التنمية التشاركية بين الهيمنة والرتابة

التنمية التشاركية بين الهيمنة والرتابة

د. يوسف بن مير
مراكش

عرفت تحركات المجتمعات التشاركية زخمًا كبيرًا خلال مرحلة إعادة إعمار أوروبا بعد الإعلان عن نهاية الحرب العالمية الثانية وانسحاب الاستعمار، خاصة في القارة الإفريقية. ومع ذلك، فقد ظل نظام الإصلاح والتغيير المُعتمد محليًا آنذاك موضع شك كبير خلال سنوات حرجة، تلك الفترة التي ساد فيها نمط اتخاذ الممثلين السياسيين، نظرا لأفضليتهم المزعومة على بقية الشعب، أهم القرارات التي تتعلق بمشاريع التنمية.

كان القانون الأمريكي للمساعدات الخارجية لعام 1961، الصادر تحت قيادة الرئيس جون كينيدي، بمثابة محاولة لفصل المساعدة الإنمائية الأمريكية عن المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية للدولة. ويؤكد القانون على “أكبر مشاركة ممكنة” من الناس أنفسهم في تنمية شعوبهم.

لكن العقود اللاحقة أظهرت أن النماذج القائمة على عروض السوق من أجل التنمية، عبر خلق أعلى مستويات من النشاط الاقتصادي، كانت لها عواقب سلبية حيث خلقت أيضًا التبعية في الدول النامية. وأصبح اقتصاد هذه الأخيرة منظمًا بشكل متزايد لتلبية الاحتياجات الاستهلاكية للبلدان الأخرى. أما النهج التشاركي، الذي كان متداولًا على نطاق واسع في هذا الوقت كخيار أمام الناس لتحقيق سبل العيش الكريم، فقد صار منتشرًا أكثر بين رواد الفكر وبين المجتمعات التي لم تعد ترى في مستقبلها سوى انعكاس بسيط لأولويات الدول الخارجية، في حين كان الأولى أن يعكس الأولويات المستقلة لهذه الشعوب.

وبحلول تسعينيات القرن العشرين، أصبحت منهجية التنمية المستدامة سائدة بين هذه الفئات الساعية للنهوض بمجتمعاتها. هكذا تحول التركيز من النمط القديم نحو نهج الأنشطة التفاعلية التي تنطلق من مفهوم مساعدة المجتمعات المحلية على تحليل ماضيها، ودراسة الفرص المتاحة، وتحديد رؤياها الخاصة من أجل تحصيل الواقع الأفضل الذي يختارونه لأنفسهم أو الذي يبحثون عنه.

خلال العشر سنوات المنصرمة، برزت المزيد من الدول التي تبحث عن طرق لإضفاء الطابع المؤسسي على أسلوب التنمية التشاركية. إن كل المواثيق المحلية والوطنية، والبرامج والمبادرات الرامية للنهوض بتحرير المرأة، وكل فعاليات الحريات العامة الساعية للنهوض بمنظمات المجتمع المدني، موازاة مع جميع الدساتير، ومع أخذ جميع النصوص القانونية بعين الاعتبار، يتم نهجها في نهاية المطاف بنية دعم المسؤولين المنتخبين وخلق فوائد تعود على عامة الناس. كما أن البلدان التي أصبحت أنظمتها أكثر توجها نحو الإدارة اللامركزية، فإن تركيزها أصبح ينصب، بدل وضع سياسات وطنية تفرض المبادئ التشاركية، على نهج برامج أخرى تلبي هذه المتطلبات القانونية.

وهكذا، فمنذ أجيال مضت من النشاط التشاركي الذي لم ينل ثقة الرأي العام، ومع نموه التدريجي الراجع لعدم رضا الناس عن خيار الحلول القائمة على تقلبات السوق حسب رغبات البلدان الغنية، يتضح الآن أن المشاركة العامة من بين العوامل الأساسية لتحسن سبل العيش المستدامة، إن لم تكن هي السبيل الأنسب. وفي العقود الأخيرة، أصبحت المتطلبات التشاركية جزءًا لا يتجزأ من بنية المؤسسات. والمتوقع أنه خلال السنوات العشر القادمة، سنواجه تحديات رهيبة ومرهقة، وقد تكون مصيرية، تتمثل في تحقيق مشاركة الناس الفعلية في تنمية شعوبهم، سواء على الصعيد المحلي أو عبر دول العالم.

إن أنسب الحلول وأجدرها في هذا الصدد هو التحسين المستمر للأنشطة التي تمكن الناس من العمل معًا نحو تحقيق الأهداف التي حددوها لأنفسهم كمجموعة. حينها فقط ستصبح هذه الأنشطة مواتية وفعالة خاصة إذا تم إسنادها إلى التخصصات والسياقات الناجحة عبر العالم، ثم تكييفها مع مختلف الظروف المحددة.

كما يبقى من الضروري أن تتحد المجتمعات لمناقشة أفكارها، ثم التوصل إلى اتفاق حول الخطط التي ستنهجها لإنجاز المشاريع المتعلقة بالأنشطة الفلاحية والمياه وباقي ضروريات الحياة. بعد ذلك، يمكنهم دعم هذه الخطط عبر مختلف مصادر التمويل من جميع قطاعات المجتمع.

بالنظر إلى هذا الجدول الزمني، يبدوا التغير بين الماضي والحاضر جليًا. وبعد تردد رواد التنمية التشاركية في العقود والقرون السابقة، وانتشار بعض المعارضين حاليا، مثل تلك الدول التي تلقي بقيودها على المنظمات المدنية وتحد من حرية النساء والفتيات لدرجة لا يمكن استيعابها، فإن هذه التوجهات العامة والتجارب الخارجية غنية بالمعلومات لدرجة قد تمكننا من العمل بدقة أكبر من أجل تفعيل الحركات التشاركية في جميع الأماكن التي هي في أمس الحاجة إليها.

فلننظر إذا إلى المستقبل بتفاؤل على أمل أن تحقق السنوات العشر القادمة نسبة أعلى من حيث التنمية التشاركية، بأسلوب يتم تنزيله في جميع الميادين الممكنة، من أجل أن تعم فوائدها المستدامة، بما في ذلك الازدهار، حياتنا جميعًا.

الدكتور يوسف بن مير، رئيس مؤسسة الأطلس الكبير، المؤسسة المشرفة على برنامج من فلاح إلى فلاح في المغرب، والتابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here