الحلقة الخامسة من قصة “بين الحب والكراهية

يواصل “صوت العراق” نشر فصول كتاب ” بين الحب والكراهية” لمؤلفه علي مصطفى طالب. هذا الكتاب يكشف عن جوانب من المآسي التي تعرض لها الكورد الفيليون ولاسيما خلال حملات التهجير القسري الى ايران.

اليكم الحلقة الخامسة.

بقلم : علي مصطفى طالب

روبين هوود “الكردي”

في المساء، جلست امام التلفاز وتابعت تفاصيل فيلم يتحدث عن اسطورة روبين هوود. بطبيعة الحال كنت قد قرأت وشاهدت نصوصا وافلام اخرى تحكي قصة هذا الرجل الاسطورة، لكنني كنت اريد اخذ قسط من الراحة وقد اضناني التفكير في مصير تلك الام وهل بالفعل انها تكره ابنتها ام ان قولها هذا ما هو الا رد فعل على الاهانة التي تعرضت لها على يد ذئاب بشرية. وبالمناسبة لا اعلم هل ان روبين هود الذي جلست لمتابعة احداث فيلمه شخصية حقيقية او انها من صنع خيال الانسان ورغبته في وجود مثل هذا الشخص ليدافع عن الفقراء من انياب الوحوش البشرية الاخرى.

قفز الى ذهني وانا اتابع مشاهد هذا الفيلم ما سمعته من جدتي (رحمها الله) من قصة رجل اسمه (موزر) او لربما (مظهر) او (مضر) لان حرفي (ظ) و (ض) لاينطقان بالكردية. هذا الرجل كان يجوب بساتين بعقوبة والخالص وبهرز وغيرها في تلك المناطق الواقعة شمال شرقي العاصمة بغداد ويأخذ عنوة اي انه يسرق من بساتين الاقطاعيين ويعطيها لعوائل في نفس تلك المناطق تعاني من الفقر والجوع. فمثلا كان يُوقف شاحنة تابعة لهذا الثري والاقطاعي او ذاك وتحمل اغناما فيأخذ من تلك الاغنام حصة العوائل الفقيرة منها ، الخُمس، حسب تعبير الشريعة، ويطلق سراح البقية ثم يقوم بتوزيع تلك الاغنام على افقر العوائل طالبا منها ذبح الخرفان على عجل والتهام لحمها قبل ان يأتي رجال الآغا المسلحين وارجاع الاغنام من تلك العوائل الفقيرة. او انه كان يأخذ اكياسا من الحنطة من شاحنة اخرى ليقوم بتوزيعها على الفقراء في المنطقة. بالطبع ان الآغوات واولئك الاقطاعيين والمتنفذين كانوا يلجأون الى الحكومة

في كل مرة يقوم بها موزر بتلك الاعمال فيجوب رجال الشرطة شوارع المدينة بحثا عن موزر ولكن من دون جدوى اذ ان الاهالي واولئك الفقراء كانوا يخبرون موزر بتحركات الشرطة ساعة بساعة بل ان جدتي اضافت الى ذلك بان بعض رجال الشرطة كانوا يتعاطفون مع موزر لكونهم هم ايضا من الفقراء.

لذا فان الناس اعتادوا على رؤية موزر في المقهى صباحا وهو يرتشف استكان شاي وبعد ظهيرة نفس اليوم يقوم بعملية جديدة ضد مصالح اصحاب المال والمتنفذين. بل ان جرأة موزر وصلت الى درجة قيامه بالبحث عن طفلة ضائعة في البساتين فيما كانت الشرطة تقوم بنفس المهمة بعد وصولها بلاغ من اهل الطفلة. وفيما لم تسفر تحريات الشرطة وبحثها عن الطفلة عن نتيجة فان موزر تمكن من العثور على جثة تلك الطفلة وتسليمها الى اهلها. وتبين فيما بعد ان تلك الطفلة سقطت من على خشبة وُضعت كجسر اوحلقة وصل بين ضفتي ساقية تروي اراضي احد البساتين فغرقت في مياه تلك الساقية. ولعلها اصيبت في ساقها من اثر السقوط او ان تلك الخشبة انكسرت تحت ساقيها. قالت جدتي ان موزر كان شخصية حقيقية وان اعماله تلك والتي كان يسميها البعض بانها بطولات وقعت خلال اربعينات وخمسينات القرن العشرين عندما كان العراق في ظل الحكم الملكي. توفيت جدتي. وفي اواخر الخمسينات وعندما انتقل العراق الى الحكم الجمهوري جاء اخي الكبير، الذي كان قد استمع من جدتي الى قصة موزر بجريدة وعليها صورة الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم والى جانبه موزر. لم اكن انا آنذاك استطيع القراءة فقرأ علينا اخي بان موزر ذهب الى الرئيس العراقي ليعلن توبته عما كان يقوم به من اعمال. وسمعت فيما بعد بان موزر احيل الى التقاعد بعد ان اصيب بالعمى.

