاحبي بشكل خاص. لم تكن تلك الطفلة قد تجاوزت حسب تقديري ربيعها الخامس. اصبت بالذهول آنذاك من قول صاحبي ذاك وسألته: هل تكره هذه الطفلة البريئة؟.. ولكن لماذا؟ كانت اجابة صديقي آنذاك هو :”لاأعلم..الشئ الوحيد الذي اعرفه هو انني لااطيق رؤيتها وهي تبتسم لي. وكلما وجدتها وانا اخرج من بيتي تبتسم وتضحك في وجهي وكأنها ترى فارس احلامها اما انا فينتابني شعور بالغضب وتزداد كراهيتي لها”.

ربما تكون مشاعر الكراهية كمشاعر الحب والمودة لايعلم احد اسبابها. فكثيرون يسألون انفسهم:ترى لماذا احببت هذه الفتاة؟ هل لأنها جميلة؟ ربماتكون أجمل فتاة في نظري بل واحلى مخلوق في الكون الا ان غيري يرى ان جمالها عادي. لعلي احبها لأنها صاحبة أنوثة. لكن غيري لا يرى تلك الانوثة. وهل يأتي حبي لها بسبب عينيها اللتين ارى فيهما العالم كله؟ غيري يجد فيهما عينين عاديتين.

يقولون انه حب حقيقي عندما لايجد المحب سببا وراء التعلق بأنثى يحبها ولكن ماذا يمكن القول عن الكراهية. وهل هناك كراهية حقيقية واخرى غير حقيقية؟ ترى هل يمكن تحويل مشاعر الكراهية الى حب؟ قرأت سابقا ان ما يفصل الحب عن الكراهية شعرة واحدة فقط، وان تحويل الحب الى كراهية في حالات معينة امر ممكن.لكن هل ان هذا التحول سببه التعرف عن قرب الى الشخص المعني في حين ان عدم معرفة الآخر هو السبب وراء اتخاذ موقف سلبي منه؟

رقدت في فراشي بعد هذا اليوم المضني. ومع ان التعب كان قد احتل جسدي الا انني لم استطع الخلود الى النوم وبدلا من عد الارقام او الخراف لجأت الى مراجعة عبارات سمعتها خلال ساعات النهار، لاسيما الكلام الذي ورد في تلك المكالمة الغامضة “انها تكره ابنتها”.

لكي اعرف سبب هذه الكراهية كان علي الانتظار.. انتظار مكالمة جديدة من تلك المجهولة.. لعل بالامكان الاستفسار عن سبب تلك الكراهية؟ وكذلك توجيه السؤال الى هذه المجهولة: من هي، ؟ وماذا تريد ؟ وما تنتظر ان اقدمه لها؟

سأنتظر.. الى متى؟.. لااعرف؟ ومادمت انتظر دعوني اسرح في هذه الخاطرة واتعمق شيئا ما في ملف العلاقة بين الأم وابنتها و ما الذي يدفع هذه الام او تلك الى اتخاذ موقف عدائي حيال ابنتها او ابنها.

ان ما هو اقرب الى الواقع ان تضمر البنت مشاعر سلبية تجاه امها وليس العكس, فلقد قرأت وسمعت عن بنات لسن راضيات عن امهاتهن نظرا لاتخاذ الاخيرات مواقف متشددة مما تضعه البنات من لباس او لما يبدر عنهن من تصرف ترى فيه الأم بانه معيب. او بسبب منع الأم لابنتها الخروج من المنزل او مصاحبة هذه الصديقة او تلك. حينذاك قد تشعر الابنة بأن امها فقدت دورها وأصبحت مجرد امرأة قاسية ضاقت بمشاعر الأمومة. وآنذاك ربما تتخذ العلاقة بين الفتاة وأمها منحى تسوء فيها إلى درجة توحي وكأنها مشاعر كراهية.

اعتقد ان هذه الام (التي اتصلت بي) لاتقيم في بلادها بل في خارجها فلو كانت في بلادها فانها لم تكن تتردد في التوجه الى واحدة من “العرافات” او الى الشيخ، الذي هو رجل مسن يكون له المام اكثر من غيره بمثل هذه الامور.

ان الشيخ كان سيؤكد،على الارجح، بان الامومة فطرة وبذرة غرسها الله في ذات المرأة وانه ليس من المعقول ان تضمر الأم ، اي ام كانت، السوء او البغضاء لابنتها. الا ان خبير علم النفس والاجتماع ربما يضيف الى ذلك بان التربية الخاطئة التي تتلقاها الفتاة في طفولتها والذكريات السيئة التي تختزنها، تجعلها تصبح اما يختلف طباعها عن بقية الامهات، وان ذلك لعله يؤثر بشكل كبير على علاقتها بابنتها لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالأم التي عُوملت بقسوة في مختلف مراحل عمرها، قد لا تعامل ابنتها معاملة حسنة. وسيضيف هذا الخبير او الاخصائي إن مثل هؤلاء الأمهات يؤسّسن لمجتمع مريض نفسيا، ونحن لا نقول هذا الكلام لتوجه الاتهام للبنات بارتكاب حماقات تدفع الأمهات لمعاملتهن بهذه القسوة، لأن المطلوب من الأم أن تحتوي كل هذه الحماقات بصدر كبير، و أن توجه ابنتها الوجهة الصحيحة. ولعل فريقا آخر من الخبراء يضيف الى ذلك بان المحن او التجارب التي تمر بها الفتاة قبل ان تكون اما هي التي تغير مجريات الامور وتقلب الامور رأسا على عقب..

علي مصطفى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here