قراءة في رواية ( الليل في نعمائه ) للاديب زيد الشهيد

قراءة في رواية ( الليل في نعمائه ) للاديب زيد الشهيد
يضعنا الاديب زيد الشهيد ( الروائي والشاعر ) أمام نص روائي لم يلتزم بالقواعد الكلاسيكية في الفن الروائي , فهو يحمل اسلوبية متفردة في المتن الروائي وتقنياته المتنوعة . في صياغة اللغة . في خلق الفكرة الروائية , في تجسيد الرؤية الفكرية في المعنى الدال من خلال الحدث الروائي . ففي اللغة ينتهج اسلوبية المزج بين السرد النثري والشعري , يمزجهما ويصبهما في وعاء واحد , ويسكبهما في المنظور الروائي , في غاية الفخامة والتشويق , في ان يمتلك السرد لغة صافية في رشاقتها في الثراء اللغوي , حتى تكون مغناطيس لجذب القارئ بالشد والاهتمام ومتابعة بشغف تبعيات سرديات الاحداث الجارية في النص , هذا يدل على القدرة المتمكنة بعلم اللغة في وتوظيفها في الحبكة الفنية بمهارة , أضافة الى براعته في توظيف تقنيات متعددة قد تكون غير مألوفة , منها مزج الاسترجاع الزمني ( فلاش باك ) وجعله في زمن واحد . اضافة الى فن الوصف والتصوير في المشهد السردي , والاهم هو خلق حدث داخل حدث في النص الروائي , وبالاحرى حدث يخلق حدثاً آخر من رحمه أو من صلبه , يربطهما في نسق هرموني واحد على عتبات النص , ليضع القارئ في حالة اندهاش ان يقرأ حدثين في حدث واحد . ففي الحدث السردي الاول يتطرق الى مرحلة مختلفة عن مرحلة الحدث الثاني , الفرق الزمني بينهما خمسة عشر عاماً , في الجانب السياسي وهو المحرك الاساسي للحدث السردي , بتناول الفترات السياسية المظلمة التي مرت على تاريخ العراق , قديماً وحديثاً , يجمعهما مشتركات واحدة , لا فرق بين الاثنين , في الظلم والحرمان والحيف , يجمعهما مشتركات واحدة وجوهر واحد , لكن بأساليب مختلفة , ففي زمن الطاغية ينتهج نهج الارهاب المنفلت في البطش والتنكيل , وفي عهد الاحتلال الامريكي وتسليم مقاليد الحكم الى الاحزاب الدينية , تمثلت بالامن المنفلت بالفوضى السلاح المنفلت . حتى في الكثير من الاحيان , يلعلع الرصاص بينهم على حصص المغانم والفرهود والسلطة والنفوذ . هذا التعامل مع الشعب واحد لكليهما , لكنهما يختلفان في القشور فقط , في عهد النظام الدكتاتوري , كانت النساء يتبرجن في الزي والملبس ( كان جميع من الفتيات مراهقات يلبسن البنطلونات الجينز والقمصان المشجرة ) ص11 . وفي عهد حكم الاحزاب الدينية في فرض الحجاب والزي الاسود ( توجهت نحو غرفتها , رمت العباءة على السرير الخشبي , وخلعت عن رأسها شالاً لم ترَّ حاجة له بل أجباراً على ارتدائه منذ تولت الاحزاب الدينية مقاليد تسيير البلد ) ص20 . نجد بين الحدثين , أن الليل هو الفاعل في بث لواعج القهر والحزن ومواساة الجراح الداخلية باللوعة في نارها المشتعلة في الصدور , بأن الليل خير مواسي للاحزان . وهذه الرواية هي الجزء الاول من رباعيات الليل ( الليل في نعمائه . الليل في عليائه . الليل في بهائه . الليل في نقائه ) حكايات الحزن العراق بالوجع والالم الجاثم بثقله على صدور العراقيين في اشجانه المستعرة بالنار الملتهبة , أو ان الرباعيات تمثل تراجيدية الحزن العراقي , قديماً وحديثاً . كما نجد ايضاً في الحدث السردي مشتركات بين ابطال الرواية أو الشخوص المحورية , ففي الحدث الاول يجمع بين ( مريم ) والشاعر ( وليد ) حب