سنهد عليكم “أم كوزكينا” بقلم ليوبوف روميانتسيفا

سنهد عليكم “أم كوزكينا”
بقلم ليوبوف روميانتسيفا
المصدر: “مستشارك السري” الروسي
“Ваш тайный советник”
ترجمة عادل حبه

أم كوزكينا (القنبلة الخارقة)

لم يكن العلماء الأمريكيون فحسب، بل أيضاً العلماء السوفييت الذين عبروا عن خشيتهم من أن تكون “قنبلة القيصر” النووية الحرارية التي أعلن عنها نيكيتا خروتشوف ستدمر كوكبنا.
ففي الثلاثين من تشرين الأول عام 1961، أجرى الاتحاد السوفيتي بنجاح تجربة أقوى قنبلة نووية حرارية في التاريخ التي بلغت شحنتها بما يعادل أكثر من 50 ميجا طن، وهي أقوى بآلاف المرات من القوة التدميرية للقنابل الأمريكية التي ألقيت على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وشهد العالم كله برعب التجربة السوفيتية، واعتقد الكثيرون، وليس بدون سبب، أن انفجار “قنبلة القيصر” سيكون له عواقب لا رجعة فيها على الأرض بأكملها.

سيف ديموقليس على رقاب الرأسماليين
أصبح ظهور “قنبلة القيصر” ممكناً “بفضل” الحرب الباردة وسباق التسلح بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. لقد كان الأمريكان على الدوام متقدمون بخطوة على الإتحاد السوفييتي، إذ كانت الولايات المتحدة أول من استخدم الأسلحة الذرية، وكان لديها المزيد من القنابل النووية. عندها قرر الاتحاد السوفيتي، من أجل اللحاق بالخصم، اتخاذ مسار مختلف كي يتجاوز الغرب ليس في حجم الاحتياطيات النووية، ولكن في قدرتها. وهكذا ظهرت فكرة القنبلة الخارقة، والتي ستصبح الأقوى في تاريخ البشرية.
بدأ تصميم وتطوير القنبلة AN602 في عام 1954 في ظل أقصى درجات السرية. وتم التخطيط لاستخدام طاقة يوفرها الاندماج النووي الحراري (ثم سميت هذه القنابل بالقنابل الهيدروجينية). ويمكن للقنبلة النووية الحرارية ذات الطاقة العالية أن تدمر العديد من مدن الخصم الكبيرة في ضربة واحدة دون إحداث تلوث إشعاعي كامل.
تم في البداية تنفيذ تطوير هذا السلاح في الموقع المسمى بمعهد الأبحاث رقم 1011 في مدينة تشيليابينسك-70 المغلقة. ثم تم نقل العمل فيه إلى مدينة Arzamas 16 سابقاً (والآن ساروف في منطقة نيجني نوفغورود). وشارك في المشروع أفضل علماء الفيزياء النووية في الاتحاد السوفيتي مثل أندريه ساخاروف وفيكتور أدامسكي وسامفيل كوتشاريانتس ويوري باباييف ويوري سميرنوف ويوري تروتنيف تحت قيادة الأكاديمي إيغور كورتشاتوف. وحذر أحد مصممي القنبلة الخارقة، أندريه ساخاروف، من مخاطر التجارب النووية في عام 1957.
في البداية، تم التخطيط لقنبلة ذات قوة تبلغ 100 ميغا طن (للمقارنة، إن القنابل التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي كانت بقوة 15 كيلو طن). تم تطوير هذا السلاح الهائل تحت المتابعة الشخصية لنيكيتا خروتشوف. ففي لقاء له بأحد علماء الفيزياء النووية، قال: “دع هذا المنتج يعلق على عنق الرأسماليين مثل سيف ديموقليس”. لكن وزن هذه القنبلة العملاقة سيكون 40 طناً، وهو ما سيشكل عقبة كأداء أمام نقلها إلى موقع الاختبار. وأعلن مصمم الطائرات الشهير أندريه توبوليف إنه لا توجد طائرة سوفيتية قادرة على رفع مثل هذا الوزن في الهواء. لذلك ، تقرر تقليل وزن القنبلة إلى 24 طناً، وتقليل قوة الانفجار إلى 50 ميجا طن.
موجة ذعر تجتاح الولايات المتحدة
في عام 1959، تم توقف مجمل العمل على مشروع AN602 بشكل غير متوقع: ففي تلك الفترة تم حدوث قدر من الدفئ في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، واختفت الحاجة إلى الإقدام على عمل يثير الرهبة مؤقتاً. لكن “الهدنة” لم تدم طويلاً: ففي بداية عام 1961، دخلت الحرب الباردة في جولة جديدة، وطالب نيكيتا خروتشوف من علماء الفيزياء النووية بإنهاء الوقفة، واختبار السلاح الخارق في فترة وجيزة. وكان من المفترض أن تكون “قنبلة القيصر” جاهزة مع إنعقاد المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي في تشرين الأول عام 1961.
لم يخف خروتشوف أنه كان يعد مفاجأة غير سارة للغرب. ففي أيلول عام 1961، وفي حديث مع سياسي أمريكي، أبلغ خروتشوف محدثه “سراً” هو :”سيكون لدينا قنبلة ذات قوة تعادل 100 مليون طن من مادة تي إن تي، ولدينا بالفعل مثل هذه القنبلة ولم يبق سوى تجربتها “. وتم نشر كلمات خروتشوف في صحيفة نيويورك تايمز. وقد قيل أن ابنة السياسي الأمريكي كانت حاضرة في المحادثة الجارية بين والدها وخروتشوف، ولم تستطع كبح دموعها بعد سماعها كلمات السكرتير العام. في نفس الوقت تقريباً، أطلق الصحفيون الغربيون الاسم على القنبلة المستقبلية. وبدأوا يطلقون عليها اسم “أم كوزكينا”، كتكرار لعبارة إستخدمها نيكيتا سيرجيفيتش، الذي علا صوته في الهيئة العامة للأمم المتحدة في نيويورك قائلاً: “سنهد عليكم أم كوزكينا!”. وتسببت تصريحات خروتشوف موجة من الذعر في الولايات المتحدة: كان الأمريكيون متأكدين من أن العالم أضحى على وشك حرب عالمية ثالثة، وبدأوا في إجراء تمارين لتجنب آثار انفجار نووي حراري في المدارس وعلى شاشات التلفزة. حتى أن أندريه ساخاروف، أحد مصممي القنبلة، كانت لديه شكوك حول مدى ملاءمة إستخدام هذا السلاح. فمن المعروف أنه قدم مذكرة إلى نيكيتا خروتشوف يطلب منه التخلي عن التجارب. لكن الأمين العام وصف كل المخاوف بـأنها “مجرد سيلان لعاب”.

