مقدمة في الديانات القديمة.. المنشور الثاني

مقدمة في الديانات القديمة

المنشور الثاني

علي الابراهيمي

المصريون القدماء كانوا يعتقدون بعقيدة التوحيد ذاتها التي اعتقد بها الانسان السومري الاول ، حيث ( نُون ) ، ( القديم ) ، ( اللانهائي ) ، ( العمق العظيم ) ، والوصفان الأخيران ليسا الا بمعنى ( السرمدي ) ، وهو ذات المعنى المستخدم لوصف الاله الإبراهيمي . وهنا من الغريب إدِّعاء باحث مثل ( ياروسلاف تشيرني ) انّ ذلك يعني إيمان قدماء المصريين بالفوضى ! .

و ( آتوم ) عنى به المصريون القدماء ( الكامل ، المطلق ، الموجود بذاته ، الأزلي ، الأقدم ، المتفرد ، الأوحد ) ، وربما يكون هو ذاته المخلوق الاول ل ( نُون ) ، لكن نجد انّ هذا التقريب بين المصطلحين يكون بعيداً عن ذهنية الباحث الغربي في الغالب ، لافتقاده للخلفية الفلسفية الشرقية العميقة . ثمّ أوجد ( آتوم ) – بنفخة منه – ( شو ) و ( وتفنوت ) ، وهما وصفان للطبيعة بحسب الباحثين ، وان حملهما الباحثون الغربيون – كالعادة – على محمل الآلهة . وهذا الإشكال في الحمل الخاطئ قد عانت منه الترجمات الغربية للعقائد السومرية ايضا ، كما صوّروا كلمة او علامة ( دنجير ) بمعنى الاله ، فيما لم يقصد بها السومريون سوى القداسة . وهذا الاشكال ناتج عن الخلفية الوثنية او المادية للمجتمعات الغربية . لكن يبقى هناك احتمال كبير ان يكون ( شو ) أيضاً مظهراً آخراً ل ( نُون ) و ( أتوم ) ، حيث هو اسم التجليّ من خلال الآيات الطبيعية ، حين خلق السماوات والأرض وملأ ما بينهما بآياته ، لا سيما ان اللاهوت المصري وصف ( شو ) باللامرئي وأنّ الابصار لا تدركه . ومن الغريب ايضا ان يحيل الباحثون هذه المعاني الى الرؤية اللاهوتية التثليثية الاقانيمية للمسيحية الرومانية ، وجعلهما متطابقتين ! .

كانت هناك على الدوام في مصر آلهة رئيسة وآلهة ثانوية ، وكانتا يشكّلان منظومة واحدة ، وانا لا اذهب الى الفهم الذي نتج عن بعض الآثاريين لتفسير ظاهرة دمج الآلهة الثانوية بآلهة اكبر كنتيجة لصراع سياسي او مناطقي ، لأنّ الكثير من تلك الآلهة الثانوية ظلت مقدسة ومحترمة حتى لدى المنتصر والغالب ، إنَّما كان السلوك هذا لدى المصريين يقوم على أساس المعتقد المصري ذاته ، الذي يؤمن بوجود عالم اخر ، تسكنه كائنات خفيّة ، مترتبة بصورة طبقية ، لذلك كان فيها من هو ذو نفوذ في عالمه وبالتالي في عالمنا ايضا ، وكان هناك من هو أقلّ شأناً ، لكنّه كان قادرًا على التواصل مع مناطق محددة ، لا تهدد نفوذ الكائن ذي النفوذ ، وبالتالي ليس من الغريب ان يتم دمج هذه الآلهة والربط بينها .

ومن الطبيعي انّ الانحراف في الفكر الديني المصري بدأ ينتشر خلال فترات زمنية متباعدة ، كما هو الحال مع الانحراف في المجتمعات التوحيدية العراقية ، لكنّ شيئاً ظهر فجأ ذهب بالدِّين المصري بعيدا ، فانغمس كليًّا في منهج الميتافيزيقيا العكسية . والواضح من الاستعراض التاريخي للعقائد في مصر انّ هناك تعمّداً في دمج نظرية الخلق الاولى – التوحيدية ربما – مع قصص وأساطير اخرى ، لخلط الأوراق وإشباع صور الشخصيات والحوادث فيها بألوان جديدة تناسب ذلك الظهور المفاجئ . وسيأتي لاحقاً بعض ملامح هذا الدمج ، وسيتبين لماذا نعتقد بذلك .

انّ النتيجة المباشرة لهذا الخلط العقائدي الغريب وتشوّه الأفكار بمرور الزمن هي ظهور مفهوم الآلهة المادية ، المرتبطة بالماورائيات ، ذات القدرات الخارقة ، يصحب ذلك الكثير من الطقوس والسلوكيات الناشئة عن تلك الاعتقادات ، والتي تتطور مع الزمن بنحو اكثر تعقيدا .

يمكننا تقسيم الآلهة المصرية في الفترة العكسية – التي اعقبت الفترة الشبيهة بالتوحيدية – الى مستويين ، آلهة رئيسة ، وآلهة ثانوية او محلية . وربما اندمجت الآلهة المحلية مع الرئيسة في فترة من الفترات لإنتاج اله جديد رئيس .