الادب والشعر والتشوق الطاغي اليه , كما ايضاً نفس المشترك بين ( حمامة ) والشاعر ( حزين ) في التشوق الى الادب والشعر . وياخذنا المتن الروائي ( الليل في نعمائه ) بكل شغف الى حكاية ( حمامة ) الفتاة الجميلة والشاعر ( حزين ) في مجيئها من مدينة البصرة الى مدينة ( السماوة ) لتنزل في نفس الزقاق ونفس البيت الذي سكنته ( مريم ) قبل خمسة عشر عاماً , واطلق أسم الزقاق بأسمها زقاق العمة , ولا أحد اعترض على التسمية ( الزقاق الذي اطلقوا عليه قبل خمسة عشر عاماً ( زقاق بيت العمة ) وظل مقروناً بالاسم , لا أحد من المدينة تنكر له في أستبداله ) ص9 . لفت نظره الشاعر ( حزين ) لفتاة رشيقة القوام والجمال ( حمامة ) تتجه بخطواتها المتعثرة في مشيتها صوب البيت ,كأن اصابتها وعكة صحية مفاجئة , تطلع الى جمالها وخفق قلبه بخفقات الشوق متصاعدة في اللهفة لهذا الوجه الفاتن , وقال وهو يدردم مع نفسه ( أنها فتاة مموهة بالوان الطيف , فهي الالق وقال هي غيمة بيضاء تعوم في بهاء شذري ناصع , فهي بسمة من بسمات الله في لحظة رضائه ) ص9 . لكنه استغرب في اندهاش وحيرة , لماذا هي وحدها تركت مدينتها مدينة البصرة , وجاءت هنا الى مدينة ( السماوة ) وتسكن هذا الزقاق وفي البيت المنزوي القديم . وراح يتسأل بلهفة وهو في حالة بعثرة حواسه بالاضطراب لهذا الجسم الرشيق ( حمامة ) , ولكنه يعود ويقرض نفسه بالحزن بأن الشعراء يملكون قلوب حزينة وهذا دأبهم في ذلك ( هكذا هم الشعراء , ألم في ألم , وجزع يليه جزع , وليست للسعادة رقعة في خارطة حياتهم ) ص15 , , وراح يلاحقها من بعيد وقريب يطلب العلاقة والتواصل معها , وعرف انها تهوى الشعر وتحضر ندواته الشعرية وتقرأ قصائده وتشتري دواوينه الشعرية من المكتبات , فتعلق بها اكثر . في معرفة سر قدومها , وسكنها وحدها في وحشة الليل , وفي بيت العمة ( مريم ) هذا البيت المنزوي في الزقاق , لابد وان هناك سبب وجيه للمجيء هنا ؟ . ويعود الحدث السردي ( فلاش باك ) الى خمسة عشر عاماً الى الوراء , عندما جاءت ( مريم ) أمرأة ذات ثلاثين عاماً جاءت من البصرة الى هنا لتسكن هذا البيت المنزوي بصحبة مختار المحلة وهو يسلمها مفاتيح الدار ويطمئن هواجسها . بأن الناس في المحلة والزقاق يملكون الطيبة والتواضع والمحبة والشرف والشهامة والنخوة والتآلف الاجتماعي . ووجدت ( مريم ) عمل في معمل الخياطة النسوية , وحين تعود من عملها تكون محملة بالحلوى وتوزعها على أطفال الزقاق في فرح وابتهاج , حتى نالت احترام الناس ومحبتهم , واصبحت واحدة منهم . لذلك لم يتجرأ أحداً لمعرفة سبب مجيئها الى هنا , أو ما تحمل من مأساة في داخلها , وكذلك في رفضها الزواج من الذين تكاثروا في الرغبة بطلب يدها , لكن الحزن واللوعة لم تفارقها في شدها الى الماضي والى مدينتها . فكانت تحمل قصة حب وعشق مأساوية غارقة بالحزن والمعاناة , فقد أحبت الشاعر ( وليد ) هامت به بالعشقً والهيام , وهو بادلها نفس الشعور بالهوى والهيام حتى تكلل الحب بالزواج , ورأت السماء تفتح اسايرها لهذا العشق النقي والصافي , ولكن لم يمضِ على زواجهما شهرين فقط حتى اغتال النظام زوجها الشاعر ( وليد ) لانه كان مناوئ للنظام ورفضه الشديد لاشعال الحرب ضد ايران واستهجان ممارساته الارهابية ضد الناس , فكان عقابه بالاغتيال الوحشي والبشع ( كان وليد مهشم