المرأة وسياسة حكومة الجمهورية الأولى 4-7

4-7
المرأة وسياسة حكومة الجمهورية الأولى

كاظم حبيب

فجرت الانتفاضة العسكرية وثورة الشعب في عام 1958 إلى حدود غير مألوفة طاقات المرأة في المدينة بشكل خاص، كجزء حيوي وأساسي من طاقات المرأة والشعب. فقد خرجت إلى الشوارع في مشاركة واعية بالمظاهرات العارمة التي عمت العاصمة بغداد وسائر أنحاء العراق. وبدأت المرأة بتنظيم صفوفها في رابطة المرأة وفي الشبيبة واتحاد الطلبة وفي النقابات العمالية وفي مختلف المجالات التي أمكنها خوضها حينذاك، ثم شاركت في المقاومة الشعبية وحملت السلاح للدفاع عن الجمهورية. وفي أول تعديل وزاري أدخل عبد الكريم قاسم أول امرأة في مجلس وزراء عراقي، وهي الطبيبة السيدة نزيهة الدليمي، باعتبارها رئيسة رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية، كما أنها كانت عضوا في الحزب الشيوعي العراقي. (ملاحظة: لم يكن إسناد منصب وزيرة شؤون البلديات إلى الدكتورة نزيهة الدليمي على أساس كونها شيوعية أو ممثلة للحزب الشيوعي العراقي، بل على أساس كونها امرأة أولاً وممثلة لرابطة المرأة العراقية ثانياً. إلا أن هذا الإسناد لم يكن بعيداً عن محاولة ترضية الحزب الشيوعي العراقي الذي لم يحظ بأي منصب وزاري في الوزارة الأولى للجمهورية العراقية، إذ كان قاسم يعرف، كما يعرف الجميع، بأن الدليمي كانت كادراً متقدماً في الحزب الشيوعي العراقي ثم أصبحت عضوة في اللجنة المركزية للحزب). وكان هذا الإسناد بمثابة التعبير عن دور المرأة في المجتمع العراقي الذي يراد إقامته، خاصة وأن دور رابطة المرأة العراقية قد اتسع بشكل واضح في تعبئة النساء العراقيات للمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي محو الأمية وصيانة الجمهورية، إضافة إلى دور الرابطة النضالي في الفترة التي سبقت الانتفاضة العسكرية. وبهذا الصدد كتبت الدكتورة سعاد خيري حول نشاط الرابطة لكسب المرأة وتعزيز دورها في العهد الجمهوري ما يلي: “بين ملايين النساء في المدينة والريف، فاستقطبت أعداداً كبيرة من بضع مئات تعمل سراً قبل الثورة إلى منظمة علنية تضم عشرين ألفاً في 8 آذار 1959 وبلغت (42) ألفاً في 8 آذار 1960 واعتمدت على قواها في فتح (78) مركزاً لمحو الأمية بلغ عدد الدارسات فيها (7503) امرأة وتطوع للتدريس في هذه المراكز (605) رابطية متعلمة واستطاع عدد من الدارسات أن يكملن تحصيلهن العلمي والتوظف أو العمل كعاملات فنيات. كما فتحت (111) مشغلاً لتعليم الخياطة وبعض المهن وأقامت للمتدربات الأسواق والمعارض وخرجت وجبات متعددة آهلات للعمل وأقامت المستوصفات في المناطق الشعبية والريفية وأبدعت الجوالة لترفع الوعي الوطني والصحي، في الوقت نفس، وتعالج النساء والأطفال الذين لم يتسن لهم العلاج الطبي طيلة حياتهم“. (أنظر: خيري، سعاد د.، ثورة 14 تموز، من تاريخ الحركة الثورية في العراق، ط 1، دار أبن خلدون، بيروت، 1980، ص 173). ولعبت الفتيات في المدارس المتوسطة والثانوية وكذلك الفتيات في المعاهد والكليات دوراً كبيراً في عملية التوعية الفكرية والسياسية والسعي إلى التعريف بحقوق المرأة ونشرها على نطاق واسع. ولا شك في أن الأحزاب السياسية العراقية قد لعبت دوراً مهماً في تنشيط هذه الحركة وفي دعم المرأة لانتزاع حقوقها. وكان لضغط الرابطة والأحزاب السياسية، وبشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي، الذي تبنى منذ سنوات طويلة حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، الدور البارز في صدور قانون الأحوال الشخصية الذي تضمن تصوراً نسبياً جديداً عن المرأة وحقوقها في العراق.
