كيف كانت احتفالات عيد الربيع (نوروز) عند العراقيين زمن العباسيين ؟

كيف كانت احتفالات عيد الربيع (نوروز) عند العراقيين زمن العباسيين ؟ (*)
د. رضا العطار

يتحفنا فصل الربيع كل عام بنوره الوضًاء ونحن له مستبشرون، يملأ ارضنا بالازاهير والرياحين، فهي فرصتنا المتاحة لأغتنام هذه البركة والاستمتاع بمباهجها وافراحها، لذا ترانا نخرج الى احضان الطبيعة الغناء كي ننعم بهذا العطاء الرباني الوافر ونرى بشائر الخير في سخاء الطبيعة الخلابة، فمنظر حقول الورد وتناغمها مع اصداء خرير الماء واصوات تغريد الطيور، تملئ صدورنا غبطة وسرورا، ولا ننسى ان بيننا وبين هذه النباتات الرقيقة من المعاني الفنية والعلائق الروحية ما يجب ان نؤكد عليه ونطرب له.

ان المظاهر الجميلة لعيد الربيع في بغداد زمن العباسيين كانت جلية للعيان، متمثلة بتزيين البيوت بمختلف انواع الورد والرياحين وقد ملأت الارجاء بعبق رائحتها الزكية ، كان ذلك احلى دلالة لمعاني الود ومشاعر الاخاء والمحبة، مثلما كان باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال. كما كانت عادة التألق والتأنق في الأزياء ظاهرة ملموسة لدى الاسر البغدادية، ناهيك عن شغف النساء الحرائر بالعطور النادرة، كعطر الزعفران و البنفسج و الياسمين والمسك والكافور ,

ولو شئنا ان ندخل في فنون الظرف التي اشاعها الفنانون واهل الذوق الرفيع، نجد اعجابهم بالزهور وتعلقهم بها ظاهرة معروفة. اما حدائق قصور الخلفاء فكانت مزهوة بحدائق الورد الجميل، مما حفز احساس الشعراء في التطلع الى المعان العميقة للورد، كالسلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه. فكان العاشق يحس بالخجل لأحمرار الورد ويتأثر آخر في هجرالحبيب في سرعة ذبوله او يشعر غيره في ورد البنفسج عودة الوصال وحرارته. فكانوا يتهادون بالزهور والرياحين دالين بها على امثال تلك المعاني، كما كانوا بها يحيون بعضهم بعضا.

جاء الربيع فمرحبا بوروده * * * وبنور بهجته ونور وروده

لقد كان عيد الربيع في بغداد خلال الحكم العباسي اكثر الاعياد جاذبية و رونقا، خاصة في العهد البويهي، فقد غدا الاحتفال بالعيد عندهم كارنفالا عظيما، تمتد ايامه نحو اسبوعين. كانت مظاهره متجلية في افراح الناس وتزيين بيوتهم بالوان مختلفة من الورد والازاهير، تملئ الاجواء بعطرها الفواح.

كان افراد الشعب يستهلون صباحهم الاول للعيد بالخروج من بيوتهم لزيارة اقربائهم واعزائهم والمحبين من اصدقائهم، يلتقون مع يعضهم في المنتزهات العامة، ويتبادلون التهاني والتبريكات وهم في ملابسهم الجديدة الزاهية فرحين مستبشرين، تواقين في سرد احاديثهم ونوادرهم. بيد ان معظم الاهالي كان ينطلق الى احضان الطبيعة الغناء في الضواحي المحيطة بمدينة بغداد والمكتظة بالبساتين، لشم النسيم في الهواء الطلق وسط الماء والخضراء والوجه الحسن.

وآخرون واغلبهم من جيل الشباب، كانوا يلتقون في ساحات المدينة، حيث تتواجد انواع وسائل اللعب و التسلية، كان المهرجون جزءا منها واللذين كانوا يقومون في اضحاك الجمهور عن طريق سرد النكت والحكايات المثيرة، كان الشمقمق اكثرهم شهرة.

كما ان هناك كان من يهوى ان يتهادى على صفحة مياه دجلة في زوارق مزركشة جميلة، يضجون بالغناء مغتبطين، واخرون كانوا ينسحبون الى ركن هادئ، بعيدين عن اعين الفضول، مختبئين بين خمائل الورد والريحان، ليرتشفوا بما معهم من راح، ويتمزمزوا بما جلبوا من طعام. وفي هذا السياق ينشد البحتري قائلا:

اشرب على زهر الرياض يشوبه * * * زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قدح ينسي الهموم ويبعث * * * الشوق الذي قد ضل في الاحشاء

كما ينشد ابن الجهم صادحا :

