حقا ان الثورة الفرنسية كانت للحكام المستبدين، درسا قاسيا !

حقا ان الثورة الفرنسية كانت للحكام المستبدين، درسا قاسيا ! (*) د. رضا العطار

يحكى عن لويس السادس عشر ملك فرنسا ايام الثورة الفرنسية، إنه أطل من نافذة سجنه في باريس عام 1789 فوجد الثوار يمرور في الشارع امامه حاملين نعش فولتير، وقد نقلوه من قبره الوضيع، يريدون الاحتفال بدفنه من جديد في ضريح عظماء فرنسا، تقديرا لخدماته الجلّى قبل عشرة سنوات التي ادت اخيرا الى اشعال نار الثورة، فقال: وهويشير الى جهة النعش: ( كل ما نحن فيه من مصائب وبلاء، جائنا من هذا الرجل )،

وكان لويس صادقا في قوله هذا، اذ ان الثورة الفرنسية التي سجلت حقوق الانسان اول مرة، كانت مصيبة وبلاء حقا على ملوك اوربا، لأنها سوف تقوض عروشهم وتفتح عهدا جديدا للنظام الجمهوري بدلا من الحكم الملكي المستبد. وقد هيأ لفرنسا هذا التغيير باقة من اعظم ادبائها وفلاسفتها، كان فولتير في مقدمتهم.

لم تكن الثورة الفرنسية خاصة بفرنسا وحدها، سواء من حيث حوادثها ام من حيث الفلسفة التي مهدت لها، ثم الفلسفة التي اثمرتها. ولما انتزع الفرنسيون حقوقهم من الملك والنبلاء لم ينصوا على انها ( حقوق الانسان ). و الثورة اقل ما نستطيع ان نصفها من الكلمات: نبلاء يعيشون بما ورثوا ويمتازون بالنظام الاقطاعي الذي يجعل لهم السيادة على الفلاحين العاملين في ارضهم وكأن هؤلاء الفلاحون موالي.

والفرق بين العبد والمولى، ان العبد سلعة تباع وتشترى في السوق وينقل كما تنقل اية سلعة من بلدة الى اخرى ومن قطر الى آخر. وهو يستخدم في البيت او في المتجر او في المزرعة. ولكن المولى الذي يستخدمه النبيل ويستغله لا يباع ولكن اذا شاء النبيل ان يبيع ضيعته فان المولى يباع معها، واذا هرب، يعاد ويعاقب. ولكن النبيل لا يستطيع ان يستخدمه في عمل في المدينة.

وقد كانت البلدان الاوربية عام 1200 للميلاد يتكون مجتمعها من الملوك، والنبلاء والموالي مع قليل من صغار التجار في المدن الصغيرة. وكانت المدن قد بزغت يعيش سكانها وهم احرار لهم مجالس بلدية تصون حريتهم وكانوا يعملون في الصناعة والتجارة والنقل والملاحة وكان بعض الموالي يفر اليها ويعيش حرا فيها. وكانت هذه المدن بطيئة في نموها لا تكاد احداها تزيد على حجم قرية كبيرة. لكنها كانت تتضخم رويدا رويدا وتتوسع خاصة بعد اكتشاف امريكا عام 1492لأن المواني الصغيرة التي كان معظم عملها ينحصر في اعمال الصيادين اصبحت مواني عالمية متصلة عن طريق التجارة العالمية مع قارة آسيا وافريقيا فضلا عن القارة الامريكية.

وهذا المجتمع الجديد الذي كان يعيش بغير الزراعة كان على كراهة للنظام الاقطاعي. لان التاجر والصانع كان كلاهما يستخدم العامل بالاجر، اما النبيل فكان يستخدم العامل اي المولى بالمجان اي بأطعامه فقط — وظهر هذا المجتمع الجديد وقوي وبرز الى الوجود السياسي في الامم الاوربية ذات الوزن التجاري كأنكلترا وهولندا والمانيا.
فكان الصدام الاول في انكلترا بين الملك الذي يمثل النبلاء الاقطاعيين من ناحية وبين المدن الحرة والزراعة الحرة من ناحية ثانية.

اما في فرنسا فقد تأخر هذا الصدام حتى انفجر في الثورة الكبرى. بعد ان هيأ خمارها المفكرون من ابنائها قبل مئة عام. وقد اكسبنا هؤلاء المفكرون كلمات الثورة التي استعملتها الشعوب بعد ذلك — وهذا المجتمع الجديد الذي قام بالثورة في فرنسا هو ما نسميه بالطبقة الوسطى التي لا تتالف من النبلاء ولا من العمال انما تقف بينهما وتعيش بالصناعة والتجارة واحيانا بالزراعة، لكن دون ان يستغل جهد الموالي فيها.

وكما هو الشأن في كل ثورة كانت طبقة النبلاء، التي تلتف حول عمودها وهو الملك مع حاشيته، تعرف لدى الشعب بالطبقة المنحلّة. تستهلك ولا تنتج. تتبذخ وتنحرف نحو اللهو الفاسق والعادات الداعرة، لا يحس افرادها بالمسؤوليات الاجتماعية، ولا يشعر احدهم بضرورة الارتقاء بشخصيته او مجتمعه. ولم يكن في كل هذا السلوك ما يؤاخذ عليه. لو لم تكن هناك هذه الطبقة المتوسطة الجديدة التي نشأت بنظريات جديدة عن الاخلاق العالية وشرف العمل.

وكان الصدام بين هذه الطبقة وبين النبلاء صداما بين المدينة بتجارها وصناعها وعمالها الاحرار وبين الريف بنبلائه ومواليه المستعبدين، وكانت المدن تجذب اليها عمال الريف ومواليه. وكانت المدينة مكان الحضارة والثقافة والصحافة، تؤلف فيها الكتب وتنشر الجرائد ويأخذ فيها السكان بالبدعة مكان الاعتقاد وبالشك مكان التسليم في حين كان الريف بقراه لا يزال يعيش كما لو كان قبل الف سنة. يسوده الجهل والخضوع والايمان الأعمى بالغيبيات.

كانت المدن في شبابها يقظة متحفزة وكان الريف في شيخوخته ناعسا مستسلما. ولكن هذه الحال لا تدعو الى الثورة اذ لا بد من اسراف يتجاوز حتى حدود الظلم والطغيان ولا بد من حادث يلهب المشاعر كما يفعل الثقاب.

* مقتبس من كتاب الثورات للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here