وكان صدور قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 أكبر إنجاز تحقق للمرأة في العراق في العهد الجمهوري الجديد، رغم جميع النواقص وتردد المشرع في صياغة الحقوق الأساسية التي تضمن حقوق المرأة ومساواتها الفعلية بالرجل. إذ يعتبر هذا القانون خطوة متقدمة على طريق طويل لتحرر المرأة من عبودية الرجل والمجتمع الذكوري والدولة الذكورية. فماذا تضمن هذا القانون بشأن المرأة من جوانب إيجابية ونواقص جدية إزاء حقوقها ودورها ومكانتها في المجتمع؟
حرك المشرع العراقي عدداً من المسائل الجوهرية بشأن المرأة والعائلة وحقوق المرأة الأساسية واختلف نسبياً في بعضها مع النص الأساسي الذي ورد في القانون باعتماده على الشريعة الإسلامية.
المسألة الأولى: إلغاء قانون دعاوى العشائر العراقية وما تضمنه من مواد مناهضة للمرأة وحقوقها الأساسية، وخاصة حق قتلها „غسلاً للعار“.
المسألة الثانية: تضمن القانون تشريعاً حول العائلة وتنظيم علاقاتها وبلور بعض الحقوق المهمة للمرأة، رغم بقاء القانون من حيث المضمون والشكل ذكورياً واضحاً.
المسألة الثالثة: مساواة الأنثى بالذكر في الإرث، أي تخلى عن القاعدة الواردة في القرآن „وللذكر مثل حظ الأنثيين“.
المسألة الرابعة: منع تعدد الزواج إلا بإذن من قاض شرعي وبشروط.
المسألة الخامسة: حق الأم برعاية الطفل في فترة الزواج وبعد الفراق.
المسألة السادسة: منع زواج البنت إلا بعد بلوغها سن الرشد وتوفر الصحة العقلية.
ولكن المشرع العراقي لم يستطع تجاوز الواقع القائم وطبيعة السلطة ذاتها وميزان القوى في المجتمع، إضافة إلى تأثير العادات والتقاليد والشريعة الإسلامية على المشرع ذاته، مما جعل القانون يحتوي على ثغرات كبيرة ونواقص جدية أبقت الكثير من القيود الثقيلة على كاهل المرأة العراقية ولم تسمح بتحريرها، كما أن الممارسة الفعلية للقانون من جانب أجهزة الدولة والمحاكم الشرعية قد أعاق أو عطل تنفيذ بنوده، ولكنه عمق من ممارسة الجوانب السلبية في القانون وواصل العمل وفق التشريعات السابقة، إذ أن القانون نفسه قد سمح بذلك من خلال صياغاته المرنة أو القلقة وغير الحاسمة للنصوص القانونية. ويمكن الإشارة إلى بعض سلبيات قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959،
المسألة الأولى: في الوقت الذي ألغى قانون دعاوى العشائر، ترك مجموعة من المواد القانونية في التشريعات الأخرى على حالها بحيث تسمح بممارسة قانون دعاوى العشائر بشأن المرأة مع واقع إلغاء ذلك القانون.
المسألة الثانية: لم يمنح المرأة حقها في الحصول على قطعة أرض زراعية ضمن عمليات توزيع الأراضي الزراعية وفق قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، إذ حصر ذلك بالرجل، إلا في حالة فقد المرأة لمعيلها ثم تفقد هذه الأرض إذا ارتضت بمعيل آخر من الرجال، في حين كان منح المرأة حق الحصول على قطعة أرض أسوة بالرجل يسمح للمرأة الريفية غير المتزوجة أو المطلقة بممارسة الزراعة وتأمين استقلالية اقتصادية لها عن الرجل.
المسألة الثالثة: عجز المشرع عن تجاوز القواعد التي فرضها التقاليد والعادات في عدم زواج المسلمة من امرأة كتابية، مسيحية أو مندائية.. إلخ، والعكس صحيح أيضاً. وبهذا واصل التمييز بين الناس على أساس الديانات والمذاهب.
