مبدأ الإقتناع القضائي بالدليل الإلكتروني

مبدأ الإقتناع القضائي بالدليل الإلكتروني

د. ماجد احمد الزاملي
مما لا شك فيه أن موضوع الإثبات بالدليل الإلكتروني كأحد أدوات الإثبات في المسائل الجزائية واحد من الموضوعـات الهامة، وتستمد أهميتهـا من مبدأ التطور المستمر الذي يحظى به الدليل الإلكتروني وأدوات استخلاصه من أجهزة الحاسب الآلي.لــم يكــن لإرتبــاط الجريمــة المعلوماتيــة بالحاســب الآلــي أثــره علــى تمييــز الجريمــة المعلوماتية عن غيرها من الجرائم التقليدية فحسب، وإنمـا كـان لـه أثـره فـي تمييـز المجـرم المعلومـاتى عـن غيـره مـن المجـرمين العـاد يين الـذين جنحـوا إلـى السـلوك الإجرامـــي النمطـــي. لأنّ تنفيذ الجريمة المعلوماتية يتطلب قدرًا مـن المهـارة يتمتـع بهـا الفاعـل، والتـي قـد يكتسـبها عـن طريـق الدراسـة المتخصصـة فـي هـذا المجـال، أو عـن طريـق الخبـرة المكتسبة في مجال التكنولوجيا، أو بمجرد التفاعل الاجتمـاعي مـع الآخـرين، وهـذ ه ليست قاعدة في أن يكون المجرم المعلوماتى على هذا القدر من العلم ، وهذا ما أثبتـه الواقـع العملـي أن جانـب مـن انجـح مجرمـي المعلوماتيـة، لـم يتلقـوا المهـارة اللازمة لارتكاب هذا النوع من الإجرام المعلومـاتى. فالدليل مهما تقدمت طرقه وعلت قيمته العلمية أو الفنية في الإثبات، فلا يكتمل دوره إلاّ بوجود قاضِ جزائي يتمتع بسلطة تقديرية واسعـة لازمة لتنقية الدليل الإلكتروني من أي خطأ أو محاولة غش أو خلط، وكذلك تظهر أهميـة السلطـة التقديرية لجعل الحقيقة العلمية حقيقة قضائية، فالحقيقـة تحتاج لدليل لإثباتها، ومهمـا كانت تلك الحقيقـة أو أداة استخلاصها قابلة للتطور، أي كانت في حاجة دائما ليستمر في ممارسة دوره كأداة فالدليل الذي تقوم به لابد وأن يكون هو الآخر متطورا لإثبات الحقيقة، وبالتالي تطور وسائل استخلاصه.حيث يلعب علم الكمبيوتر دوراً مهماً في تقديم المعلوما ت الفنيـة التـي تسـاهم فـي فهم مضمون وهيئة الدليل الرقمي، وهذه العلـوم لا يسـتعان بهـا فـي كشـف مـدى التلاعب بمضمون هذا الدليل، وتبدو فكرة التحليل التناظري الرقمـي مـن الوسـائل المهمـة للكشـف عـن مصـداقية الـدليل الرقمـي، ومـن خلالهـا تـتم مقارنـة الـدليل الرقمي المقـدم للقضـاء بالأصـل المـدرج بالآلـة الرقميـة، ومـن خـلال ذلـك يـتم التأكـد من مدى حصول عبث في النسخة المستخرجة أم لا. إنَّ تسارع إيقاع التقدم التكنولوجي والتقني الهائل ، وظهور الفضاء الإلكتروني ووسائل الاتصالات الحديثة كالفاكس والإنترنيت وسائر صور الاتصال الإلكتروني عبر الأقمار الصناعية كانوا وسيلة استغلها مرتكبوا الجرائم الإلكترونية، في تنفيذ جرائمهم التي لم تعد تقتصر على إقليم دولة واحدة، بل تجاوزت حدود الدول ، وهي جرائم مبتكرة ومستحدثة تمثل ضربا من ضروب الذكاء الإجرامي، استعصى إدراجها ضمن الأوصاف الجنائية التقليدية في القوانين الجنائية الوطنية والأجنبية. ومن حيث ما يرتبط بهشاشة نظام الملاحقة الإجرائية التي تبدو قاصرة على استيعاب هذه الظاهرة الإجرامية الجديدة، سواء على صعيد الملاحقة الجنائية في إطار القوانين الوطنية أم على صعيد الملاحقة الجنائية الدولية، مما أوجب تطوير البنية التشريعية