يمكننا القول انّ واحداً من اقدم الآلهة المصرية التي تعود لعصر ما قبل الأسرات هو الاله ( مين ) ، الذي يتم تصويره على شكل رجل منتصب يرتدي رداء ضيّقاً ويرفع احدى يديه بالسوط ويخفي الاخرى تحت ردائه .

من الآلهة الرئيسة ( آمون ) الخفي ، ومعبود الدولة الحديثة ، والذي يتم دمجه عادة بآلهة رئيسة اخرى ، و ( رع ) وهو اهم الآلهة المصرية وأشهرها ورئيس مجمعها التاسوعي ، والمسافر الدائم على مركب الآلهة ، اللذان اندمجا لاحقاً في الاله ( آمون – رع ) . وهناك أيضاً الاله ( حورس ) البعيد ، الذي اشتهر في الأسطورة المصرية الكبرى ( اوزيريس وست وإيزيس ) كابن لاوزيريس وإيزيس ، والمنتقم من عمه ست . والإله ( اوزيريس ) حاكم عالم الموتى ، و الرمز الكبير لضحايا الحسد ، والذي قتله اخوه ست ، واراد أخذ زوجته ( اختهما معا ) . والإله ( بتاح ) رب الصناعات والفنون او خالقهما . والإله ( ست ) رمز الشر لأنه قتل اخاه اوزيريس ، لكنه المقدس ضمن التاسوع الالهي .

وربما كانت هذه الآلهة تظهر في مناطق متعددة ، لتحمل عناوين متعددة ، رغم وحدة الظهور ، مثل ظهور ( ست ) بصورة ( آشو ) . وأحيانا يكون الاله هو ابن لأحد الآلهة الكبار ، فيأخذ أهميته من ذلك البعد النسبي والقوة التي يملكها ايضا ، كما هو الاله ( أنوبيس ) .

او انّ الآلهة تكون زوجة لأحد الآلهة ، وهي ذاتها تكون مهمة ايضا ، كالآلهة ( إيزيس ) ، زوجة الاله ( اوزيريس ) ، وأم الاله ( حورس ) ، والتي انتشرت عبادتها في أوربا بصورة كبيرة في العهد اليوناني الروماني .

وهناك ما ارى انها عناوين لقوى مقدسة ، لا انها اسماء لآلهة ، وهذا ما تحويه الهالة التقديسية الخاصة بها كالعنوان ( سخمت ) ، والعنوان ( أبيس ) ، و ( سرقت ) ، و ( سكر/ سوكر ) ، و ( يوسعاس ) ، ربما كانت وسائط عمل الآلهة بايّ صورة كانت ، وربما هي مجموعة من الآلهة الفرعية العاملة تحت نظر الآلهة الكبرى . وهناك احتمال اخر أتبناه ان تكون هذه العناوين تشير الى وسائل تكنولوجية ، استخدمت من قبل هذه الآلهة المفترضة ، مما ابهر المصريين ونفعهم ايضا .

او تكون تلك الآلهة في الواقع ليست سوى بشر مقدّس لدى المصريين ، كانت له إنجازات او خوارق ، او ربما اخطأ الباحثون في ترجمة رؤية المصريين لقدسيته ، كما هو الاله ( إيمحتب ) ، الذي كان مهندساً معمارياً للملك ( زوسر ) . وعلى هذا الواقع يمكن احتمال وجود اله بشري اخر هو ( ددون ) ، الشاب الصعيدي الذي يحمل البخور .

وبعض الآلهة كان يوصف بانه رسول الآلهة كالإله ( تحوت ) ، مما يعني انه ليس إلهاً بالمعنى الفلسفي ، ومع ذلك تم وصفه بانه رب الكتابة ، وهذا ما يشير الى معنى اخر يرتبط بتكنولوجيا تواصل الآلهة مع المصريين ، لا سيما انه ارتبط بالقمر ، وبه ارتبطت الآلهة ( سشات ) آلهة المعرفة والكتابة . ويشبه ( تحوت ) اله اخر هو ( خنسو ) ، او ( الهائم على وجهه ) كما ترجمه المتخصصون ، والذي لا يعني اكثر من ( المسافر ) بلغتنا الحديثة ، وعلاقته دائمة مع ( آمون ) وحركته ، وتم ربطه بالقمر ايضا ، مما يعني انّ الآلهة الرسولية او الناقلة كان يتم الإشارة اليها برمز القمر ، او الشمس كما حدث مع الاله الكبير ( رع ) .

وأحيانا لم تكن تلك الآلهة المفترضة سوى وصف لحالة مكانية او زمانية ، ارتبطت لدى المصريين بمعاني بُعدية محددة ، كالإله ( جب ) اله الارض ، والآلهة ( نوت ) آلهة السماء ، الذين اعتبر الباحثون انّ المصريين قالوا بزواجهما ، وهو امر مستبعد اذا فكّرنا بعقل المصري ذاته ، لكن ربما كان المصريون يعتقدون بارتباط هاتين الحالتين بعلاقة ما ، منتجة لعلاقات اخرى .