المسألة الرابعة: عجز القانون الجديد عن الخروج عن الرؤية التقليدية للمرأة في المجتمع ألذكوري والتي كرست العلاقة بين المرأة والرجل على أساس أنها علاقة قائمة على النكاح وإنجاب الأطفال وتبعية المرأة المطلقة لزوجها، في حين أن العلاقة بين المرأة والرجل لا يمكن أن تبقى قائمة على تلك الأسس، بل يجب أن تنهض على أساس الشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات والاحترام المتبادل، حتى النكاح يفترض أن لا يفهم على أنه تمتع الرجل بالمرأة بل تمتع الطرفين بهذه العملية الجنسية التي يفترض أن تعبر عن حب متبادل ومسؤولية مشتركة إزاء العائلة. ومن هنا نلاحظ وجود مجموعة من معوقات تحرير المرأة أو تمتعها ببعض حقوقها، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– حق الرجل بالطلاق من زوجته متى شاء، في حين حدد حق المرأة في حالات معينة. وفي حالة إصرارها على الطلاق أو مغادرتها الدار الزوجية يحق للرجل اعتبارها ناشزاً، وبالتالي تحرم من الزواج طيلة حياتها. (خيري، سعاد د.، ثورة 14 تموز، مصدر سابق، ص 174). وفي الوقت الذي أعطى القانون للرجل حق الطلاق من زوجته في حالة ثبوت الخيانة الزوجية، حرم المرأة من هذا الحق في حالة قيام الرجل بخيانة الحياة الزوجية.
– عرَّف المشرع العراقي الزواج على „أنه عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل“، (رابطة المرأة العراقية،. نحو عام 2000: المرأة العراقية … الواقع والتحديات، ندوة عقدت في كولون/ألمانيا، كانون الأول 1999، مداخلة بعنوان: “تعامل القوانين العراقية مع المرأة“، للسيدة بشرى الحكيم. ص 63)، أي تصبح المرأة ملكاً له، كما تشير إلى ذلك بصواب الدكتورة سعاد خيري، (خيري، سعاد د.، ثورة 14 تموز،. مصدر سابق، ص 174). دون أن يؤكد على حقوقها وعلى دورها في الحياة الزوجية وحقها في اختيار شريك حياتها، رغم معرفة المشرع بأن الزواج من رجل معين يتم بالنسبة للمرأة في الغالب الأعم قسراً، بغض النظر عن إرادتها ورغبتها، وفي حالة الرفض يمكن للأب أو العم أو الآخر أن يجبرها بالضرب أو الحبس بالبيت أو حتى القتل في حالات معينة.
– منع المشرع فرض الزواج على المرأة أو الرجل واعتبره باطلاً في حالة حصوله، إذ نصت الفقرة الأولى من المادة التاسعة على ما يلي:
“1 – لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار إكراه أي شخص، ذكر كان أم أنثى على الزواج دون رضاه، ويعتبر عقد الزواج بالإكراه باطلاً، إذا لم يتم الدخول، كما لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار، منع من كان آهلاً للزواج، بموجب أحكام هذا القانون من الزواج”. (قانون الأحوال الشخصية وتعديلاته مع قرارات مجلس قيادة الثورة، منشورات مكتب الصباح للدعاية والنشر والإعلان، بغداد،1989، ص 22). كما فرضت الفقرة الثانية من المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العقوبة بالحبس ثلاث سنوات، وبالغرامة، أو بإحدى هاتين العقوبتين على من يخالف ذلك. وإذا كان المخالف للقانون من غير هؤلاء المنصوص عليهم بالقانون فتكون العقوبة بالحبس مدة لا تزيد على عشر سنوات ولا تقل عن ثلاث سنوات. (المصدر السابق نفسه، ص 22).
– كما لم يمنح المشرع جميع الحقوق الضرورية للمرأة في قانون العمل العراقي، بما في ذلك مساواة المرأة بالرجل في الأجر.
– نصت الفقرة الرابعة من المادة الثالثة على ما يلي: “لا يجوز الزواج بأكثر من واحدة إلا بأذن القاضي ويشترط لإعطاء الأذن تحقق الشرطين التاليين:-
أ – أن تكون للزوج كفاية مالية لإعالة أكثر من زوجة واحدة.
ب – أن تكون هناك مصلحة مشروعة”. (المصدر السابق نفسه، ص 19).