الجنائية الوطنية بذكاء تشريعي مماثل تعكس فيه الدقة الواجبة علي المستوى القانوني وسائر جوانب وأبعاد تلك التقنيات الجديدة، بما يضمن في الأحوال كافة احترام مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من ناحية، ومبدأ الشرعية الإجرائية من ناحية أخرى ، وتتكامل فيه في الدور والهدف مع المعاهدات الدولية. فقد استطاع الجناة تطوير طرق الإجرام على هذا النحو من التقنية العالية في بيئة تكنولوجيا المعلومات لذلك عملت الدول على تطوير تشريعاتها لمواجهة هذا النمط الجديد من الجرائم وبالتالي تطوير وسائل الإثبات بما يواكب هذه الطفرة التي حدثت على مستوى الإجرام، وما يستلزمه ذلك من ضرورة قبول الأدلة الناتجة عن هذا التطور ومن أهمها الدليل الإلكتروني. وعليه، فلقد كان من الطبيعي أن يصاحب هذا التطور الإجرامي تطورا مماثلا له على مستوى تقنيات عمل أجهزة البحث والتحقيق في الكشف عن هذه الجرائم وفي الحصول على الأدلة الإلكترونية لإثباتها ومعاقبة مرتكبيها.أن الفحص الجزئي يؤدي إلى التعرف على محتوى البيانات ثنائية الرقم والتي يؤدي التعامل معها إلى الكشف عن القيمة الاستردادية للبيانات المخزونة فيه سواءً كانت محتويات مكتوبة أو صور أو أصوات… الخ، وكذلك ما تم تخزينه من بيانات وبرمجيات. ونتيجة تعدد الترجمات تعددت التعاريف كذلك، ومن أبرز تعريفاته هي التي جاءت في الموسوعة الشاملة لمصطلحات الحاسب الإلكتروني ، حيث جاء فيها: بأنه “جهاز إلكتروني يستطيع ترجمة أوامر مكتوبة بتسلسل منطقي لتنفيذ عمليات إدخال بيانات، أو إخراج معلومات وإجراء عمليات حسابية أو منطقية، كما يقوم بالكتابة على أجهزة الإخراج أو التخزين، ويتم إدخال البيانات بواسطة مشغل الحاسب عن طريق وحدات الإدخال، مثل لوحة المفاتيح أو استرجاعها من خلال وحدة المعالجة المركزية التي تقوم بإجراء العمليات الحسابية وكذلك العمليات المنطقية، وبعد معالجة البيانات تتم كتابتها على أجهزة الإخراج مثل الطابعات أو وسائط التخزين المختلفة”. و النظام المعلوماتي للحاسوب لا يحتوي على معلومات كما يعتقد الكثيرون، وإنما المحتوى المعلوماتي يتكون من بيانات ثنائية الهيئة الرقمية (0-1)، يتم إيداعها في الحاسوب، هذا الإيداع يأخذ شكل تخزين، وهذه البيانات يقوم الحاسوب بمعالجتها ويبرزها على هيئة معلومات محددة، حين يتم استدعاؤها من قبل الغير أو أي مستخدم للحاسوب، ومادام لم يتم استدعاؤها فإنها تبقى مخزنة فيه، وطرائق التخزين متعددة إذ يمكن أن تكون عملية الحفظ بطريقة عادية كما يمكن أن تتم باستعمال كلمات المرور أو حاجز المرور السري. أن الحصول على الدليل الإلكتروني يطرح مجموعة من الصعوبات والمشاكل التي تعيق عمل أجهزة البحث والتحقيق في ضبطه، أيضا هذا الدليل الإلكتروني فرض تطوير إجراءات البحث والتحقيق بمفهومها التقليدي وجعلها قادرة على التكيف والتطبيق على هذا النوع الجديد من الجرائم، وضبط أدلتها، الشيء الذي حتّم على هذه الأجهزة التعامل مع إجراءات فنية حديثة من نفس الطبيعة التقنية للفعل الجرمي، فكانت أن ساعدتهم في تحرياتهم بخصوص التثبت من هذه الجرائم والحصول على أدلتها الإلكترونية، إلا أنها هي الأخرى لم تسلم من التشكيك فيها وفي قدرتها على التوصل إلى الحقيقة.