خروتشوف:”لدينا 100 قنبلة نووية حرارية، أؤكد ذلك. ولكن إذا ما إستخدمناها ضد الخصم فإن زجاج نوافذنا ستتحطم هي الأخرى أيضاً”
واصل نيكيتا خروتشوف “الدعاية” للقنبلة في بلاده قبل أسبوعين من التجربة، حيث أعلن عنها في اليوم الأول من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني. وأشار:”قلنا أن لدينا قنبلة تزن 100 مليون طن من مادة تي إن تي. وهذا صحيح. لكننا لن نفجر مثل هذه القنبلة، لأننا إذا فجرناها حتى في الأماكن النائية، فعندئذ يمكنها حتى أن تدمر نوافذ بيوتنا (تصفيق عاصف). لذلك سنمتنع في الوقت الحاضر ولن نفجر هذه القنبلة. ولكن بتفجير القنبلة ذات قدرة 50 مليون، سنختبر قوة إنفجار القنبلة ذات القدرة 100 مليون. لكن كما قال أجدادنا، لا سمح الله ألا نضطر أبداً إلى تفجير هذه القنابل فوق أي منطقة “.
يجب تجنب التحليق فوق الانفجار في غضون 188 ثانية
كان من المقرر إجراء اختبارات قنبلة القيصر في نهاية تشرين الأول. وكانت قنبلة “أم كوزكينا” بحاجة إلى القيام بحلول تكنولوجية فريدة. لذلك، بالنسبة لحجمها على وجه التحديد، أجري تعديل على قاذفة Tu 95، بقاذفة أحدث سميت بـ Tu 95B. وتم اختيار إحدى جزر أرخبيل “نوفايا زيمليا” في أقصى الشمال كمكان للانفجار. لم تكن هناك رافعة مناسبة لنقل “قنبلة القيصر”، لذلك تم تركيب خط سكة حديد منفصل في الورشة حيث يتم تجميعها. وتم نقل القنبلة بالقطار، وتغيير المسار باستمرار حتى لا يكون هناك أي تسرب للمعلومات حول الوجهات الأولية والنهائية لمسار القطار.
كان المطار الذي أقلعت منه القاذفة يقع في هضبة كولا في قاعدة أولينيا الجوية. نظراً لحجمها الضخم، فإن “أم كوزكينا” لا يمكن أن تتناسب مع الطائرة، لذلك كان من الضروري قطع جزء من جسم الطائرة وربط القنبلة بأسفل بطن الطائرة مباشرة.
وتم التعامل مع طاقم القاذفة على غرار مفجرين انتحاريين. ولم يكن لدى طائرة Tu 95 B وقت كاف للطيران بعيداً عن موقع تفجير أقوى قنبلة في العالم. ومن أجل إنقاذ حياة الطاقم، تم ربط عدة مظلات عملاقة (نصف حجم ملعب كرة القدم) بالقنبلة أثناء الاختبارات. وكان من المفترض أن يؤدي هذا الإجراء إلى بطئ سقوط القنبلة مما يمنح الفرصة للطائرة الخروج من منطقة الإنفجار.
تم إسقاط “أم كوزكينا” من ارتفاع 10.5 ألف متر ( وهو الحد الأقصى للطائرات في ذلك الوقت)، وكان من المفترض أن يتم تفجيرها على ارتفاع 4 آلاف متر. وتم طلاء الطائرة بطلاء عاكس لمنعها من الاشتعال. وأعطي للطاقم، بقيادة القبطان أندريه دورنوفتسيف والملاح إيفان كليش، نظارات سوداء حتى لا يعميهم الضوء الصادر من الانفجار. غادر الطيارون في وقت مبكر من صباح يوم 30 تشرين الأول قاعدة أولينيا الجوية باتجاه “نوفايا زمليا”، ولم يكونا متأكدان من أنهم سيعودون. وحلقت طائرة أشبه بالورشة خلف الانتحاريين، حيث نصبت كامرات لتصوير ما سيحدث أثناء الإنفجار مع علماء لقياس مستوى الإشعاع.
في الوقت المحدد ، انفصلت القنبلة عن الطائرة. ونظراً لقلة كثافة الهواء في أعالي الأجواء، لم تبطئ المظلات بعد سقوطها على الفور. وحلقت الطائرات على إرتفاع قدره 39 كيلومتراً بأقصى سرعة هي 800 كيلومتر في الساعة، قبل 188 ثانية من الانفجار. وغمرت أشعة الإنفجار قمرة القيادة بضوء أبيض يثير العمى. وإرتفعت درجة الحرارة على متن الطائرة.
كانت مهمة الطيار هي الطيران بعيداً عن موجة الصدمة قدر الإمكان، لكنه مع ذلك تجاوزت Tu 95 B على مسافة 115 كيلومتراً فقط من نقطة الهبوط. وهبطت الطائرة إلى الأسفل ثم إلى الأعلى، وثم إلى الأسفل مرة أخرى. وانقطع الاتصال اللاسلكي مع الأرض لمدة 40 دقيقة في منطقة تبعد مائة كيلومتر داخل نصف قطر الانفجار. ولحسن الحظ، أبقى الطيار الطائرة في الهواء وعاد بأمان إلى القاعدة. ولم تعرف بشكل دقيق جرعة الإشعاع التي تلقاها الطاقم.
“كان هناك شعور لدينا بأن الأرض قد دمرت! ”
تمكن العاملون من إزالة آثار الانفجار، والكرة النارية ذات اللون الأبيض والأحمر (شمس صغيرة) التي ظهرت في السماء بقطر قدره 10 كيلومترات، وفطر ذري عملاق على إرتفاع 67 كيلومتراً. كل هذا سُجل لاحقاً في لقطات السجل الرسمي. ونقل العاملون مشاعرهم مما شاهدوه لاحقًا:”كان لدينا شعور بأن الأرض قد دمرت!”. وكما وصف أحد العاملين المشهد قائلاً:”رأينا فقاعة برتقالية فاتحة هائلة! إنها أشبه بكوكب المشتري، قوية ، واثقة ، وراضية عن نفسها، و تزحف ببطء دون ضجيج إلى الأعلى، وكل شيء راح يزداد. بعد ذلك، أتخت شكل القمع، وبدا وكأن الأرض بأكملها تنجرف إلى الأسفل”. وقال آخر: “كان المشهد مدهشاً وغير واقعي … على الأقل لا مثيل له على وجه الأرض”.
دارت موجة الصدمة حول الكرة الأرضية ثلاث مرات، وسجلت زيادة في الضغط ثلاث مرات خلال النهار في المحطة في نيوزيلندا. ووصلت الموجة الصوتية إلى جزيرة ديكسون، على بعد 800 كيلومتر.
الوضع في منطقة التجارب في نوفايا زيمليا