– من هذه الفقرة يتبين أن المشرع لم يحرم الزواج بأكثر من امرأة واحدة، بل سمح بذلك، ولكته حاول الحد منه من خلال منع غير القادرين مالياً على الزواج بأكثر من واحدة، إضافة لوجود مصلحة محددة للرجل بالزواج الثاني أو الثالث أو حتى الرابع. ومن تلك الحالات نشير إلى عدم إنجاب الزوجة للأطفال (العقم) أو المرض الذي يقعدها ويحرمها من المعايشة الزوجية الطبيعية. وأعطى المشرع للقاضي الحكم بمنع تعدد الزوجات في حالة نشوء خشية بعدم قدرة الرجل على ضمان العدل بين زوجاته. وفي حالة حصول ذلك خلافاً لقرار القاضي يحكم على المخالف بالحبس ستة شهور أو بغرامة قدرها مائة دينار أو بهما معاً.
– لم يشترط القانون تسجيل الزواج في المحاكم من أجل ضمان حقوق الطرفين، فترك ذلك عائماً مما يمنح الرجل حقوقاً أكبر من حقوق المرأة استناداً إلى التقاليد والأعراف السائدة.
– لم يمنح المشرع العراقي حق الطلاق للمرأة أسوة بالرجل، بل فرض على ذلك شرط توكيل الزوج أو تفويضه أو تفويض القاضي بذلك. وبهذا عمد إلى اعتبار المرأة من حيث المبدأ سلعة بيد الرجل فهو مالكها وهو الذي يمنحها حق المطالبة بالطلاق أو أن يقر القاضي ذلك، باعتبارها ناقصة العقل وغير قادرة على التصرف. ومنح القانون المرأة الحق للزوجة بطلب الطلاق في عدة حالات أبرزها أن حكم عليه بالسجن لفترة ثلاث سنوات أو أكثر أو هجرها لسنتين أو أكثر دون عذر مقبول لدى القاضي الشرعي، أو كان مصاباً بالعقم أو بعلة لا يؤمل زوالها أو رفضه الإنفاق عليها دون عذر مبرر، أو خيانة الرجل للزوجية …. (رابطة المرأة العراقية. نحو عام 2000: المرأة العراقية … الواقع والتحديات. ندوة عقدت في كولون/ألمانيا. كانون الأول 1999. مداخلة بعنوان: „تعامل القوانين العراقية مع المرأة“. للسيدة بشرى الحكيم. ص 69).
– وفي عام 1958 صدر القانون رقم 54 الذي تم بموجبه منع مزاولة البغاء ومكافحته على صعيد العراق، كما كان قبل ذلك قد صدر القانون رقم 41 لنفس السنة الذي شجع على إقامة إصلاحيات النساء لمساعدة النساء المومسات. ولكن هذا القانون الذي كان يبدو “تقدمياً” عجز عن أن يكون تقدمياً، إذ لم يوفر الأرضية الصالحة لمكافحة البغاء بصورة جديدة وبعيداً عن الإساءة لإنسانية النساء، ومنها توفير فرص العمل والاستقلالية المالية ومنع تعدد الزوجات الذي كان يقود إلى دفع بعض النسوة إلى ترك دورهن والعمل كمومسات في دور الدعارة أو إجبار البنات على الزواج بمن لا يرغبن فيهم أو ممارسة القسوة الشديدة ضد المرأة بما فيها الضرب والتهديد بالقتل أو الكبت الشديد اجتماعياً الموجه ضد المرأة أو اغتصاب النساء. ففي الوقت الذي أغلقت المواقع الرسمية لممارسة البغاء، أصبح البغاء منتشراً حيثما أمكن وعلى نطاق واسع وبعيداً عن الرقابة الصحية الضرورية على النساء المومسات ومنع انتشار الأمراض الجنسية بين النساء والرجال، رغم إن المشرع كان يعرف بأن البغاء هي أقدم مهنة في العالم. (أنظر: سلام خياط، البغاء عبر العصور: أقدم مهنة في العالم، رياض الريس للكتب والنشر، 1998).
