بناء الدولة .. شروط ومتطلبات مجتمعية

بناء الدولة .. شروط ومتطلبات مجتمعية

مهند الهلالي

تبنى البلدان في ارجاء المعمورة وفقا لمعطيات وعوامل عدة، بعضها يتوفر داخليا، واخرى ذات أبعاد خارجية ، غير ان وجود هذه العوامل ليس ضروريا فحسب انما هو شرط جوهري لنهوض الشعوب وبلدانها بكياناتهم المجتمعية المسماة وفقا للمصطلحات الحديثة بالدول.
هناك آراء ربما تختلف من حيث التفصيلات، إلا انها تتوحد من حيث الجوهر ، ونحن لسنا في معرض الخوض بالتفاصيل غير اننا ارتأينا ان نتناول العناصر الموحدة التي إذا توفرت فيمكن لأي شعب النهوض بواقعه المجتمعي او التكويني السياسي .
من جملة العوامل التي يجب العمل على تحقيقها للوصول الى الاهداف المنشودة هي “الوحدة المجتمعية”، ولا نقصد هنا الوحدة الايديولوجية لانها مستحيلة، انما نقصد العدل المجتمعي سواء في معاملة الدولة للمواطن او المواطن الى شريكه في الارض والوطن، اي بمعنى ان يتساوى الجميع بكل مللهم واديانهم وعروقهم بالحقوق والواجبات، مع الحفاظ على احقية المتميزين بجني ثمرة جهودهم الاستثنائية، لكن بسواعدهم الخاصة لا بالتفريق عن مواطنيهم كي لا ننساق وراء الاشتراكية البالية التي قضت في مرحلة زمنية على رؤوس الاموال وثروات ابناء البلدان، وجعلتها في ايدي السرّاق ممن يستغلون السياسة لسرقة المال العام.
العامل الثاني يتمثل بـ”تغليب الواعز الأخلاقي” للفرد على النزوات الخاصة التي تقود في الاغلب الى فساد مالي او اداري، بمعنى ان الفرد ينظر للمصلحة العليا لمجتمعه وشركائه في البلاد بشكل مقدس، ولا يسير ضمن نظرية مصلحتي اولا ومن بعدي الطوفان، وان هذا المسير ليس خياليا او نظريا، انما هو امر سهل للغاية وتم تطبيقه لدى المجتمعات التي سبقتنا في التحضر الحديث، والامثلة على ذلك ليست قليلة، فالدول الاوروبية او الشرق آسيوية ودول متحضرة مجتمعيا نرى مواطنيها ينظرون الى مصالح بلدانهم بمستوى مصالحهم الخاصة نفسه وربما اكثر في بعض الاحيان، وهذه ليست سذاجة انما رقي ذهني نابع من ان اية مصلحة خاصة لا يمكن تحقيقها إلا عبر تحقيق المصلحة العامة في جميع المواضيع المتعلقة بالنزاهة والضمان الاجتماعي والامن، وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق ايصال ذوي التخصص الى اماكنهم التي يستحقونها في المجالات كافة، وغيرها من المبادئ السامية الاخرى، وبالتالي لو تحقق ذلك فأن انعكاستها ستكون على الفرد والعكس صحيح في حال فقدانها ..
اما العامل الثالث فهو تعزيز او تطوير “الجانبين الثقافي والعلمي”، اي ان البلدان عموما لا يمكن النهوض بابنائها عن جهل انما بتطوير العنصر البشري وقدرات ابنائه الذهنية بما يجعلهم قادرين على استيعاب اهمية ما تكلمنا عنه وما هو ضروري للنهوض بواقع وطنهم وواقعهم الشخصي، وهذا لا يتحقق ايضا بالكلام انما بالعمل الجماعي والتعاون التام بين الاسرة والدولة، بما يحقق آلية مشتركة وخطة بعيدة المدى للوصول الى مجتمع متطور يستطيع مواكبة الحركة التطويرية العالمية