انفجار قنبلة القيصر في عام 1961 في الاتحاد السوفييتي
سمع شهود عيان دوي الانفجار وهم على مسافة ألف كيلومتر. وقال نينيتس، من الذين أعيد توطينهم خلال التجربة على بعد 500 كيلومتر من موقع الاختبار، إنهم سمعوا هديراً قوياً. في رأيهم ، كأنه صادر من روح شريرة تحاول تحرير نفسها من إبريق تحت الأرض.
على الرغم من “روعة” الانفجار، إلاّ أنه لم يتم تجاوز الأشعة الراديوئية التي تصاعدت بشكل خطير. بعد ساعتين من سقوط “قنبلة القيصر” ، وصل طاقم البحث إلى مركز الانفجار،حيث كان بإمكانهم العمل هناك دون أي خطر على صحتهم.
كان استعراض القوة العسكرية السوفيتية ناجحاً . فقد أدى الانفجار النووي الحراري للسوفييت الرهيب “أم كوزكينا ” إلى خوف العالم بأسره، لدرجة أنه تم تحقيق توازن هش ولكن متوازن في سباق التسلح بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. كان نيكيتا خروتشوف سعيداً بالنتائج، مما يثبت أن القنابل ذات “القوة غير المحدودة عملياً” يمكن تصميمها في الاتحاد السوفيتي.
وأعلن نيكيتا خروتشوف آنذاك:” لدينا 100 مليون قنبلة. هذا صحيح وأؤكد ذلك. ولكن إذا فجرناها في مكان ما حيث هو المقصود، فسيؤدي إلى تحطيم نوافذنا أيضاً. كانت تجربة “قنبلة القيصر” خطوة حاسمة صوب المفاوضات بشأن حظر تجارب الأسلحة الذرية في الغلاف الجوي وتحت الماء. وتم توقيع اتفاق وقف التجارب بعد عامين من الانفجار في نوفايا زمليا.