لم يكن القانون رقم 188 لسنة 1959 سوى أداة مهمة، على نواقصه، بيد المرأة والقوى الديمقراطية للنضال في سبيل تحقيق تلك البنود وتطويرها ثم إجراء تغييرات أكثر عمقاً وشمولية لصالح المرأة. ولكن ما حدث هو عكس هذا الاتجاه تماماً. إذ أن جميع الدلائل والتحريات التي جرت في تلك الفترة كانت تشير إلى حقيقة أن تنفيذ بنود القانون التي اعتبرت إيجابية قد اصطدمت بمقاومة عنيفة من جانب المؤسسات الدينية الشيعية والسنية ومن القوى الرجعية والمحافظة، ومن المدعين بالدفاع عن الشريعة الإسلامية ومن العشائر والإقطاعيين. وكانت المحاكم تجمد وتعيق إصدار أي قرار لصالح المرأة بشأن توزيع الإرث أو منع الزواج بأكثر من امرأة واحدة أو الزواج المبكر للبنت التي لم يتجاوز عمرها سن الرشد.
ورغم ذلك انطلقت المرأة العراقية من خلال الزخم الذي أحدثته حركة الانتفاضة وثورة المجتمع والقوى الديمقراطية للمشاركة أكثر فأكثر في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية وفي احتلال بعض المراكز الإدارية المهمة وفي الدخول الأوسع للكليات والمعاهد العلمية والفنية والمهنية، والعمل في الصحافة والإعلام. ونشطت حركة المسرح العراقي لتدفع بالمرأة إلى مواقع جديدة وتكشف عن واقع حياتها المزرية التي عاشت في ظلها في العهد الملكي وأهمية تغيير ذلك.
كانت حملة القوى الرجعية المناهضة لحقوق المرأة قد تفاقمت وتداخلت مع الصراعات السياسية الأخرى، مما أعطاها بعداً جديداً، سواء بالنسبة للقوى المؤيدة وتلك المناهضة لحقوق المرأة. ومع اختلال التوازن الاجتماعي والسياسي لصالح القوى المناهضة للاتجاهات الديمقراطية والتقدمية في العراق، تزعزعت الأرضية التي كانت تقف عليها عملية الإصلاح الجديدة والبدايات الجادة لتغيير واقع المرأة لصالح القوى المناهضة لحقوق المرأة والذي لم يتجل في فترة ما قبل سقوط حكومة عبد الكريم قاسم، بل سبقت ذلك وفي فترة الجمهورية الأولى.
تراجع زخم الحركة الثورية وكذا الحركة الإصلاحية الاجتماعية في العراق منذ عام 1960/1961 في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى حدود بعيدة، وأصبح في نهاية عام 1962 وبداية عام 1963 بالحضيض، حين لم يستطع المجتمع أن يجد الصيغة المناسبة للحوار الديمقراطي السلمي لمعالجة المشكلات الداخلية والعربية، وبالتالي انتهى الصراع إلى نجاح ثورة الردة على مكتسبات المجتمع في السنوات المنصرمة، بما في ذلك الكثير من مضامين مكتسبات المرأة العراقية.
ورغم هذا التراجع النسبي في زخم العملية الثورية في العراق استطاعت المرأة تحقيق منجزات مهمة على صعيد تأمين بعض الحقوق التي أصبحت ممارستها أمراً طبيعياً مثل التعليم بمختلف مراحله والتوظف والاستخدام في أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص أو المشاركة في النشاط الصناعي إلى جانب القطاع الزراعي وقطاعات اقتصادية أخرى، وتكريس المشاركة في النشاط الاجتماعي مثل رابطة المرأة والطلبة والشبيبة والنقابات العمالية والجمعيات والأحزاب السياسية والمرافعات في المحاكم العراقية … الخ.
