الجمال و معاييره

الجمال و معاييره * د. رضا العطار

الجمال في اشكاله المختلفة لا يختلف فيه الناس الا بمقدار تربيتهم الفنية التي تزيد البصيرة الطبيعية انوارا وتورثهم الذوق، الذي نراه على اكمله في رجل الفن.
فجميع البشر على السواء يتذوقون الجمال الساحر في الزهرة الزاهية والشجرة النضرة والوجه المشرق والصورة الرائعة، ويجمعون على ان في بعض الناس رشاقة، هي نقيض السماجة التي ترتسم على وجه الخنزير.

وللوسط تاثيرا ايجابيا او سلبيا في تربية الذوق. فالزنجي والياباني والاوربي والعربي كلهم يتفقون اجمالا على ماهية الوجه الجميل ولكنهم يختلفون تفصيلا. ولكن يجب الا نبالغ في هذا الاختلاف لان الواقع ان الزنجي يستجمل المرأة الجميلة كما كان ينحتها المثال الاغريقي قديما او كما يرسمها الرسام الانكليزي الان، كما نستجملها نحن.
وذلك لان الوسط الذي اثر في ملامح المرأة الزنجية لم يؤثر بعد في بصيرة الزنوج. ونحن العرب نعرف اننا نستجمل الوجه الاوربي الجميل كما يستجمل الاوربيون بلا ادنى فرق. مع اننا في هيئة الوجه نختلف بعض الاختلاف – – – وعندما نتأمل صور الوجوه التي يرسمها رجل الفن الياباني، يريد بها ان يصور الجمال، نراها قريبة الشبه جدا من الشكل الاوربي مع ان الوجه الياباني في حقيقته يختلف كل الاختلاف من الوجه الاوربي.

ان للتربية والعرف والوسط بعض الاثر الذي لا ينكر في تكوين الذوق الفني. فالفتاة التي نشأت لا ترى من الرجال سوى الرجل الحليق، لا يمكنها ان تستجمل الشاب الملتحي الا بعد التعويد عليه – – – والزنجي الذي لم ير قط في حياته امرأة بيضاء يشك لأول ما يرى امرأة بيضاء في سلامة صحتها – – – والفلاح يتزين بالالوان الزاهية الصارخة بينما يميل الرجل الحضري الى الالوان الخفيفة الباهتة. ولكن كل هذه التفاصيل لا قيمة لها امام البصيرة التي يشترك فيها جميع الناس ويتفقون فيها على معنى الجمال سواء في الشخص او الصورة او التمثال او البناء.

ولكن الامم تتفاوت في النزعة نحو الجمال. فقد كانت النزعة السائدة عند المصريين القدامى هي الدين، فكان النحاة اذا نحت تمثالا قصد منه الى معنى الخلود والهدوء الديني. بينما كان الاغريق ينزعون الى الجمال الذي عبدوه في آلهتهم وابطالهم وفي رياضتهم والعابهم حتى صاروا لسائر الامم اسوة وايحاء – – – فليس هناك الان اديب يشتغل في فن من الفنون الا ويستلهم من الاغريق القدماء.

بل ان الفلسفة الحديثة نفسها قد نحت هذا النحو، وهذا على خلاف الرومان الذين كانوا ينزعون نزعة عملية تتجه نحو الاستعمار وتشييد العمران حتى عرفوا اشياء كثيرة عن الهندسة، فكانوا اشبه بالعلماء منهم بالفنانين.
اما نزعتنا نحن في الوقت الحاضر فهي نزعة اقتصادية تجعلنا منهمكين في جمع المال والاستكثار من العقار.

وربما كان سؤالنا عن السعادة، ومن هو اسعد الناس خير ما يدلنا على نزعة كل امة من حيث الفن. فقد سأل الاغريق انفسهم هذا السؤال واجابوا عن لسان ارسطو طاليس بان الرجل السعيد يجب ان يكون جميلا. وذلك لانهم قد انغمسوا في الفنون ولابسوها في معيشتهم حتى صاروا يعتقدون باستحالة السعادة اذا لم تقترن بالجمال.

والفنون الجميلة تتاثر بالنزعات الادبية، فهناك الرسم والنحت التقريري، والرسم الخيالي الذي يقصد الى المثل العليا، مثلما هناك القصص الخيالية وكذلك هناك الرسم التأثري وهناك النزعة الطبيعية التي تنقل من الطبيعة مباشرة.
ويجب ألاّ ننسى هنا ان النزعة العقلية تكاد تناقض نزعة البصيرة، ومن هنا احتقار رجل العلم الذي يبني علومه على العقل للفنون الجميلة القائمة على البصيرة. وقد يصح ان نتسائل هنا : ماهو مصير الفنون في المستقبل اذا انبسطت العلوم وصارت السيطرة للعقل ؟
* مقتبس من كتاب حضارة العراق للباحث عادل الهاشمي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here