إن الـدافع لارتكـاب جـرائم الكمبيـوتر يغلـب عليـه الرغبـة فـي قهـر النظـام أكثـر مـن شـهوة الحصـول علـى الـربح، ويميـل مرتكبـوا جـرائم نظـم المعلومـات إلـى إظهـار تفـوقهم ومسـتوي ارتقـاء بـراعتهم لدرجـة أنـه إزاء ظهـور أي تقنيـة مسـتحدثة فـإن مرتكبــوا هــذه الجــرائم لــديهم شــغف الآلــة يحــاولون إيجــاد – وغالبــاً مــا يجــدون الوسيلة إلى تحطيمها بل والتفوق عليها. ويتزايد شيوع هذا الـدافع لـد ى فئـات صـغار السـن الـذين يمضـون وقتـاً طويلاً أمـا م حواسبهم الشخصية في محاولة لكسـر حـواجز الأمـن لأنظمـة الكمبيـوتر وشـبكات المعلومات وإظهار تفوقهم على وسائل التكنولوجيا، الأمر الـذي دفـع بالعديـد مـن الفقهـاء إلـى المنـاداة بعـدم مسـائلة مرتكبــي جـرائم الحاسـب الآلـي الـذي يتمثــل باعثهم في إظهار تفوقهم، واعتبار أعمالهم غير منطوية على نوايا مُجَرَّمة. وقد أمكن الكشف في بعض الأحوال عن أن مجرد إظهار شعور جنون العظمة هـو الدافع لارتكاب فعل الجريمة المعلوماتية ، وفي هذا الشـأن نجـد المحلـل أو المبـرمج المعلوماتي هو مفتاح سر كل نظام قد ينتابـه إحسـاس بالإهمـال أو الـنقص داخـل المنشأة التي يعمل بها وقد يندفع تحت تأثير الرغبة القوية من أجل تأكيد قدراتـه الفنيـة لإدارة المنشـأة إلـى ارتكـاب الجريمـة المعلوماتيـة، ومـن ثـم يجـد ترضـية مـن خلال الإفصاح عن شخصيته أمام العامة. وإذا كانت الأدلة المتحصلة عن الوسائل الإلكترونية قد توجّس منها كل من القضاء والفقه خيفة من عدم تعبيرها عن الحقيقة نظراً لما يمكن أن تخضع له طرق الحصول عليها من التعرض للتزييف والتحريف والأخطاء المتعددة ، فإنه ذلك قد تطلب وجوب توافر مجموعة من الشروط التي قد تضفي عليها المصداقية.
الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني تهدف إلى خلق بيئة سيبرانية آمنة وصلبة تساعد على تمكين الأفراد من تحقيق طموحاتهم، وتُمكِّن الشركات من التطور والنمو في بيئة آمنة ومزدهرة. تم إطلاق النسخة المحدثة من الاستراتيجية في عام 2019 من قبل الهيئة العامة لتنظيم قطاع الاتصالات، وهي الجهة المعنية في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمسؤولة عن التحول الإلكتروني والذكي في الدولة. تهدف الاستراتيجية إلى دعم معايير الأمن الإلكتروني عِبر آليات ومحاور مختلفة، مع تحفيز إيجاد شركات محلية ناشئة في القطاع، وتطوير بيئة الأمن السيبراني. تم تطوير الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني بناءً على تحليل أكثر من خمسين مصدراً من المؤشرات والمنشورات العالمية، والعمل مع فريق من الخبراء العالميين، وإجراء مقارنة معيارية مع عشر دول رائدة في مجال أنظمة الأمن السيبراني.
الدليل الإلكتروني بصفته دليل معلوماتي يحتاج للبيئة التقنية ليتكون فيها، وعليه فما ينطبق على الأدلة العلمية يُطبَّق على الإلكترونية منها ، إذ يخضع كلاهما لاختبار تجاوبه مع الحقيقة كاملة تطبيقا لقاعدة أن القانون مسعاه العدالة أو العلم فيهدف للحقيقة. وتلك الطبيعـة تقتضي وجود التوافق بين الدليل والبيئة التي ينشأ فيها، فلا يمكن للتقنية إنتاج دليل مادي مثل بصمة الإصبع أو الشهادة، ولكن ما تنتجه الأجهزة الإلكترونية نبضات رقمية لا يمكن أن تتواجد خارج البيئة التقنية أي العالم الإفتراضي مثل شبكات الإنترنت والأقراص الصلبة والمرنة والخوادم وغيرها. إذ يضم الدليل الرقمي العديد من الأشكال وأنواع البيانات الرقمية الممكن نقلها إلكترونيا ,وتكون الأدلة رابط بينها وبين الجريمة وتتصل كذلك مع الضحية والجاني(1). فالدليل الإلكتروني بتلك الخاصية تجعله متغير الشكل والنوع فيمكن أن يكون بيانات غير مقروءة من خلال ضبط مصدر الدليل كما هو شأن أنظمة المراقبة من خلال الشبكات والخوادم والملقمات، وقد يكون في صورة بيانات مقروءة مثل الوثائق الإلكترونية والتوقيع الرقمي أو تسجيلات مرئية وسمعية أو مرفقات مخزَّنة في بريد إلكتروني، وهذا التنوع يؤدي لإتساع شاكلة الدليل الإلكتروني بحيث يمكن لهذا التنوع في البيانات الرقمية أن يسد فجوة متسعـة في مجال الأدلة الجنائية.