لم يضحك الورد الا حين اعجبه * * * حسن الرياض وصوت الطائر الغرد

بدا فابدت لنا الدنيا بمحاسنها * * * وراحت الراح في اثوابها الجدد

قامت بجنته ريح معطرة * * * تشفي القلوب من الهم والكمد

لقد برع بعض الجواري في قصور الخلفاء العباسيين في نظم الشعر وفن الغناء الى جانب اتقانهم فن الرقص، يزيد من انوثتهن سحرا واغراء، فيغدون بذلك فتنة من فتن العصر، كالجارية عريب مطربة المتوكل والجارية دنانير مطربة البرامكة. لكن الشعب العراقي كان يستعذب سماع قصائد ابن الجهم، ينشدها في مثل هذه المناسبات الاجتماعية :
الورد يضحك والاوتار تصطخب * * * والناي يندب اشجانا وينتحب

والراح تعرض في نور الربيع كما * * * تجلى العروس عليها الدر والذهب

اما عيد الربيع ( نوروز) عند المسلمين الفرس الذين يعتبرونه اكبر اعيادهم ويستمر لأسبوعين. كانوا خلالها يخرجون الى البساتين والمروج الخضراء مع بزوغ الشمس، مرتدين ثيابهم الأنيقة البراقة، سعداء في احتفاليتهم. يتبارون بالتهاني فيما بينهم ويتهادون بالورد والرياحين. يقضون ساعاتهم فرحين متأملين مناظر الطبيعة الخلابة، يسردون اخبارهم المشوقة ويتمتعون في شرب الشاي واكل المقبلات و الحلويات، بينما ينطلق اطفالهم في الرياض الخضراء الواسعة، يلعبون ويصخبون، وصدى ضحكاتهم كانت تملئ الاجواء سرورا.

اما عيد نوروز عند الفرس المجوس فكان متجليا طبقا لتقاليدهم المتوارثة منذ القدم، في الخروج الى الغابات الكثيفة المحيطة بمدينة بغداد قبل يوم، لجمع الاحطاب، ليشكلون منها اهرامات عالية في مساء اليوم التالي اي يوم العيد، وعندما تشتعل النيران فيها تتحول الى جهنم، وفي هذا الجو الساخن والوهج الساطع يبدأ جماعات المجوس بملابس العيد الزاهية بالرقص حول الكتل المشتعلة مغتبطين مبتهجين، يصخبون بالغناء بالعبارات التالية :

قد قابلتنا الكؤوس * * * ودابرتنا النحوس

واليوم هرمزدا روز * * * قد عظمته المجوس

فالنار معبودة في دين المجوس، هكذا يقضي الاتباع ساعات ليلهم منهمكين في ممارسة طقوسهم العبادية. .
* هرمزدا، اسم إله المجوس، و روز بالفارسية تعني يوم.

واما النصارى في عيد الشجرة. فكان من تقاليدهم تزيين رؤوسهم بأكاليل الورد وفي ايدهم الخوص والزيتون، كما كانوا يحيطون مجالسهم بباقات الزهور وضوء الشموع.

وكان اكثر مناطق العراق احتفالية، الدير الاعلى في الموصل ودير سمالو في الشرق من بغداد. كان العراقيون عشاق طرب، يسافرون اليهما ليساهموا في احيائهما، اما عن طريق الدواب او نهر دجلة. وكان المحتفلون يتبارون في زيهم وزينتهم. يشربون الانخاب، ويضجون في اغاني صاخبة، يرقصون ويمرحون حتى الصباح، تملأ الاجواء صدى ضحكاتهم، بعدما تمتلئ بطونهم بشراب الدير ويسكروا. وقد وصف احدهم تلك المشاهد قوله:
ورب يوم في سمالو تمّ لي * * * فيه السرورُ وغيبت احزانه

فتلاعبت بعقولنا نشواته * * * وتوقدت بخدودنا نيرانه

حتى حسبت ان البساط سفينة * * * والدير ترقص حولنا حيطانه

يخبرنا التاريخ بان ضواحي بغداد كانت تضج بالحانات، وابوابها كانت مفتوحة ليل نهار، تعج بالجواري والغلمان، كانت تخفق لأغانيها المعازف والطنانير والدفوف، وتهيئ لروادها اللهو المباح وغير المباح ومن حولهم الشياطين.
ومن خلال هذه الفضائح الاخلاقية العارمة التي كان ابو نؤاس يزكي نارها، قوله.

ألا فأسقني خمرا وقل لي هي الخمر * * * ولا تسقني سرا اذا امكن الجهرُ

فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة * * * فإن طال هذا عنده قصر الدهر

وما العيش إلا ان تراني صاحيا * * * ولا الغنم إلا ان يتعتعني السكر

فبح بأسم من تهوى ودعني من الكنى * * * فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولا خير في فتك بغير مجانة * * * ولا في مجون ليس يتبعه كفر

وعلى الضد من موجة المجون التي اجتاحت البلاد، كانت مساجد بغداد تزخر بالمصلين واهل العباد، فكان ائمة الجوامع، يهيبوا بالشباب الضال ان يخافوا الله ويزدجروا، يبتعدوا عن المحرمات، ويهتدوا الى الخط السليم.
• مقتبس من كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف.
.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here