من وحي زيارة البابا للعراق

من وحي زيارة البابا للعراق
بقلم
د. سالم الكتبي
لاشك أن زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان إلى العراق مؤخراً من أكثر الأحداث التي يمكن الوقوف عندها عالمياً واقليمياً في الأشهر الأخيرة، فالزيارة التي جاءت وسط طوفان من الاحباط العالمي خوفاً من تفشي وباء “كورونا” المستجد وتداعيات هذا الانتشار الذي تسبب في إصابة ووفاة ملايين البشر حول العالم، قد انطوت على بواعث عديدة للأمل والتفاؤل بتمسك الرموز العالمية، التي تؤمن بالقيم الانسانية والحضارية بمبادئها وتحرص على غرسها ونشرها في كل مكان حول العالم.
من بغداد إلى الموصل والنجف وقارقوش وأربيل تحرك البابا فرانسيس واضعاً العراق، هذا البلد العربي العريق، على خارطة الأخبار الجيدة بدلاً من المكان الذي اعتاد عليه الناس لسنوات طويلة مضت، حيث كان العراق مسرحاً للتفجيرات والعنف وسفك الدماء وغير ذلك من ممارسات تدمي قلوب البشر، فكانت الزيارة سبباً في أن يرى العالم صورة حقيقة للعراق والعراقيين، حيث سادت الفرحة ربوع بلاد النهرين، وكانت خطوات الحبر الأعظم بمنزلة تأكيد على أن العراق يمكن أن يكون وطناً لكل أبنائه شريطة أن تتحد الارادات وتصفو النوايا وترفع الأيدي الأيرانية المتآمرة عن هذا البلد الكبير.
نجح البابا في ابلاغ رسالته وإسماع صوته للعالم اجمع، حيث رأت الملايين ماذا فعل العنف والارهاب بالموصل، كما شهدوا شباب العراق الذين يحلمون بمستقبل أفضل في بلد كان له ماض هو الأعرق بين الأمم والحضارات. كما كان لقائه بالمرجع الشيعي الأكبر علي السيستاني انعكاس لتجذر قناعته بضرورة الحوار بين المذاهب والأديان وتجسيد حقيقي لمفهوم الأخوة الانسانية، كما كان لقائه بممثلي الطوائف العراقية كافة في أور، مسقط رأس سيدنا إبراهيم (عليه السلام) بكل ما ينطوي عليه الموقع التاريخي من دلالات ومعان انسانية بالغة الأهمية، محطة مهمة في إطار جهود إعادة اللحمة للشعب العراقي، ومنح القادة العراقيين قوة دفع مهمة لاستكمال الجهود نحو استعادة الوحدة الوطنية وبناء الجسور الانسانية والتكاتف من أجل إعادة بناء بلادهم وانهاء معاناة النازحين والمهاجرين وتحقيق الأمن والأمان في كافة ربوع العراق.
رسالة البابا التي حملها إلى العراق واختزلها في قوله “إننا هنا نؤكد مرة أخرى إيماننا بأن الإخاء أكثر ديمومة من الاقتتال، والأمل أقوى من الحقد، والسلام أقوى من الحرب”، هي رسالة السلام التي يؤمن بها، والتي ترجمها عملياً عندما وقع وثيقة “الأخوة الانسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” مع فضيلة الامام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في أبوظبي في فبراير عام 2019، بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
شخصياً، ورغم أن البابا فرانسيس شخصية دينية وسياسية أيضاً، فإنني لا أريد أن أحمل تلك الزيارة التاريخية للعراق أبعاداً سياسية قد تنال من جوانبها الانسانية والحضارية النبيلة، فتاريخ البابا ومواقفه تنأى به عن أي رؤى قد يذهب إليها البعض في تحليل الزيارة، لاسيما أننا نعيش في منطقة غارقة في المؤامرات ونظرياتها، واسبابها التي تراوح بين الحقيقة والخيالات.
والحقيقة أن زيارة البابا فرانسيس إلى العراق أوائل شهر مارس الجاري، تمثل حدثاً تاريخياً ليس لكونها الأولى من نوعها فقط، ولكن لأنها تعكس شجاعة نادرة من قبل رجل يؤمن بالأخوة الانسانية الحقيقية ويحرص على الدفاع عن هذا المبدأ ويذهب إلى أماكن ومناطق تبدو زيارتها، أو زيارة بعض المدن التي زارها البابا على الأقل، في ظل الظروف الأمنية الراهنة بمثابة مغامرة غير مأمونة العواقب في نظر غالبية القادة والزعماء، السياسيين والدينيين، فالزيارة التي تمت في ظروف تفشي وباء “كورونا” وسبقها تفجير انتحاري وهجوم صاروخي على قاعدة في أربيل، إحدى محطات الزيارة، بل وسبقها ايضاً إصابة السفير البابوي لدى العراق، ميتجا ليسكوفار بفيروس “كورونا”، تعكس عمق إيمان البابا بدوره ورسالته التي تضع المبادىء والقيم، وكذلك الفقراء والمهمشين والمتعبين في صدارة اهتماماته، التي نجحت في إحداث تحول نوعي فارق في دور الفاتيكان وعلاقاته مع أصحاب الأديان الأخرى، وفي ذلك فائدة كبرى للدول والشعوب العربية والاسلامية، التي تكافح مؤامرات ومخططات وفتن تستهدف نسيجها المجتمعي وتسعى لضرب وحدتها الوطنية باستخدام رؤى طائفية ودينية ضيقة معادية للأوطان، لذا فقد جاءت زيارة الباب إلى العراق تحت شعار “أنتم جميعكم أخوة”، وهو الشعار الذي يرتبط بالبابا فرانسيس ويعد امتداداً لوثيقة “وثيقة الأخوة الإنسانية”.
إجمالاً، أرى أن الزيارة في ضوء توقيتها وظروفها، تعكس شجاعة البابا فرانسيس وعمق إيمانه بمبادئه الانسانية الجامعة، حيث يبدو العراق بحاجة ملحّة إلى ما يجمع طوائفه وأبنائه تحت راية الوطن، كي يعود وطناً للعلوم والثقافة والتقدم يستأنف دوره في إثراء وتقدم الحضارة الانسانية وتطورها، فالعراق ، مهد الأديان والحضارات، وأرض أبو الأنبياء، بحاجة إل السلام والتعايش بين الجميع، وإلى أن يكون في قلب كل عراقي وعربي كما هو في قلب البابا فرانسيس.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here