والتنافس بين الامم لبلوغ ناصية الرقي، ولا يفوتنا التذكير بأن هذا الامر لا يمكن تحقيقه بالنيات الصالحة الجمعية، بل بالتخطيط العلمي المبني على منهج اكاديمي يستطيع تنمية القدرات والمواهب الشخصية الى تخصصات علمية محترفة يمكن لها تحقيق انتقالة نوعية في مجالاتها، وهذا يتطلب النظر في آلية التعليم بشكل عام، واذا كان ذلك صعبا فلا بأس من تدريج تلك العملية بما لا يخلق فوضى الصدمة المتمثلة بالانتقال المفاجئ، وبالتالي يمكن تحقيق الطفرة التعليمية بمدى زمني لا يتجاوز اثني عشر عاما لا اكثر، وفي حال وجود عزيمة متناهية يمكن اختزال ذلك بثمانية اعوام.
اما العامل الرابع فأرتأينا ان نذكره اخيرا برغم ان معظم الناس يرون حتمية ذكره في المقدمة، لكننا نؤمن بأن البناء الرصين يبدأ من الفرد وهكذا اوصى الله تعالى عباده عبر رسالاته السماوية المباركة وتنفيذا لهذا المنهج المقدس.
العامل الاخير ربما لا يشكل لدى شعوب الغرب او الشرق غير المسلمة اساسا للتطوير، لكن لدى الشعوب المسلمة وبالاخص العربية قد يكون اساسيا كون ارتباطه الوثيق بايديولوجية الانسان المسلم او الانسان العربي على وجه الخصوص.
لا نريد الاطالة بهذا الشق من التفسير والتوضيح، فلعل القارئ عرف ،من دون ذكر العامل، ماهيته ألا وهو “الجانب الديني” ولأننا لا نريد الخوض في تفاصيله الدقيقة كوننا لسنا من اصحاب الاختصاص في هذا الشأن، غير انه من الممكن الخوض بالجوانب الاجتماعية من دون التطرق الى قضايا الفقه والاصول الى آخره من الجوانب الاخرى .. ولاننا نؤمن بأن هناك مشتركات لا يمكن لأي منا نكران وجودها، او الاختلاف بشأنها، فلا بأس من التذكير ببعضها، ومن بينها توصية الله جل وعلا لعباده بالعيش الكريم والتعاون بين ابناء الجلدة الواحدة للوصول الى مجتمع قويم، وايضا نكران الذات والتفكير بمصلحة الاخ المسلم، كالنظر الى مصلحة الفرد، وان من طلب العلم لهو من المقربين لله تعالى، فضلا عن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولعل ذلك من اساسيات الادارة الاسلامية في عصر الرسول صلى الله عليه وله وسلم والائمة الأطهار عليهم السلام، وايضا بعض الخلفاء رضي الله تعالى عن الصحابة منهم ، ولا يفوتنا ان نذكّر بأن الاسلام قام من الاساس بتعزيز الجوانب الاخلاقية للفرد، ولتحقيق العدالة المجتمعية وتخليص العباد من شر ظلم الطغاة واباطير الجهل التي لم تجن منها الشعوب إلا التراجع العلمي والتخلف بمجالات الحياة المختلفة، وبالتالي لو تسنّت لكم مراجعة ما تقدم في العامل الرابع لرأيتموه انه تجسيد للعوامل الثلاثة التي سبقته، وان شعوب وامم العالم المتقدم قد عملت بهذا المنهج الراقي ونفذته بحذافيره، للوصول الى الرقي المجتمعي، بينما نتخلف نحن عن هذا التنفيذ، متمسكين بقواعد نعترف باهميتها للتقرب الى الله تعالى، لكنها حتما ليست الغاية انما هي الوسيلة لتحقيق الغاية التي اشرنا لها فيما تقدم.
اللهم اشهد اني قد بلغت

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here