أن التشريعات التي تتبع المنهج الأنجلو أمريكي تذهب إلى تطبيق قاعدة أفضل دليل(2) ، والتي تتطلب بالضرورة تقديم أصول المستند وعدم الإكتفاء بنسخة عنه، والمقصود بقاعدة أفضل دليل أنه في حال تم تقديم دليل كتابي، فيعتد بالنسخة الأصلية للمستند ، وبالتالي يمكن اعتبار الكتابة الموجودة على قرص الحاسب الآلي في صورتها الكهرومغناطيسية هي النسخة الأصلية، وبالتالي لا يصطدم مع قاعدة أفضل دليل، ويعتد حينذاك بالمحررات الإلكترونية باعتبارها نسخة أصلية. تنظر للأدلة بالمواد الجنائية كبنيان متكامل تستند جميعها للبعض، إضافة لهذا فالمحكمة عموما فحتى في نظام الإثبات المقيد الذي قد يضطلع بأدوات إثبات ُمحددة كالإعتراف مثالاً فالقاضي لا ينظر فيه للاعتراف فحسب بل يجب أن تكون كافة الأدلة في مجموعهـا مؤيدة لما قصده الحكم منها وتتجه لإقتناع المحكمة واطمئنانها لما انتهت إليه من نتيجة. فالدليل الإلكتروني عادة ما يكون حصيلـة إجراءات تفتيش للحاسب الآلي من قبل رجال الضبط القضائي وبصحبـة خبراء معينين تتوافر بهم شروط الحيادية والإستقلال والنزاهـة وأن من المهنية، وطالما أن التفتيش صحيحاً يكونوا على درجة عالية وبواسطة خبراء فيمكن اعتماد الدليل.
وبالعودة للدليل اإللكتروني من حيث حجيته الإثبات، ووفقا لأحكام التشريع الإماراتي، فقانون الإثبات الإماراتي قد أعطى الدليل الإلكتروني الحجية الكاملة في الإثبات وساوى بينه وبين الدليل العادي، وكذلك وبالعودة لقانون المعاملات الإلكترونية، نرى أنه قد أعطى السجلات الإلكترونية الحجية الكاملة للأصول الورقية ذاتها، ولكن في إطار شروط معينة يجب أن تتوافر مجتمعـة بالسجل الإلكتروني ليكون ذو حجية معادلة للدليل الورقي. كما أن الدليل الإلكتروني وبعد مواجهـة الُجناة به واعترافهم بناءً على تلك المواجهـة يشكل اقتران مع الإعتراف كواحد من أهم أدلة الإثبات، وبالتالي تكون له حجية قوية لا تتطلب الخوض في حجج الخصوم والرد عليها، ويكفي وقتها ما اقتنعت به المحكمة، وقد جاء بأحد أحكام الطعن الجزائية ما يلي(3): وجاء بالدعوى أن فهم الواقع في الدعوى وتقدير أدلتها والموازنة بينها موضوعي بالاعتبار، كما أن المحكمة غير ملزمة متى كان سائغا وترجيح ما تراه المحكمة راجحا وجديرا بتتبع أقوال الخصوم في مختلف حججهم للرد عليها، كفاية تبين الحقيقة التي اقتنعت بها المحكمة، وواحد من أهم الأدلة بتلك الدعوى هو وحسب ما جاء بالنص: “المستندات ومنها الرسائل المتبادلة بين المتهم (الطاعن) والشخص الموجود خارج الدولة، والإتصالات الهاتفية” …. فبعد مواجهة المتهمين بتلك التسجيلات والحصول على الإعتراف منهما، أصبح الدليل الإلكتروني الممثل في الرسائل الإلكترونية والإتصالات الهاتفية دليل لا يقبل الشك.
—————————————-
1-الخبير/ عبد الناصر محمد محمود فرغلي و د. محمد عبيد سيف المسماري: الإثبات الجنائي بالأدلة الرقمية من الناحيتين القانونية والفنية ,دراسة تطبيقية مقارنة، المؤتمر العربي الأول لعلوم الأدلة الجناية والطب الشرعي، المقام جامعـة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
د. شيماء عطا هللا: الحماية الجنائية للتعاملات الإلكترونية، ، ص395. 2-
3-الطعن رقم 764 لسنة 2014 س 8 ق. أ جزائي، جلسـة 19/11/2014

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here