الرأس , مقطوع الانفاس ,جيء به متقطع الاوصال , متهتك الاعضاء ….. وسيارته محطمة بشكل كلي و كأنها رميت من قمة جبل الى وادٍ سحيق ) ص111 . وبعدها شن النظام حملة اعتقالات ضد اصدقاء وليد واقاربه , وحتى شقيقه هرب من الاعتقال , وزوجته ( مريم ) هربت من بطش النظام خوفاً من سجنها وقتلها , لذلك جاءت الى السماوة هاربة من رعب وبطش النظام , وسكنت في هذا الزقاق الذي اطلق عليه اسمها , وفي هذا البيت المنزوي تداوي جراحها الحزينة في عتمة الليل . وحين اشتد عليها المرض وانهكها تماماً , حتى اصبح ليس في مقدورها ان تطعم نفسها , فتطوع الجيران في عنايتها واطعامها والرعاية بها , لكنها شعرت بأن أن اجلها المحتوم اقتربت ساعته , فصرحت للجيران برغبتها , بأنها تريد ان تموت في مدينتها وقرب قبر ( وليد ) وسكان المحلة لا يعرفون من هذا (وليد ) الذي تعلقت به اشتياقاً وتردد اسمه على الدوام في غيبوبتها , ولم يسألها أحداً بما تحمل من قصة حزينة ومأساوية , فكانت تردد ( أريد العودة الى وليد . وليد من يشفيني , ولم نكن نعرف من هو وليد , ولا هي افشت بسرها ) ص92 و فحملوها الى كراج السيارات وهناك انطلقت بها السيارة الى البصرة . هذه التراجيدية المأساوية سببها النظام الطاغي بالبطش والارهاب . ومجيء ( حمامة ) الى هذا الزقاق والبيت , من اجل استخراج السر الدفين في احدى جدران البيت ,وهو مذكراتها اليومية عن حبها المفجوع , سجلته على الاوراق واشرطة الكاسيت . وحين وجدت ( حمامة ) بأن الشاعر ( حزين ) لايكف عن ملاحقتها بالسؤال , وبما أنه يملك نوايا صادقة , وكان في كل مرة يردد بإصرار حين يراها ( ردي حمامة ….. ارجوكِ ) ص60 . فوقفت أمامه وقد رضخت له فقالت ( أحقاً تريد الجواب .. يا حزين ؟ أمستعد لما ستكتشف؟
فقال لها ( نعم . . بكل جوارحي
– بكل جوارحك ؟ أهذا عهد لا تراجع عنه ؟
– نعم : قالها باصرار )ص61 .
عندها سمحت له بالدخول الى البيت والى غرفتها وطلبت منه الاطلاع على الاوراق وشريط المسجل , وذهبت هي تعد له القهوة . وانخرط في قرائتها والاطلاع عليها . واصابه الحزن والالم وهو يطلع على السر الدفين , بقصة حب حزينة جداً التي انتهت الى مأساة , قصة حب ( مريم ) واغتيال زوجها ( وليد ) , وخرج من بيت ( حمامة ) في حالة الذهول والحيرة والحزن ( خرج حزين تاركاً بيت حمامة كالمسحور ذاهلاً , ومتذبدباً , ومشوشاً , خرج والصورة التي ألتقطتها عينيه , قبل خروجه تستقر على المسجل والاوراق والمنضدة واكواب القهوة وحزن حمامة ) ص92 . واتفق مع ( حمامة ) بعد ذلك على طبع ونشر قصة الحب الحزينة ليطلع الناس عليها , وعلى بطش النظام الساقط بأن ( وليد لم يمت . بل لن يموت . وليد يعيش في ذاكرة الاجيال . يعود الى جيل جديد يتخذ من كلماته هداية ليومهم ومسيرتهم , يرون فيه الرجل الذي لم يهادن على المبادئ , ولم يتخلَّ يوماً عن البصرة والعراق ….. يستذكرون قوله : الاقدام صفة من صفات الشجعان , شرط أن يتحلوا برجاحة العقل , وإلا كانوا حمقى. كان وليد راجح العقل قوي الشكيمة ) ص119 . لهؤلاء الشجعان هم شهداء العراق ونجومه المضيئة , هم نوارس الحرية في ساحة التحرير . والحياة تؤكد بديهية ناصعة البياض وبيقين الحقيقة, أن البطش لن يدوم , والطغاة مصيرهم مزبلة التاريخ .
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here