وإذا أخذنا جانباً واحداً من عملية ولوج المرأة لأخذ موقعها في مختلف مجالات الحياة، وهو التعليم، سنجد أن عام 1959 قد شهد نمواً ملموساً بعدد التلميذات والطالبات والمدرسات والمدارس الخاصة بالإناث، ولكن النسبة بقيت متواضعة كثيراً بالمقارنة مع عدد التلاميذ والطلاب والمدرسين والمدارس الخاصة بالذكور، رغم أن عدد نفوس الذكور والإناث في العراق كان متقارباً. ففي الوقت الذي قفز عدد الإناث في مختلف مراحل التعليم وفي جميع المدارس والمعاهد الرسمية والأهلية والأجنبية في العراق في العام الدراسي 1959-1960 إلى 199841 تلميذة وطالبة، بلغ عدد الذكور في نفس العام 604955، أي كان التناسب بينهما قياساً إلى المجموع العام 24،8 : 75،2 % على التوالي ولصالح الذكور. وينطبق هذا الأمر على عدد المدارس والمعاهد بصورة أكثر تمايزاً حيث بلغ مجموعها في العراق 1792 مدرسة موزعة بين الإناث والذكور وفق التناسب التالي: 15،1 : 84،9 %. أما بالنسبة إلى المعلمات والمعلمين والمدرسات والمدرسين فكان العدد الإجمالي البالغ 25101 موزعاً بين الإناث والذكور على النحو التالي: 31،8 : 68،2 % على التوالي. والرقم الأخير يعبر عن أن حصة كل معلم ومعلمة ومدرس ومدرسة من الذكور كان أكبر بكثير من حصته عند الإناث. وكان العدد الإجمالي للإناث والذكور قد قفز من 525278 تلميذاً وطالباً في العام الدراسي 1957-1958 إلى 804796 تلميذاً وطالباً في العام الدراسي 1959-1960، أي بنسبة زيادة قدرها 53،2 %. (أنظر: دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960. مصدر سابق. ص 487/488). وهي الظاهرة الأكثر إيجابية لفترة ما بعد الملكية في مجال التعليم، إذ أمكن تأمين استيعاب عدد أكبر من التلاميذ والتلميذات والطلاب والطالبات في مختلف مراحل الدراسة في العراق. ويمكن إجراء مقارنة مهمة بين عدد البنين والبنات الذين سجلوا في الصف الأول الابتدائي للفترة بين 1957-1958 و1962-1963 لنتبين مدى تأثير التغيرات الإيجابية التي طرأت على موقف الحكومة والمجتمع من التعليم للبنين والبنات.

عدد المسجلين والمسجلات في الصف الأول الابتدائي في العراق
للفترة 1957-1958 و1962-1963

منشورات مركز البحوث التربوية والنفسية. جامعة بغداد. 1971.

ويستدل من الجدول في أعلاه على أربع ملاحظات مهمة، وهي:
* تنامٍ ملموس ومهم في عدد التلاميذ والتلميذات المسجلات في السنة الأولى بشكل عام، بحث بلغت الزيادة خلال الفترة الواقعة بين 1957-1958 وبين 1962-1963 حوالي 71،2%.
* في الوقت الذي بلغ التناسب في عام 1957-1958 بين البنات والأولاد 25:75 %، تغير هذا التناسب في آخر سنة من هذه الفترة، أي 1962-1963 إلى 67،9:32،1 %. وهو تغير ملموس ومهم تحقق خلال فترة خمس سنوات فقط.
* كان لزخم الثورة أثر كبير جداً على العائلات العراقية بحيث اندفعت إلى تسجيل أولادها وبناتها في المدارس بالنظر إلى قرار الأخذ بنظام التعليم الإلزامي في المدارس الابتدائية، والذي أُخذ به تقريبا في أعقاب الانتصار على الملكية. وفي الفترة التي أعقبت قفزة عام 191960-1961 في تسجيل البنات في الصف الأول الابتدائي، برز تراجع ملموس في عدد الطالبات في حين استمر التدريس للأولاد قائم على قدم وساق.
* إن نسبة عالية من البنات لم يسجلن في السنة الأولى الابتدائية وفرضت عليهن الإقامة في البيت وعدم الذهاب إلى المدرسة، رغم إلزامية التعليم للبنات والبنين للدراسة الابتدائية، وهي نسبة تزيد كثيراً عن نصف عدد البنات المستحقات للتسجيل.
وهذا الواقع مرتبط بثلاث حقائق مهمة جداً، رغم الوضع الثوري الذي نشأ في العراق في أعقاب إسقاط الملكية، وهي:
نظرة التخلف والتمييز القائمة في المجتمع ولدى الرجال عموماً إزاء المرأة.
ضعف مستوى وعي الغالبية العظمى من المجتمع وعدم تقديرهم لأهمية ودور المرأة لا في العائلة فحسب، بل وفي المجتمع والدولة والاقتصاد الوطني.
المستوى المعيشي الواطئ للغالبية العظمى من السكان بحيث يتعذر عليهم توفير الموارد المالية الضرورية التي تسمح بدفع نفقات دراسة البنات أو حثهن على الدخول إلى المدرسة أو الاستجابة لمطالبهن كبقية الطالبات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here