تركت صَمْتُها أعمق الأثر في نفسه

سهيل الزهاوي

في هذا المساء ، عندما تغَرَبَت الشمس ، و أخذت تعكس خيوط من أشعتها الحمراء على جدران ونوافذ البيوت. لا تزال نصف ساعة قبل أن تحل الظلام الدامس ، الا ان البيت غارقا في الظلام ، بينما غرفة المكتب اضيئت قليلا بأشعة الشمس الحمراء المنسل من النافذة المفتوحة جلس شوان في عتمة الغسق ، يتلمس احلامه الحزينة التي ترسخت في داخله، مشدود بالأمل الذي لاَ تَشُوبُه شَائِبَةٌ ، علَه يجد خيطا رفيعا من التفاؤل ينبع من من خبايا أعماقه. إن أبسط الأحداث به وتستنير حنينه. فطفت على ذاكرة الكآبة وأخذ الحزن يستبد به، وتزداد وطأة ذلك عليه كلما تذكر أَيَّامَهَا الْخَالِيَةَ.اختلط عنده الحنين والدمع وتوهج العينين. طوال السنين الماضية لم ينقطع يوما بحثا عن الإحساس المتهيج بألأمل، كان صوته يرتعش من الانفعال، رغم أنه في تمام القدرة والصبر، بينما الصمت العميق يسود الغرفة. كان غرفة المكتب تبدو كأنها زنزانة رهبان. في هذا الصمت الشامل النزق و تلك الوحدة الغريبة.

يمشي في الغرفة بإنفعال شديد وهو يتطلع الى سقف الغرفة، وبين آونة وأخرى يحدق الى الخارج عبر النافذة، وهو يرقب منها مسارات النجوم في السماء ويصغي لحفيف الأشجار، في لحظة معينة توقف في مكانه وقتاً قصيراً، لا يبدي حراكاً، متأملا فيما هو فيه من القلق والحزن. وفجأة ولج الى غرفة المعيشة، حيث تهاوى على الكنبة الكبيرة، واغمض عينيه، ناشد الراحة والدفئ وكأنه مُخَدَّرا ً او منوم مغناطيسيا على هذه الحافة بين اليقضة والحلم ، بين التأمل والوقائع في اطار الصمت المطبق.

لقد شاعت امارات الذهول الممزوج بالألم في وجه شوان كأنه يكافح ضد مشاعر بصمت لئلا يتلاشى امام عينيه هذا الكابوس الثقيل ، رويدا رويدا بدأ يهدأ و يفكر بصمت :

بعد عشرين عاما، شاب شعره، و تقدم في السن ، تذكر شوان تلك الأمسية الربيعية مع نازك ، كانت ليلة جميلة من ليالي مارس هواؤها عليل منعش،وقمرها ساطع،وقد ظلت هذه الحكاية محفورة في ذاكرته ، التى خبأتها بين حنايا الروح، و كبُرت أسوار شوقه لها. كان يحبها حُبًّا جَمًّاَ أقرب إلى العبادة .

كانت نازك امرأة حسناء، لديها عينان في غاية الغرابة ، لكنهما هادئتان، ذات شعره أسود مسدول على كتفيها، تنطلق في الشارع رشيقة الخطو، ريانة كزهرة الربيع، خفيفة كالفراشة. تشى ملامحها بمزيج من كبرياء وهدوء و لكنها كانت لطيفة المعشر وخفيفة الظل ، عميقة لا

تعير الاهتمام بالأشياء الصغيرة والاشاعات التافهة ، فهي تصغر شوان بسنتين ، ثم أنها صاحبة قرار بشكل لا يمكن رؤيته في أي امرأة أخرى.

كانت رسائلها ما تزال على صفحات من ورق ، تنساب عليها كلماتها الانيقة وقد تحدث شوان معها مرارا حول مواضيع حتى أنها يمكن أن تكون سياسية وأدبية، وقد أعارت الانتباه له.

– كان شوان يعشقها وتعتبرها المعنى الوحيد في حياته. استمرت حياتهما بصَّمْتِ، استمرا مُتحابّان.

في تلك الامسية الربيعية، غسق الليل على امتداد الغرفة والغسق اكثر زرقة والنسيم يمر بهدوء ، دخلت نازك غرفة المعيشة، بملابسها الحريرية ، و عينيها البارقتين بوميض المحبة والثقة بالنفس ، تحمل في يدها مجلة قديمة، وانتحى في زاوية ، بعد أن أسدل ستائر النوافذ، شرعت بالقراءة، والمصباح الكهربائي مركون على الطاولة الخشبية بالقرب منها ، كان شوان يتطلع الى عينيها الجميلتين بهدوء ، وكانت ابتسامتها انصبت في كل عرق من جسدها. كانت ناسك منكبة على المجلة، ترد بين اللحظة واللحظة، شعرها الذي ينهمر على جبينها.