مقارنة بين قوة الإنفجارات النووية
كيف ستمر اختبارات AN602، لم يعرف أحد ذلك حتى النهاية ، بما في ذلك المطورين أنفسهم. نظراً لأن قنبلة بهذا الحجم لم يتم تفجيرها من قبل، وطرح العلماء سيناريوهات أكثر تشاؤماً. كان من المفترض أن قنبلة 100 ميغا طن ، بعد أن تنفجر على سطح الأرض، ستثير سلسلة من الزلازل المدمرة، أو حتى “اختراق” قشرة الأرض الرقيقة تماماً، وتسبب في إزاحة ستار الأرض على السطح. ولذلك أجريت الاختبارات في الهواء على ارتفاع أربعة آلاف متر. وتحكي نظرية أخرى عن أن الاندماج الحراري الذي تطلقه القنبلة سوف لا يمكن السيطرة عليه ويتحول إلى تفاعل نووي حراري مستدام ذاتياً في الغلاف الجوي، ويدمر كل شكل من أشكال الحياة على الكوكب. ولهذا السبب، فقد تقرر خفض القوة التصميمية للانفجار إلى النصف والتوقف عند قوة 50 ميغا طن. لكن في النهاية، كانت الاختبارات “هادئة” تماماً: حيث انطفأت كرة النار النووية الحرارية بعد فترة، وفي السماء لعدة أيام توهج شيء مشابه للأضواء الشمالية.
لقد عانت قطعان الرنة أكثر من غيرها من الإنفجار: تلك الحيوانات التي كانت على بعد أكثر من 500 كيلومتر من مركز الانفجار حيث مات حوالي سبعة ملايين رأس!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here