الحكم المدني في الاسلام

الحكم المدني في الاسلام

عندما نتدارس ونتذاكر معا خطوات رسول الله في تبليغ الرسالة الاسلامية لامته نرى حرصه الكبير ان يترجم ويحول الرسالة السماوية الى حكم مدني يقوده اشخاص غير معصومين عن الخطا لكنهم امناء وعدول واحرار ومتواضعون هدفهم نشر العدالة والحق والتسامح. لقد وضع رسول الله معايير خاصة تتعلق بالشريعة السماوية المرسلة من قبل المطلق السرمدي الابدي الذي لا يموت عالم الغيب وعالم كل ما يخفي في السماوات والارض وكل ما يفعل الانسان وسيفعل. وضع رسول الله معايير اخرى لتطبيق تلك الرسالة وترجمتها على الارض. ليتبناها اشخاص مخلصين من بعده ويعلم صحابته ضرورة مراقبة الحكام والسير على هدى الرسالة كبرنامج حياتي.
من المعلوم ان رسول الله نفسه قد عصمه الله بقدرته لتبليغ الرسالة دون خطا او نسيان لكن تطبيقها على الارض بحاجة الى امناء عدول ولعل اهم رجل يطبقها على الارض هو نفسه الرسول المرسل من الله رب العالمين. لذا شرع رسول الله بتوضيح مهمته البشرية فقال لقومه ما انا الا بشر يوحى الي فلا اعلم الغيب ويمسني السوء والاذى واتمرض واموت. قال تعالى على لسان نبيه “قل لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ان انا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون”.
لذا نرى تدرج تطبيق الرسالة سواء في الفترة المكية (مكة المكرمة) او في الفترة المدنية (المدينة المنورة). لقد كانت فترة العهد المكي (السمع والطاعة) حيث اعتمدت على ارساء دعائم الرسالة التي تخص المبادي والعبادات والتشريعات الاساسية للعقيدة. اما العهد المدني (التبليغ والاجتهاد) عندما تاسست دولة المدينة المنورة حيث الحوار والحرب والتنازع والاجتهاد “وشاورهم بالامر” لتشييد دولة المدنية المنورة.
في هذه الفترة عمل رسول الله على تآلف الاديان والعشائر والمجموعات التي تقطن المدينة وما حولها من مواطنين مسلمين ويهود ونصارى ومشركين حيث توافقوا لعقد ميثاق او صحيفة حررها قائد الدولة رسول الله محمد بالتشاور مع الجميع. لقد وزعت المسؤليات على مواطني تلك الدولة بغض النظر عن دينهم وايمانهم.
لقد اوضح رسول الله لصحابته من جهة اخرى ضرورة الاجتهاد لاستنباط الاحكام الشرعية وان يعتمد المسلمون بعده على انفسهم اثر انقطاع الوحي. لذلك كان في المدينة يفرق بين الخبر الاتي من السماء واحاديثه المستوحات من العلم الالهي من جهة وقراراته الاجتهادية القابلة للشورى من جهة اخرى. ان ما يهمنا بهذا المقال هو الجزء الاجتهادي لرسول الله وكيف كان يتعامل مع الصحابة.
ففي معركة بدر مثلا كان رسول الله قد امر المسلمين التموضع في مكان اسفل بدر. لكن احد الصحابة الخبير بفنون الحرب وهو الخباب قال له هل هذا موضع اختاره الله تعالى ام قرار يخضع للاجتهاد وفق الحرب والمكيدة. قال رسول الله بل الحرب والمكيدة. فقال له الخباب يارسول الله ليس هذا بموضع فعلينا ان نذهب قرب عين بدر. فقال رسول الله لنذهب كما قال اخيكم الخباب.
بعد ان وقع رسول الله صلح الحديبية كان من ضمن شروطها مادة تمنع المسلمين حج البيت في ذلك العام. في حين نوى المسلمون عندما خرجوا من المدينة الحج. شرح لهم رسول الله بان الله قد قبل حجهم وفق نيتهم دون الذهاب الى البيت الحرام بسبب المادة المشار اليها انفا. رفض المسلمين حلاقة شعرهم ايذانا لعودتهم الى المدينة. حزن رسول الله لان صحابته عصوه لكن ام المومنين ام سلمة قالت له يارسول الله لا تلمهم فاذهب وقل لخادمك ان يحلق لك شعرك وسوف يفعلون مثلك. وبالفعل حصل ما توقعت حيث جنبت ام المومنين المسلمين فتنة عصيانهم امر رسولهم.
اما في معركة احد فقد كان رسول الله لا يريد ان يخرج لمعركة مع مشركي قريش خارج المدينة. لكن بعض الصحابة ضغطوا عليه فخرج الى المعركة التي كانت نتيجتها خسارة المسلمين. بسبب تماهل المقاتلين المسلمين الذين امرهم رسول الله بحماية ظهورهم. لقد غرتهم الغنائم واعتقدوا بان اصحابهم في المعركة قد انتصروا فكان ما كان. اذ التف الكفار عليهم وقتل جمع من المسلمين وجرح رسول الله.
عندما بعث رسول الله احد ولاته الى اليمن قاضيا اوصاه واستفسر منه قبل بعثه. مع انه كان فقيها وعالما وحافظا للقران انه الصحابي الجليل معاذ بن جبل، حيث قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قــال أقضي بكتاب الله، فساله الرسول مرة آخرى فإن لم تجد في كتاب الله فأجابه فبسنة رسول الله فعاود صلى الله عليه وسلم وسأله فإن لم تجد في كتاب الله وسنة رسول الله، فأسرع معاذ وأجاب الرسول قائلا اجتهد برأيي، هنا ضرب رسول الله صدره قائلا الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وهناك رواية اخرى تقول بانه قال له كيف ستحكم بين الناس قال وفق القران الكريم وسنة رسول الله اجابه بل احكم باجتهادك وفهمك للقران وسنة رسوله. فاذا اخطاءت بالحكم لن يحملوا القران ورسوله وزر حكمك.
اما خلفائه من بعده فكان اول حديث قاله ابو بكر الصديق للمسلمين بعد ان بين لهم بان امر الخلافة ليس وصاية من الله ورسوله انما بالتشاور والتحاور بين اهل الحل والعقد اهل الشورى من المهاجرين والانصار. قال اني وليت عليكم ولست بخيركم فان اطعت الله فاطيعوني وان عصيته فلا طاعة لي عليكم. انه كلام صريح بان الخلافة امر دنيوي والخليفة يصيب ويخطيء لذلك فهو بحاجة لنصح المواطنين. اما عمر الفاروق فقد سار في نفس الطريق قائلا لشعبه في المدينة رحم الله من اهدى لي عيوبي.
ان الدعوة النبوية المبكرة التي لاحظناها من خلال سيرة رسول الله وخلفاءه. توضح بصورة لا يدانيها اي شك بان الاسلام يرفض الكهنوتية والدولة الدينية. بالنتيجة لا يحق لاحد ان يعتبر نفسه ظل الله في الارض او هو مفوض من الله. حتى رسول الله خير البشر كان يقاتل الظلم ويقود الامة ويتالم ويجرح في الحرب ثم يموت. ان الله قد غلق عهد المعجزات ووكل الامر بعد اخر الانبياء للصالحين. ان الحكم في الاسلام اذن مدني وليس ديني. انه حكم اجتهادي يحتمل الصواب والخطا وشروط النصر تعتمد على جهد المسلمين بالنظام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدل والتسامح والصدق ومساعدة الفقراء والاخلاص.
الدكتور نصيف الجبوري

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here