هذه هي قصة روبين هوود الكردي.. ولكن ليس لهذه القصة ما يفيد تلك المرأة او الفتاة المبتلية بفضيحة اغتصاب (والتي اتصلت بي هاتفيا) باستثناء ان موزر لو كان حيا لعله كان سينتقم من ذلك الوغد الذي اغتصبها ولعله كان سيرغمه على الزواج منها. ترى هل ان بامكاني انا ان اكون مثل موزر لمد يد المساعدة لهذه المسكينة وآخذ حقها من ذلك الوغد؟ اوبالاحرى ما بوسعي ان افعل؟

على كل حال .. تذكرت حكاية حقيقية اخرى قالتها لنا جدتي. انها عن الاميرة (قدم خير) التي عاشت مطلع القرن العشرين. ان هذه الاميرة تحولت الى اسطورة في اعقاب مقتل زوجها وعدد من قادة امارة لورستان وولاية بشتكوه على يد حكام ايران آنذاك الذين استدعوا زوجها والي لورستان وقادة بيشتكوه ومتنفذين آخرين من خيرة رجالات الكرد حينذاك لـ “مشاورتهم” في امور مهمة الا انهم تعرضوا الى القتل جميعا، بغية ابقاء هذه المناطق الكردية من دون قيادات رجالية.

فما كان من (قدم خير) الا ان ترتدي ملابس زوجها الامير وتقود جيش ولايتها في حرب ضروس ضد جيش الشاه الايراني. الا ان هذه المرأة الشجاعة لقيت حتفها في تلك المعارك ولكنها ظلت خالدة في ضمير الاكراد بل ان كثيرا من بيوت الفيليين سواء في العراق او في ايران يضعون صورة هذه الاميرة على جدران بيوتهم على شكل سجاجيد. واذا تمكنت من تلاوة قصة هذه الاميرة لتلك الفتاة /الام فما الفائدة وما علاقة ذلك بمآساتها الشخصية؟

لعل تلك الام التي اتصلت بي امس يمكن تصنيفها في خانة اولئك الاشخاص الذين يتمتعون بقسط من المشاعر السلبية: انها غير راضية عن حياتها. وبما انني لم اكلمها سوى عبر الهاتف و كانت في الواقع صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في تلك المكالمات اذ لم استطع طرح اسئلتي عليها لذا ليس لي علم بمدى تواجد مشاعر ايجابية من سرور وافراح في حياتها اليومية: هل هي راضية عن حياتها الحالية؟ وهل تتقبل هذه الحياة بشكل عام؟ في الحقيقة وكما ذكرت سابقا لم تتح لي فرصة سؤالها عن رأيها في مصطلحات مثل الزواج والعائلة والصداقة. كما انني لم اتمكن من معرفة رأيها بالحياة وهل انها تحب هذه الحياة او تكرهها وهل انها متمسكة بالحياة ومتعلقة بها. كما لم استطع معرفة رأيها بالمستقبل وهل هي على قدر من التشاؤم يعادل او يزيد عن التفاؤل والأمل الذي يعني انه تفكير الهدف منه تحقيق هذا الغرض او ذاك.

ثمة في الواقع أمل مشترك يعكس مشاعر الانسان بشكل عام: الأمل في تحقيق النجاح والسير على دربه، ولكن هناك ايضا أمل شخصي يصبو اليه الكثيرون، ولعل هذه الأم لاتنظر ايجابيا الى ذاتها وانه لم يعد لها امل شخصي تتطلع الى بلوغه اوالى

تحقيق نجاح في امر ما او انجاز مهمة شخصية او فردية، بعدما فقدت اعز ما تملك، اي عذريتها، في عملية اغتصاب نجم عنها ولادة ضحية جديدة.

لكن يمكنني التكهن وليس الجزم، استنادا الى تلك المكالمات، ان تلك الام غير سعيدة، ولايعد هذا الامر اكتشافا مني، اذ انها كررت مرارا بانها “لاتحب ابنتها” اذن لايمكن للشخص الذي يكره فلذة كبده ان يكون سعيدا، لاسيما انها تعرضت للاغتصاب وقبل ذلك للتهجير والتسفير. ولعلها لاتنظر ايجابيا الى ذاتها او الى ماضيها بل لعلها تشك بمعنى الحياة ولم يعد لديها هدف في الحياة: اعتقد بان عليُ التركيز على هذه النقطة بالذات في مكالماتي التالية معها اي اعادة الثقة بنفسها ووضع هدف لها في الحياة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here