وقد نفهم بعض تلك الآلهة على نحو مخالف لما هو شائع ، كالآلة ( حتحور ) ، التي تعني ( بيت / مقر حورس ) ، والتي اعتبرها بعض الباحثين زوجته ، فيما ترجمة اسمها قد تعني وسيلة انتقاله ، او مقر قيادته فقط ، خصوصاً انها ذاتها تُسمى ( عين رع ) ، وأنها القوة التي دمّرت اعدائه .

وبعض تلك الآلهة ليست الا مسميات لحالات تواصل الآلهة وأوامرها ، كالآلهة ( حكا ) و ( حو ) و ( سيا ) ، التي تصاحب مركب الاله ، وتعبّر عن حالات مثل النطق والسحر ، والأخير ربما ليس اكثر من وصف لتقنيات تلك الآلهة .

أمّا اله مثل ( خنوم ) فيبدو محيراً للباحث ، حيث يعني اسمه ( الخالق ) ، وفي ظلّ وجود آلهة خالقة ك ( نُون ) و ( أتوم ) و ( شو ) يكون وجوده مستقلّاً أمراً غير مستساغ و غير متوافق مع المنطق العقلي ، لذلك يمكن ان يكون وصفاً آخراً لإله اخر . وعلى ذلك نحمل الثنائي الاخر في ثالوث ( خنوم ) المتمثل بالالهتين ( ساتت ) و ( عنقت ) .

فيما هناك آلهة مستوردة ووافدة من اسيا او غيرها ، كالإلهة ( رشبو ) و ( بعل ) و ( سبد ) و ( عشتارت ) و ( عنات ) و ( قادش ) . وآلهة اخرى ارتبطت بمعاني الزمن او المواسم ، مثل الآلهة ( رنبت ) المرتبطة بالسنة ، والآلهة ( رننوت ) المرتبطة بالقدر ، ويشابهها الاله ( شاي ) ، والآلهة ( رننوتت ) المرتبطة بالحصاد .

وكانت هناك أيضاً آلهة لوصف فلسفة النظام الكوني ، وتثبيت العدالة والحق والنظام كمقدس حاكم على الوجود الكوني والتشريعي ، مثل الآلهة ( ماعت ) ، التي تصف الأساس الذي خُلق عليه العالم .

انّ ارتباط آلهة مثل ( رع ) وهو اله رئيس مسافر دائماً مع آلهة اخرى تجسيدية رمزية مثل ( حكا ) التي ترمز للسحر – او الفيزياء بالمصطلح الحديث – و ( سيا ) التي تشير للذكاء والمعرفة و ( حو ) التي تجسّد الأوامر الصوتية للإله يعطي معنى اخر لفهم حقيقة الآلهة الفرعونية ، ويدفعنا بعيداً عن الفهم المُتكلَّف والساذج للباحثين الغربيين . فهنا يبدو واضحاً ان المصريين كانوا يتحدثون عن ظواهر ذكية ابهرتهم ، ويصفون مظاهرها بمصطلحات عديدة .

وكانت هناك آلهة من نوع خاص ، احتفظت بهيبة ناتجة عن خوف المصريين منها ، مثل الاله ( مونتو ) اله الحرب وحامي الملك ، والإله ( نحب كاو ) الذي يتم تصويره كثعبان برأسين وجسد بشري ، يرافق الاله ( رع ) في قاربه كحارس له . وكذلك هناك الآلهة المرعبة ( نيت ) ، وهي حامية للملك ايضا ، واحدى بنات ( رع ) . ومن آلهة السحر ( ورت حكاو ) .

ولعلّ الملفت في تصوير النقوش المصرية للآلهة تعدد مظاهرها وغلبة الصفة الحيوانية عليها او ما يتم تصويره كذلك من خلال الترجمات المتكلفة . لقد استخدم المصريون أشكال العجل والثعبان وابن اوى وطائر إبيس والصقر والاسد وغيرها كثير ، وكذلك استخدموا الشمس والنجوم والقمر .

لكن الملفت هو ظهور الآلهة بصورة هجينة ، تجمع بين رأس حيواني وجسد بشري ، وليس من الواضح الحكمة من ذلك اذا اعتمدنا الفهم العام المتداول لتفسير اعتقادات وأساطير الشعوب ، لكنّ الأخذ بما يُنقل عن ظهور كائنات بهذه الصورة الهجينة للعاملين بالسحر في عصرنا الحالي يعطي تفسيراً اكثر وضوحا .

وكذلك يلفّ الغموض انتشار رمزية ( قرص الشمس ) فوق رؤوس الآلهة ، واستخدام القبعات الطويلة او ذات القرون من قبل اغلب الآلهة ، فتلك التفسيرات الاحتمالية المتداولة – بحسب ما اطلعت عليه – ليست الا فهمًا معاصراً لسلوك قديم له فلسفته الخاصة .

· بمناسبة زيارة بابا الكاثوليكية فرانسيس الى العراق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here