لقد كانت ترفع راسها، وتترك مجلتها جانبا، وكانت في عينيها بسمة صافية، حدق شوان النَّظَرَ إِلَيَّها، لمعرفة ما يدور في خلدها، في حين بصره ينزلق بمحبة نحوها ، عندما عادت ناسك الى القراءة، مزهوة ، كان هو يعود الى عمله، دون أن ينبس ببنت شفة.

– مضت عشرون دقيقة بعد منتصف الليل، فجأة اشرقت وجهها بنشوةغريبة، ابتسمت،كأنها تتذكر ذكرى ممتعة.

نهضت نازك من وراء الطاولة حيث كان شوان يراقبها بانتباه و اقتربت منه و عادت بسرعة إلى طاولتها لتقلب صفحات المجلة وركزت على مقالة ، بعد لحظة رفعت رأسها ونظرت اليه نظرة ساحرة وعميقة ، عادت الى القراءة وهي تنظر بطرف عينيها الى المكان الذى حيث كان يجلس شوان، ولكنه لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليها.

قالت لشوان وهي ترمقها بنظرة مشرقة مرحة، تشع وجهها بسرور، ولكن بصوت خفيض ناعم، الان انتهيت من قراءة قصة تشبه قصة حبنا، وهي تتمسك بالمجلة بطرف يدها والابتسامة متواصلة والانفعال باد على ملامحه لفرط الغبطة ولكن في البداية لم يبدي شوان اية دهشة وكان منهمكا في قضية اخر، وكانت هي ارتسمت ملامح الدهشة على وجهها والتزمت الصمت لدقائق ريثما يعيد انفاسها، وهي تلتف الى شوان ، كانت وجهها تبدو صارما، ونَظَرَت إِلَيْهِ، وحزن روحي عميق كانت تشع من عينيها العسليتين الواسعتين ، و تفحصت نازك وجهه العريض البرونزي اللون، ذا الشعر الأسود، و العينين الصغيرتين السوداوتين، وضعت نازك بحركة سريعة المجلة على الطاولة ، و رفعت رأسها الى الاعلى تعرفه شوان

كإحدى حركاتها المعتادة : فهي الحركة العصبية التي تقوم بها ، كرد فعل للمسائل التي تضايقها، فتلقي بها ، وأَجَالَت نازك بصرها فيما حولها ، ومال نحو شوان ، وهي تسند يديها الى الطاولة، بعد لحظات قليلة سأله بحزن، ولكن كانت لهجته صارمة، قالت له: لم تخبرني برأيك في الموضوع. ؟

كانت عيناها تمسحان المكان الذي يَجْلِسُ فيه شوان على الكرسي الهزاز في الجهة المقابلة لمكان جلوسها ، بعد فترة قصيرة سادت الغرفة صمت مطبق، فجأة سلط شوان نظرة ثاقبة في عينيها بعمق، وارتسمت على شفتيه بسمة مختزلة، ثم قال :

عن اي موضوع تتحدثين ، وكانت كلماته تنساب بهدوء واتزان ، محاولا تلطيف جو الغرفة ، وادراك ما اشْتَدَّتْ بِهِا من الْهَوَاجِسُ، القى الرجل نظرة عليه لمعرفة ما في قلبها.

اشْتَدَّت بِهِا القَلَقُ ، يصاحبها بعضُ الألم،حاولت نازك استرداد هدوئها، التى فقدتها فجأة اثناء صمت شوان، حيال طرحها موضوع حبهما، القت نظرة خاطفة على وجهه، ثم أَسْبَلَتْ عَيْنَيْهَا مُتَأَوَّهة، وعينيها المتألمتين تتركزان على شوان، محاولا كشف السر الغامض الذي يخفيه شوان.

شوان راودته رغبة في أن تسمع منها مرة اخرى ما تحدثت قبل قليل، ارتعشت اجفان نازك وانكمشت ملامحها الا انها لزمت الصمت وكانت صمتها حازما هذه المرة.

شعر بالقلق لتعابير الألم التى ظهرت على وجه ناسك، أغلقت ناسك وجها بيديه، وبكت قليلا ولكنها غاضبة الى حد ان دموعها لم تذرف.

– احتضنها شوان بحرارة وعانقها ولكنها لم تسعدها ولم تؤثر فيها.

– قد اثارت بِصَمْتها قلبه المعذب، حيث تركت صَمْتها هذا اعمق الاثر في نفسه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here