دولة سومر، النبع الاول للحضارة الانسانية !

دولة سومر، النبع الاول للحضارة الانسانية ! (*) د. رضا العطار

اكتشاف !
من الثابت ان دولة سومر، قد اوجدت في القسم الجنوبي في بلاد النهرين اول حضارة انسانية كبرى قبل اكثر من خمسة الاف سنة، سواء آكان ذلك عن مصادفة تاريخية، او انه جاء كمحصلة للعديد من القوى الجغرافية والمناخية والعرقية وغيرها.

فأولى مدن البشرية انما نهضت على السهول الخصبة الخضراء المحيطة بالرافدين دجلة والفرات : واولى التسائلات الانسانية حول الصلات والروابط المعقدة القائمة بين الانسان وربه وعالمه، انبجست وتطورت في تلك المدن بالذات. فلا عجب اذن ان نشأت الرواية التاريخية بان آدم خلقه الله في جنة عدن، واقعة في مكان هو المكان عينه الذي ازدهرت فيه حضارة سومر. فلقد تشكّل في ذاكرة الانسان الجماعية حسّ بالوجود النقي الأول، مقترنا بالذهن النيّر للمواطن السومري.

وبعد دهور من الزمن انتقل الحال الى الشمال، الى حيث الكيان البابلي. الذي كانت الطبيعة تكمن في قوى كثيرة، منها ما كان يؤثر في مجرى الحياة من ناحية واحدة خاصة بما يتعلق بالافعال، واضحة الحدود، يستمد سلطته من احدى القوى العليا في النظام الهرمي الذي يتألف منه الكون ومانح السلطة انذاك، كما هي الحالة عليه لدى الاله انكي، او كونها تستمد قواها من صاحب أعلى القوى – آنو او انليل.

فكما ان الدولة البشرية تراكيب ثانوية عديدة على مستويات متباينة – العائلة والاسرة والمقاطعة..الخ – لكل منها نظامها ولكنها كلها مندمجة في تركيب الدولة الاكبر، هكذا كانت الدولة الكونية ايضا. فهي تشمل فئات ثانوية القوة : كالأسر الآلهية والبيوتات الالهية وذوي المقاطعات الآلهية، كل بخدمها وحشمها وبطانتها ومريديها.

ولكننا نأمل ان الهيكل الاساسي لنظرة سكان ما بين النهرين قد اصبح واضحا. والخلاصة : انه لم يكن في الكون البابلي – كما في كوننا نحن – شطران اساسيان للمادة هما الحي والجماد. كما لم يكن فيه مستويات واقعية متباينة : فكل ما يعرف بالحس او التجربة اوالفكر له بقاء ثابت وهو جزء من الكون. فكل ما في هذا الكون اذن، حيّا كان ام جمادا ام فكرة مجردة – كل حجر وكل شجرة وكل خاطر – يتمتع بأرادة ذاتية وشخصية خاصة.

ولذلك فان نظام الدنيا، ذلك الترتيب وذلك السياق اللذين يراهما الانسان في الكون – بعد ان جعله كونا مؤلفا بأجمعه من ذوات فردية – لم يكن ليتمثل في ذهن الانسان الاّ على نحو واحد هو : نظام من الارادات. فالكون ككل منسق له نظام ثابت.
ثم ان شكل الدولة الذي كان البابليون يرون الكون فيه هو الديمقراطية البدائية، اذ يبدو انها كانت شكل الدولة الشائع في العصر الذي ولدت فيه حضارة ما بين النهرين.

وفي الديمقراطية البدائية الاولى التي عرفت في عصور هذا البلد، بقى الاكثر نموا في العالم الكلاسيكي – كانت المساهمة في الحكومة من شأن جزء كبير من اعضاء الدولة بأستثناء الجزء الآخر. فمثلا لم يكن للعبيد والاطفال والنساء سهم في الحكومة في أثينا، كما لم يكن لهم صوت في دويلات المدن في ارض الرافدين. وقياسا على ذلك كان في الدولة الكونية عدد كبير ممن لا نفوذ لهم في السياسة ولا سهم لهم في الحكومة. ونذكر من بين هذا العدد – على سبيل المثال – الانسان. فقد كانت مكانته توازي بالضبط مكانة العبيد في دولة المدينة البشرية.

لقد كان ذوو النفوذ السياسي في الكون اولئك الذين استطاعوا بما فيهم من قدرات كامنة ان يوضعوا في مصاف الآلهة. فهم دون غيرهم المواطنون بحق، بالمعنى السياسي. وقد ذكرنا بعض المهمين منهم : السماء والعاصفة والارض والماء. وفضلا عن ذلك كان كل اله يعتبر تجليا او تجسيدا لأرادة وقدرة، تشاء ما تشاء. فأنليل مثلا هو الارادة والقدرة للهياج في احدى العواصف او لتدمير احدى المدن في هجوم يشنه اقوام همجيون يتدفقون من الجبال. وكل الهياج والتدمير يعد تجليا للجوهر نفسه. غير ان تحقيق هذه الارادات لا ينتهي الى الفوضى، لان لكل منها حدودا تفعل في نطاقها ومهمة تؤديها. فالارادة الواحدة مندمجة مع ارادات القوى الأخرى في نسق كلّي شامل يجعل من الكون تركيبا منظما واحدا.

إلاّ ان الكون البابلي حركيّ لا سكونيّ – كما هو الواجب في كل دولة. فتعيين المناصب والمهام لا يكوّن دولة بحد ذاته. لان الدولة انما هي التعاون فيما بين الارادات لصاحب هذه المناصب وتكييف الواحدة بموجب الاخرى، وفي تجميع قواها للعمل معا في القضايا التي تهم المجموع العام. ولتجميع الارادات والقوى يعقد الكون البابلي اجتماعا عاما للمواطنين كافة. ويرأس آنو الاجتماع ويسير فيه النقاش. فيبحث الاعضاء في القضايا المعطاة بين مؤيد ومعارض الى ان يتبين الرأي الغالب، وهكذا تتكون المصائر الكبيرة على هذا النحو.

* مقتبس من كتاب الواح طينية لصموئيل كريمر جامعة شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here