بقلم : نزار حاتم
يتفجر الوجع عنيفاً وصادماً كما لو أنه جمرةٌ تستقرُّ في نياط القلب لتتقد على نبضاته بهبوب الذكرياتالمجللة بآثار السياط والدم وصحيات الجموع في أقبية النظام البعثي الذي أحكم قبضته على الحكمفي العراق على مدى أكثر من ثلاثة عقود ليسجل على نفسه كل صور البشاعة والسادية والهمجية التيتتراجع دونها طواحين الطغاة الآخرين في التاريخ المعاصر .
حالما نتصفح مذكرات الخارج من الجحيم د . خلف عبد الصمد نتلمس بعمق حجم المأساة التي كانيعيشها الأحرار العراقيون في رحلة عذاب نجح الدكتور خلف في نقل مشهدها المسكون بالرعب بعد انطوى تلك الرحلة الصدئة بصمود الراسخين ويقين الموقنين بنهاية نظام لم يسجل في تاريخه السياسيمعنى للإنسانية وكرامة الإنسان.
كتاب (مذكراتي ) الذي سطره قلم الدكتور خلف عبد الصمد ليس ترفاً فكرياً ولا روايةً استدعى احداثهامن فضاءات التخيّل،، هي سيرة حياة حافلة بمحطات تبدأ وادعة في أحضان مدينة البصرة ذات الارثالحضاري والثقافي المكثّف فضلاً عن أهلها الطيبين ،المتماهين الى حد بعيد مع مدينتهم الوادعة التيتستظل بأفياء نخيلها الممتد على شط العرب والذي يسًاقط رطباً جنيا على رؤوس فقرائها والأثرياء علىحد سواء .
المحطات الأولى التي كانت في حياة صاحب ( مذكراتي ) تؤكد بجلاء طبيعة البصري التواق للحياةالسوية الخالية من العُقد والعدوان ، والمفعمة بحب الخير والعطاء وانتاج الثقافة والعلم والفنون والادابفضلاً عن الحميمية الدافئة في التعاطي مع الاخر .
واضح ان صاحب المذكرات قد عاش مطلع شبابه تواقاً للمعرفة بروح الشاب الطموح والمتفجر حيويةلشق طريقه نحو بناء مستقبله ،، متصالحاً مع نفسه ومع الاخرين من اقرانه الذين اختاروا كنفالاستقامة ورفض الذل والعدوانية .
هذا الرجل وأمثاله بسبب وعيهم المبكر قد رصدوا مخاطر حزب البعث على العراق وهم في عمر الصبا والشباب فوقفوا راسخين في خندق الضوء لمواجهة الظلام الذي كان يزداد قتامةً مع تقادم الأيام .
هؤلاء النخبة سرعان ما قدحوا جذوة الرفض للخطر الداهم في نفوس الآخرين ليكونوا قوافل لاتفتر عنالسير باتجاه الشمس ،، ولأن الأنظمة الدموية مضادة ٌ دوما لكل ما هو مضئ وفاضح للجريمة سارعالنظام الدموي السابق في العراق الى دفع الالاف من هؤلاء المشاعل الى غيابة الأقبية السوداء التييطحن فيها المجرمون أضلاع الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدىً كما زادهم صرير القيد إصراراًعلى المضي في رحلة العذاب حتى آخر الشوط .
صاحب المذكرات الناجي من الدولاب الدموي قد آثر من خلال صفحات مذكراته الموجعة أن يكتب علىسبّورة التاريخ المعاصر مشاهد عاشها بنفسه وشاهدها بعينيه وعاناها الى حد الإقدام على محاولاتالإنتحار مخافة أن تهوي الإرادة– تحت وطأة التعذيب – الى ما تأباه نفسه أن يكون سبباً في اعتقالالاخرين من رفاق الطريق.
أيّةُ عذابات يصبّها المجرمون على أجساد الرابضين في غياهب البعث ،، تلك التي تقودهم الى الغاءالذات عبر الانتحار !!
ملاحم من الوصول الى حافة الموت يصنعها الجلادون يومياً في حفلات التعذيب ضد الأحرار التواقينالى الخلاص من أبشع نظام دموي بنى سطوته على أوجاع ثروة البلاد البشرية ،، على مقاصل الاعدامالمجاني عبر محاكمات هي الاقرب الى المهازل التاريخية لتدفع ببناة المستقبل العراقي الى حتفهم بعدتغييبهم سنيناً طوالاً عن اهليهم في الزنازين التي كانت تضيق بأعدادهم لتصبح لحظات من النوم ورؤيةخيوط الشمس من الامنيات العزيزة.
مذكرات الدكتور خلف عبد الصمد تحكي حقبة ً تصعب مقاربتها من بعيد بقدر ما تستدعي الراغبين فيتقصي الحقائق الى قراءتها كما هي دونما رتوش بعيداً عن مقاربات الاخرين رغم اهميتها على صعيدالمعرفة لحجم المعاناة وأهوال الألم وفضح حقبة الإجرام التي رسم الشاعر الشهيد عبد الجليل الزبيديصورتها المأساوية بقوله :
(( قتلوني ولم أزلْ في ربيعي
مثلما يقتلُ الرعاعُ نبيّا))
انتهى
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط